Print
ليندا نصار

محمد بنيس: الشعر يظل ضروريًا لحياتنا مثل المعارف الأخرى

24 يونيو 2020
حوارات
يمثل محمد بنيس حالة شعرية قائمة بذاتها في حداثة الشعر العربي، وأسهم بكتاباته وترجماته وأشعاره في جعلنا نعمق وعينا بالحدود التي تتأسس عليها شعرية الكتابة. وهو يرى أن للشعر أسرارًا كبرى لا ندركها تمامًا ويكاشفنا في هذا الحوار بـ"حقيقة القصيدة" بوصفها "مختلفة تمامًا. فهي تنقل علاقتنا بالعالم ووجودنا فيه من بلاغة البداهة إلى بلاغة الحيرة، ومن بلاغة المعلوم إلى بلاغة المجهول، ومن بلاغة النهائي إلى بلاغة اللانهائي..".

حاز بنيس عددًا من الجوائز أهمها: جائزة المغرب للكتاب عام 1993، وجائزة كالوبيتزاتي (إيطاليا) لأدب البحر الأبيض المتوسط عام 2006 عن ديوانه "هبة الفراغ" في ترجمته الإيطالية من طرف فوزي الديلمي عام 2000، وجائزة الأطلس الكبير في الرباط عام 2000، وجائزة العـويس وجائزة فيرونيا العالمية للآداب عام 2007، والجائزة المغاربية للثقافة (تونس) عام 2010، وجائزة تشيـبو العالمية للآداب من أكاديمية بيستويا Pistoia (إيطاليا) عام 2011، وجائزة ماكس جاكوب للشاعر الأجنبي (فرنسا)، وجائزة المنتدى الثقافي اللبناني في فرنسا للإبداع العربي (باريس) عام 2018، ووشحته الدولة الفرنسية عام 2002 بوسام فارس الفنون والآداب، ووشحه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بوسام الثقافة والإبداع والفنون عام 2017.
وراكم بنيس عددًا من الإصدارات في النقد والترجمة والشعر منذ عام 1972 إلى الآن. وصدر له في الشعر: "ما قبل الكلام"، و"شيء عن الاضطهاد والفرح"، و"وجه متوهج غبر امتداد الزمن"، و"في اتجاه صوتك العمودي"، و"مواسم الشرق"، و"مسكن لدكنة الصباح"، و"ورقة البهاء"، و"هبَة الفراغ"، و"كتاب الحب" (عمل شعري ـ فني مشترك مع الفنان العراقي ضياء العزاوي)؛ و"المكان الوثني"، و"نهر بين جنازتين"، و"نبيذ"، و"هناك تبقى"، و"سبعة طيور"، و"هذا الأزرق"، و"يقظة الصمت".
أما في الدراسات النقدية فصدرت له عدة كتب منها "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب"، و"حداثة السؤال"، و"الشعر العربي الحديث- بنياته وإبدالاتها" (أربعة أجزاء)، و"كتابة المحو"، و"الحداثة المعطوبة"، و"الحق في الشعر". وفي الترجمات: "الاسم العربي الجريح" لعبد الكبير الخطيبي، و"الغرفة الفارغة" لجاك آنصي، و"هسيس الهواء" و"طريق المداد"، و"كتاب النسيان" و"الموجز في الإهانة" لبرنار نويل، و"قبر ابن عربي، يليه آياء"، و"أوهام الإسلام السياسي" لعبد الوهاب المؤدب، إلى جانب ترجمات لمالارميه وجورج باتاي وأخيرًا لميشيل دوغي. 
هنا حوار معه:




الكتابة بلاغة مضادة..
(*) تأسس ديوان "يقظة الصمت"، الصادر مؤخرًا، على بلاغة الكتابة التي نظَّرت لها من داخل العمل الشعري بوصفها بلاغة مضادة. ما حدود هذه البلاغة التي تنهل من المعرفة الشعرية ومن تاريخ الشعريات المجاورة في مصادرها الكونية؟ وهل يمكن أن يتحول الصمت إلى فعل لمقاومة الأعطاب الفكرية أو ما سميته "الحداثة المعطوبة" عبر ما هو شعري؟ وكيف يمكن للشاعر محمد بنيس عبر الكتابة أن يصب العالم في قلب المعنى بقوة الحيرة؟
- كنت في سنة 1981 أصدرت نصًا مطولًا يحمل عنوان "بيان الكتابة". أتت كتابة هذا البيان إثر إنجازي دراسة "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب"، التي هي دراسة جامعية، ونشرت كتابًا في بيروت عن دار العودة سنة 1979. فما كنت استخلصته من الدراسة، من طبيعة الشعر المغربي المعاصر آنذاك، وما كنت أقبلت على دراسته في الثقافة الفرنسية، التي كان تصور الكتابة أحد مرتكزاتها النظرية، وما أفدته من ترجمتي لكتاب "الاسم العربي الجريح"، كلها وجهتني نحو اعتبار الكتابة ممارسة شعرية من خارج تصور الأدب، القائم على البلاغة.
نعم، الشعر العربي الحديث اعتمد بلاغة الغموض، متعارضًا مع بلاغة الوضوح التي شكلت أساس البلاغة التقليدية، لكن الكتابة بلاغة مضادة، بمعنى أنها تعيد النظر في أساسيات التصور المتداول للقصيدة. من هنا كنت كتبت في "البيان" أن الكتابة شبح بالنسبة لمن لا يعرفونها. فهي ممارسة نقدية لها الشمول. أو هي، بعبارة أخرى، مغامرة، بمعنى النزول إلى الغمر، إلى الماء الجارف.
شعرية الكتابة تعي بحدودها الجديدة، لكنها مترسخة في تاريخها، عربيًا وكونيًا على السواء. فلا يمكن لأي كتابة شعرية عربية أن تكون فاعلة إن هي كانت من خارج الشعرية العربية القديمة، كما لا يمكنها أن تكون من داخلها. شعرية الكتابة تختار الإقامة على الحدود، بين داخل وخارج الشعرية العربية القديمة. هي عربية تعتمد الغريب، مثلما كان أبو تمام يعتمد الغريب في كتابة قصيدته. وما أقوله عن أبي تمام، وهو رأس مدرسة شعرية قائمة الذات، يمكن أن ينطبق على شعراء عرب آخرين. لذلك فإن ما مارسته في كتابة القصيدة، ابتداء من ديوان "مواسم الشرق" (وبعض قصائده نشر آنذاك في مجلة "مواقف") هو برأيي ترجمة حديثة للشعرية العربية التي كانت منفتحة على الثقافة الكونية لزمنها.


أما الصمت، فأنا جعلت منه صديقًا، منذ فترة الشباب، وكنت باستمرار أحاول أن أفتح حوارًا معه. لذلك يحضر الصمت في دواويني، على أنني عشت معه بعمق أكثر في ديوان "هبة الفراغ"، ولم أتخل عن مصاحبته. وقد فرض عليّ نفسه في المرحلة الأخيرة واستبد بالقصيدة. حاولت، في ديواني الأخير، أن أنصت إلى ما يقوله الصمت في زمن الضجيج. إنه زمن الرجات الكبرى، التي تنقلنا من وضعية إنسانية إلى وضعية أخرى مختلفة، لا أدري ما ستكون عليه. لكني أرى أن للشعر أسرارًا كبرى، لا ندركها تمامًا. فالقصيدة، بالنسبة لي، ليست تعليقًا على الأحداث، بل هي تمتلك معرفتها الخاصة بها، وبطريقتها الشعرية. من هنا أقول: نعم، إن الصمت مقاومة لا فقط للحداثة المعطوبة (العربية) بل هي مقاومة لزمننا، زمن التوحش الذي يريد أن يحول العالم إلى إسطبل للحيوانات أو إلى قمامة النفايات. وقد جاءت جائحة كورونا لتظهر لأبناء الأرض جميعًا أن مأساة البشرية محجوبة وراء ستار ثقافة الإعلام والاستهلاك. ولي الحيرة في الكتابة والحيرة في القصيدة. لا تعطينا القصيدة طريقًا كبرى نسلكها للوصول إلى حقيقة ما نحن وما هي الأشياء معنا وما هو الكون حولنا. حقيقة القصيدة مختلفة تمامًا. فهي تنقل علاقتنا بالعالم ووجودنا فيه من بلاغة البداهة إلى بلاغة الحيرة، ومن بلاغة المعلوم إلى بلاغة المجهول، ومن بلاغة النهائي إلى بلاغة اللانهائي. فنحن مع الشعر لا ننتقل من المعلوم إلى المعلوم، بل من المعلوم إلى المجهول. والبلاغة المضادة هي كيف تبدع القصيدة مجهولها، أو كيف تجعل من المجهول لانهائيًا. هكذا تكون القصيدة في الكتابة نشيدًا له معرفته الخاصة بالعالم، ومن هنا يصبح الشعر ضروريًا لحياتنا (المتعددة) مثلما هي المعارف الأخرى ضرورية. 

      

(*) كيف يؤول الشاعر بنيس ثقل المعنى وخفة الوجود ومساحات الصمت الداخلي؟
- أنا كشخص لا أقوم بوظيفة التأويل، القصيدة هي نفسها التي تقوم بها. فالكتابة لا تصدر عن معنى قبلي، جاهز، محفوظ في كتاب، كما هو الأمر، مثلًا، بالنسبة للتصوف الذي يصرح بأنه يصدر عن المعلوم، الثابت، المؤكد في القرآن والسنة. لا، أبدًا. على ذلك أقول بأن ثمة في الثقافة العربية اليوم التباسًا في علاقة الشعر مع التصوف. فغالبًا ما يكتفي الشاعر، الذي ينجذب إلى فضاء التصوف، بإعادة كتابة الخطاب الصوفي دون أن يستوعب الفرق اللازم بين الشعر والتصوف. ولو كان يمكن للشعر أن يصبح خطابًا صوفيًا، كما هي الحال في الكتابة الصوفية، لبطل الشعر وبطل فعله. 



لا أتخلى عن مأساة 
فلسطين في كتاباتي
(*) تقول في قصيدة "أرض بدماء كثيرة": "في الجهة المقابلة غرباء يرفعون الأنخاب/ ويتبادلون الهدايا على أرض فلسطين/ آخرون في أمكنة لا أحد يراها يتفجعون لأجل غزة بدماء كثيرة".. هل يمكننا أن نغامر ونقول إنها قصيدة الموقف تجاه قداسة القضية أم هي قصيدة لكتابة الفاجعة؟
- قصيدة "أرض بدماء كثيرة" موجهة لزمننا وعالمنا. كتبتها بعد مذبحة رد بها الجيش الإسرائيلي على وقفة الشبان الفلسطينيين أمام الجدار العازل، وبعد تدشين السفارة الأميركية. جرائم إسرائيل لا تتوقف. وفلسطين، اليوم، هي بؤرة ما يتم في العالم، من حيث سحق القيم الكبرى في تاريخ البشرية، قيم الحرية والعدل والمساواة والأخوة والتضامن والحب، وسواها. أصبحت المصالح جدارًا فاصلًا بين البشرية والقيم الإنسانية الكبرى. والدم هو العنصر المادي الذي لا يكذب، به تُكتب مأساة فلسطين، وبه تُكتب مأساة عالمنا.
مأساة فلسطين كانت حاضرة على الدوام في كتاباتي، لا أتخلى عنها. والكتابة سمحت لي، في هذه القصيدة، مثلما سمحت لي في قصائد أخرى، أن أقترب من المأساة الفلسطينية في زمن أصبح فيه الفلسطينيون معزولين، وأصبح دمهم مهدورًا أمام العالم، ولا أحد يقول "لا". هؤلاء الغرباء هم الذين أتوا من خارج فلسطين واحتلوا الأرض وطردوا الشعب وهدموا البيوت، وهم الذين دشنوا السفارة الأميركية في القدس ورفعوا الأنخاب.  ما يحدث في فلسطين فاجعة بالغة الرعب. والقصيدة موقف، عبر الكتابة، تجاه الفاجعة التي لا ندركها، بسبب الأقنعة التي تخفي وجهها المرعب. يعني الموقف عبر الكتابة وفي الكتابة أن كتابة القصيدة تبدأ من جديد، ولا تبدأ لتنتهي. بمعنى أننا مع الكتابة لا ننقل حدثًا خارجيًا ونتخلص منه بمجرد الانتهاء من كتابة القصيدة. فالانتهاء من كتابة القصيدة إعلان عن البدء في كتابتها من جديد، هي العود، الذي يعود، دائمًا. وهذه هي علاقة كتابتي مع فلسطين لا عنها. أنتهي من كتابة قصيدة لأعود إلى الكتابة. هي عودة لاستكشاف جذور المأساة، التي أرادوا لها أن تظل محجوبة بالأقنعة الألف.

(*) شكل صدور أعداد مجلة "الثقافة الجديدة" التي كنتم تشرفون على إدارتها منذ عام 1974 حدثا ثقافيًّا بارزًا لما كانت تحتله هذه المجلة من موقع ريادي على مستوى الانفتاح على المفاهيم التي تمخضت عنها حداثات متعددة. هل هذه العودة إلى "الثقافة الجديدة" هو نوع من النوستالجيا أم رغبة في مدّ الأجيال الجديدة بالأسس التي أسهمت في بناء المعرفة في ضوء الواقع واستلهام رؤى فكرية متجددة؟
- مجلة "الثقافة الجديدة" كانت صدرت في المغرب من 1974 حتى 1984، وقد تم منعها من طرف وزارة الداخلية آنذاك إثر الأحداث التي اندلعت في عدة مدن مغربية ابتداء من يوم 19 يناير/كانون الثاني. وكان الشاعر الصديق محمود درويش استضاف العدد 31، في مجلته "الكرمل". والآن، بعد مرور45 سنة على صدور عددها الأول، قمت ضمن جمعية "أصدقاء الثقافة الجديدة" بجمع الأعداد وإعادة إصدارها في طبعة ورقية راقية وفية للأصل.


إصدار طبعة ورقية لمجلة "الثقافة الجديدة" (في ثمانية مجلدات مع ملحق) حق في الذاكرة الثقافية، التي لا بد من الحرص عليها في زمن أصبحنا نتخلى عن ذاكرتنا الثقافية الحديثة. فهذه المجلة كان لها دور تأسيسي في تحديث الثقافة المغربية والسعي إلى نشر الجديد مقابل القديم الذي كان ضاغطًا علينا. ثم إن هذه الطبعة موجهة نحو المستقبل، أي أن فعل المجلة لم ينته مع منعها ومع مضي الزمن على وجودها، بل هي مشروع مفتوح على المستقبل، يتجدد مع توالي الأيام والقضايا والرؤيات. ولا شك أن هدفنا البعيد هو ربط الصلة بين المجلة وبين الأجيال الشابة. لهذا قررنا إنشاء موقع إلكتروني للمجلة، وكلفنا بإدارته هيئة من الشبان، وسلمنا لهم مهمة التواصل مع الشبان العرب والمهتمين بالثقافة العربية في العالم. ونحن في جمعية "أصدقاء الثقافة الجديدة" سنظل حاضرين إلى جانب هؤلاء الشبان في حدود ما يطلبون منا، لأنهم هم الذين سيقومون برسم سياسية المجلة مستقبلًا، وسيقررون ما يشاؤون.    

 

(*) ألا يخفي صدور طبعة جديدة لأعداد هذه المجلة بعد 45 عامًا موقفا نقديًّا يروم نقد مآلات الثقافة في ظل سطوة الواجهات على مجابهة التسلط وكل أشكال الهيمنة؟ أم هي الحاجة المتواصلة لبيان الكتابة بوصفه فلسفة تخترق كل المسلمات الجاهزة؟
- لا أفترض شيئًا أكثر مما أشرت سابقًا إليه. للشبان أن يفعلوا ما يرونه مفيدًا ليكون لوجود المجلة معنى. لست أدري كيف ينظرون اليوم إلى "بيان الكتابة" وأنا لا أزعجهم بسؤال أو طلب. لكن، لا شك أن معنى إعادة إصدار المجلة، في نسختها الإلكترونية، يتحدد بثقافة المقاومة، بالثقافة النقدية للهيمنة التي تستحوذ على حياتنا العربية بطغيانها الذي له عدة أشكال، ومنها طغيان الإغراءات مقابل الاستسلام لتشويه وخيانة معنى الكلمات. نحن نعيش في زمن صعب جدًا، يتلازم فيه الديني مع الرأسمالي. مؤلم أن خيانة الكلمات لا تتوقف عند الكلمات بقدر ما تنقلنا من زمن التحرر إلى زمن استدامة الهيمنة. خرابنا في العالم العربي بلغ مدى لم نكن نتخيله. والعالم في كارثة متعاظمة. ثقافة المقاومة هي وحدها التي تبرر استئناف صدور المجلة، في صيغتها الإلكترونية. هذا ما أعتقد، وما نعتقد في الجمعية. 



(*) ماذا تعني القضية الفلسطينية إلى محمد بنيس اليوم تحديدًا؟
- أشرت في جواب سابق إلى أن علاقتي بالقضية الفلسطينية كانت مترابطة مع قراءاتي الأولى وتواصلت بدون انقطاع مع كتاباتي. وإذا كنت أشرت أيضًا إلى العزلة التي تعيشها القضية الفلسطينية عربيًا ودوليًا، فأنا أقصد أن أميركا كانت دائمًا مع إسرائيل وهي اليوم تساندها للقضاء على ما تبقى من فلسطين وفكرة إنشاء الدولتين. أما الأفظع فهو استعداد عدة دول عربية للتخلي النهائي عن الفلسطينيين مقابل الاعتراف الضمني أو العلني بإسرائيل، ومن ثم عدم الاعتراض على السياسة التي تمارسها بحقهم منذ نشأتها حتى اليوم، والمتمثلة في الإبادة العرقية والاغتيالات والاستيلاء على الأراضي وضم المستوطنات. ويبقى النفاق لعبة مفضلة لدى الأوروبيين كي يصلوا إلى الغنائم بأقل مجهود.   
وقد بادرت، مباشرة بعد الإعلان الأميركي عن الشروع في وضع الخطوط العريضة لصفقة القرن، إلى الاشتغال على كتاب عن فلسطين. قلت في نفسي: هذا أوان تنفيذ مشروع الكتاب. أنا الآن بصدد تهيئته، وأتمنى أن يصدر في بداية السنة القادمة. فلسطين بوصلتي في رصد مسار الهيمنة على العالم العربي. وهي تضيء لي الحاضر والمستقبل مثلما تضيء لي الماضي. وأتمنى أن يكون عملي الجديد رمز وفاء لفلسطين والفلسطينيين وكلمة على طريق الأخوة والتضامن.  

 

الترجمة حوار بين اللغات
(*) علاقتك بالترجمة ظلت متواصلة ومنسجمة مع رؤية فكرية عميقة تتصل بطبيعة الانشغالات الجمالية في مشروع محمد بنيس. وقد قمت مؤخرًا بترجمة مختارات من شعر ميشيل دوغي، أعطيتها عنوان "كالحب، كالحياة" وكتبت لها مقدمة مطولة، على الرغم من أنّكما من ضفّتين مختلفتين. فما هي الأمور المشتركة التي تلتقي بها معه على مستوى الشعر؟
- ميشيل دوغي شاعر فرنسي كبير، تتبعت إصداراته، الشعرية والنظرية أو النقدية، منذ الثمانينيات من القرن الماضي. فهو يجمع بين المعرفة الشعرية العميقة والثقافة الفلسفية العالية، بحكم تكوينه. وما كان يعنيني في أعماله هو حسه النقدي وصداميته. إنه من أهم شعراء ما بعد السريالية، بل هو مناقض لها ومتعارض معها. وأنا أيضًا لا أتوافق مع السريالية، المنتشرة بسماحة في الحركة الشعرية العربية. هذا موضوع يطول الحديث فيه. يتمثل حسه النقدي، وتظهر بالتالي صداميته، في بعده عن الدوغمائيات الشعرية كما في النظرية الشعرية التي بناها عبر امتداد ممارسته الشعرية.

وإلى جانب تتبع إصداراته، نشأت لي معه، في الوقت نفسه، صداقة شعرية من خلال مهرجانات دولية شاركنا فيها معًا. كان دائمًا قريبًا مني، يفاتحني في الشعر وفي كل مرة يتجدد الحوار بيننا. شعره صعب، وقد قام بعض الشعراء الأصدقاء اللبنانيين بمحاولة ترجمته ولكن بعضهم لم يقتنع بإمكانية تحقيقها.  كنت واعيًا بصعوبة ترجمته، كما كنت من قبل واعيًا بترجمة برنار نويل أو ستيفان مالارميه أو جورج باتاي. لكني أقدمت على ترجمة شعر ميشيل دوغي بكل حماس وأيضًا بعد قراءات عديدة لشعره ولكتاباته، وأفدت من حواري المتواصل معه. وبهذا كله، أظن أني قدمت ترجمة عربية لما اخترته له من قصائد تتميز بإمكانية قراءتها بالعربية، في لغة شعرية تحافظ على خصوصيات العربية فيما هي لا تخشى من استضافة المختلف والغريب. وعنوان "كالحب، كالحياة" الذي اخترته لها، وجد ارتياحًا كبيرًا في نفس ميشيل. وهذا معنى الترجمة القائمة على الحوار بين اللغات لا على هيمنة الواحدة على الأخرى، وخاصة الفرنسية التي كانت لهيمنتها على العربية الحديثة، على غرار هيمنتها على لغات العالم سابقًا، تأثير سلبي في اختيار نموذج التحديث. أما الاختلاف الثقافي، بما هو اختلاف يرتسم على طول ضفتي البحر الأبيض المتوسط، فقد كان حاضرًا في الحوار بيننا، إضافة إلى أنني تطرقت إليه في المقدمة، وخاصة إلى تبني ميشيل "ك" التشبيه عنصرًا محوريًا في شعريته. وهو مشترك ثقافي، لا بد من تمثله. عندما أتأمل ترجمتي لمنتخبات موسعة من شعر ميشيل دوغي يتضح لي أن ما هو مشترك بيننا في الرؤية إلى الشعري وفي نقد قيم الهيمنة في زمننا هو ما قدم لي العون على ترجمة أظن أنها كانت مفيدة لنا نحن معًا، كما كانت مفيدة لأصدقائنا المشتركين، لأنها أعطت الحوار بيننا طاقة من حيوية أتمنى أن تتسع مع الأيام.   

    

(*) في كتابك الصادر حديثًا "شطحات لمنتصف النهار" بلاغة استعادة الزمان والمكان وهي تقترب من السيرة الذاتية، حيث يتحول النص إلى وثيقة لذاكرة لا تمحى. ما الذي تغير في كتابة محمد بنيس بين الأمس واليوم؟
- "شطحات لمنتصف النهار" كان في الأصل صدر كمقالات في جريدة "الحياة" اللندنية، في بداية التسعينيات من القرن الماضي، ضمن الزاوية نفسها التي كان ينشر فيها كل من أدونيس ونزار قباني. كان لكل واحد منا يوم، وأظن أن نصوصي كانت تنشر يوم الثلاثاء أو الأربعاء. ثم بعد ذلك جمعتها في كتاب وصدرت عن المركز الثقافي العربي (بيروت ـ الدار البيضاء) سنة 1996. والآن أعدت نشره في طبعة جديدة عن دار توبقال بالدار البيضاء.
لهذا الكتاب، إذًا، تاريخ. كتبته وأنا لم أكن أعرف كل مرة ما الذي سأكتب. وقد عشت فيه تجربة كتابية متفردة، جعلتني أكون وجهًا لوجه مع الحديث الصعب، إن لم يكن المستحيل، عن حياتي. لذلك جاء الكتاب مطبوعًا بصيغة السيرة الذاتية، لكنها لم تكن تتبع الخط الاعتيادي للسيرة الذاتية. هي كتابة مع السيرة الذاتية وضدها في آن. ولا أعرف كيف أشرح هذه الوضعية، بل لا أعرف لماذا لم أقبل على كتابة سيرة ذاتية تحترم التسلسل الزمني للأحداث وتتركز في العلاقة مع الأشخاص ومع المحيط الاجتماعي الخاص. قادتني الكتابة في هذه النصوص إلى الكتابة عن علاقتي بالأحجار، إلى التأمل في التعب، إلى الوقوف عند السحاب. هذه بعض من الجوانب التي تشملها هذه الكتابة التي أظن أن من الصعب أن تخضع بيسر لتصنيف السيرة الذاتية، أو ربما كانت نموذجًا لم يقبل بعض نقاد السيرة الذاتية عليه.
كانت جريدة "الحياة" طلبت مني أن اكتب فيها، وحرضتني على أن أسلمها مقالة مرة كل أسبوعين. استقبلت طلبها بتردد ولكن عندما كتبت المقالات الأولى لاحظت أنها كانت ترحب بحريتي في الكتابة. وهو ما شجعني على استكشاف مناطق غامضة في حياتي، والانخراط في كتابة بدون بشروط. كان من الممكن لتلك الكتابة أن تغريني بالانحياز إلى أعمال نثرية. وعكس هذا التخمين، كانت نصوص "الشطحات" تزيد من تشبثي بالشعر، رغم أني عاينت بداية أفول الإقبال على الشعر، وتصاعد الأفول حتى أصبح اليوم غريبًا في أرضنا التي كنا نقول عنها إنها أرض الشعر.


ما كان حصل لي مع هذه النصوص النثرية هو نفسه ما كنت عشته مع إقبالي على إنجاز الدراستين الجامعيتين، "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" والشعر العربي الحديث". فيهما معًا كنت أتعلم معنى الشعر المغربي أو العربي، ولم يخطر على بالي أنني سأصبح ذات يوم ناقدًا. هما عملان قمت بهما لأني كنت عازمًا على التعلم، وكانت الجامعة مساعدة لي على ما أردت. ثم بعدهما انتهى أمر الدراسات، ولم أنقطع في فترة عن كتابة قصيدتي. والحصيلة، كما رأيتها في البداية وكما أراها حتى اليوم، هي أني سعيت إلى استكشاف أراضي الكتابة، عبر ممارسات مختلفة، حسب ما سماه أبو نواس "مضايق الشعر". وما تغير بين الأمس واليوم في كتابتي هو مضاعفة الجهد في عدم التسامح الإبداعي والمعرفي والأخلاقي مع نفسي، وفي الثورة على نفسي سهرًا على مقاومة ما يمنع عني حريتي.