Print
أسعد الجبوري

بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعر السوري بندر عبدالحميد

14 يوليه 2020
حوارات

لم يكن معه في تلك اللحظات غير دفتر قديم، جمعَ فيه ذكرياته بالحبر الأحمر، ومن ثم لصق على صفحاته الكثير من الصور الفوتوغرافية، بعد أن قام بنقلها من حائط غرفته الضيقة إلى سقف القبر الذي كان يتحصنُ به مع بعض الزجاجات المليئة بالسحر.
عندما مدّدنا إليه حبلًا لاستخراجه من بئر التراب ذاك، سرعان ما صاح بنا: أنا بندر، فأرجعوني إلى مكان إقامة في الأزقة الفرعية من شارع العابد، لأفيض خمرًا، وأستفيض بما أقدر عليه من الشعر، والنظر في مرآة من تخلفوا باللحاق بكأس الموت العظيمة هذي التي ما تزال بين أصابعي، حيث ما من مُستقرٍ للأرواح إلا هنا.
هكذا تحدثَ الشاعرُ السوري بندر عبد الحميد، وهو يحاولُ شق كيس النوم الذي كان بجوفه، من دون أن يوفق بالخروج من تلك الشرنقة التي تراكم عليها الرماد الأزرق.
كنا في وضع حرج إلى حد ما، حينما أدركنا عدم قدرتنا على تهريب الشاعر بندر من المقبرة، ومن قبلها من مستشفى المجتهد وسط العاصمة السورية دمشق.
آنذاك، نزلنا إليه على ظهر طائر (البسترنيك) الشبيه بالغرانيق، وطرحنا عليه السؤال الابتدائي قائلين:

(*) هل تصلحُ أخطاء الشاعر أن تكون قصيدة؟
أعتقد أن في ذلك الكثير من الصحة. وأخطاؤنا أهم من الخطايا التي تترتب علينا وجوديًا.

(*) وجوديًا! كيف يعني؟
أقصدُ أن يكون الشاعرُ أمام الباب لا خلفه بالضبط.

(*) هل الوجود أوقاتٌ متسارعة الذوبان كالزبد، بينما العدمُ ثابتٌ يمثلهُ أبو الهول على سطح التاريخ في رأي بندر؟
كل شيء خرافة بتفاصيل منتزعة من الأنفس البشرية في نهاية المطاف. هكذا كنتُ أعتقدُ.

(*) كم من الخطوات مشيتها للذوبان في الوقت؟
كثيرة جدًا. ولكنني ما زلت متمسكًا بعقارب الساعة، وحتى الأفول الأخير.

(*) هل كانت الرحلةُ من الشام إلى الله طويلةً في المساء؟
أجل. ورشيقةً كالغزالة. ومبلّلة كصوت الماء. ومدوّيةً مثل الريح.

(*) وحضرتَ احتفالات التغييب عن الأرض في المنزل وحيدًا؟
لم يكن في مقدوري أن أفعل غير ذلك. انكسر بي عقرب الزمن، فاحتضنتني المفاجأةُ ببرود. مثلما كانت حياتي إعلاناتٌ للموت والحرية والخمر والنوافذ المفتوحة، لا أكثر، ولا أقل.

(*) هل كان المشي في البرزخ دائريًا، شبيهًا بالطاحونة السوداء يا بندر؟
إنها مغامرات الأصابع والعيون على سكة حديد، وتثير في النفس الضحك حدّ الكارثة.

(*) هل الشعرُ، في رأيك، أملٌ من الآمال الهشة؟
الشعرُ تشويشٌ لا يليقُ بالشياطين وحدهم، وإنما بقوافل الملائكة، ممن رأيتهم يحملون الألواح الممهورة بأختام شعراء الأرض.

(*) هل يوجد في الأعالي شعراءٌ سماويون؟
هكذا حلُمتُ بهم وأنا أسجى تحت تراب مقبرة الغرباء في نجها بدمشق. ولكنني لم أرَ أحدًا منهم حتى الآن. فأنا جديد المثول في المثوى.

(*) هل يحلمُ الموتى على حدّ علمك؟
لم أستوعب استراتيجيات الموت، أو ما يحدث وراء تراب المدافن بعد، ولكن ما إن ارتدتني الغيبوبةُ الأولى قبل أن يتجثث جسدي إكلينيكيًا، حتى شعرتُ بأن ليس للموت أخوة.

(*) ولا ندامى؟
كنت أسمعُ عويلًا ونباحًا ودق كؤوس لندامى كانوا يستنشقون الخمور استنشاقًا في خمارتي الخاصة في جوف الشام.

(*) والآن.. أما من ساقٍ لك هنا؟
ثمة من أخبرني بأن تمديداتٍ تعدّ لربطي بشبكة من أنابيب السقاية الإلكترونية، حيث تُصب الكؤوس وتشرب الأنخاب عبر مشيمة طولها الأرضُ والخيال.

(*) تُمدّ من أجلك وحدك يا بندر؟
كلا. وإنما هي شبكةٌ تحيطُ بالشعراء والغواة حول العالم. كل شاعر يدخل الموت، يربط، فيندمج بنصوصه كما يريد ذلك الغاوون.

(*) ومن لا يحسن الشراب من الشعراء، كيف يكون وضعه؟
يتم تدريبهُ على الشراب، وتعلم السكر في القبر، كي يحسن التصرف بالخمر عند وصوله الجنات، ولا يثمل من أول كاس!

(*) كي يكون النصُّ جيدًا، كم نسبة الخمر التي تلزمه ليكون شعرًا؟
أن تتخطى النسبةُ تلك ما في النفس من نسب التصحر والترمل والعتمة.

(*) وهل يُنيرُ الخمرُ الإنسان، في رأيك؟
أجل. وربما يجعله سينما بالعديد من شبابيك التذاكر.

(*) كيف كانت المقاربة ما بين شعرك والأبعاد السينمائية التي سبق لك أن انهمكت في عوالمها من خلال عملك الصحافي؟
حاولتُ التجريب في خلق حالة من الانتداب المباشر ما بين الشعر وبين السينما. ثمة سلطة للصورة، وثمة تحايل شعري على السينمائي، ليتداخل الاثنان ببعضهما لصناعة الصورة.

من مؤلفات بندر عبدالحميد الشعرية والسينمائية      

(*) هل كنت مع تصاوير المخيّلة، أم مناظر العين؟
كنتُ حريصًا على فكرة أن أبتعد عن التكلّف في إنتاج الصورة الشعرية، وربما جعلتها غارقة برومانسية شفافة تعيش على تناول فيتامينات هي خليط من مواد الواقع وموارد الخيال إلى حدّ ما.

(*) ثمة شعراء يجازفون بجعل القصيدة عارية على بلاج، فيما آخرون يحاولون فرض الإقامة عليها داخل الكهوف. أنت ماذا فعلت بقصائدك؟
أنا سلمت قصائدي لكلبٍ سلوقي نشيط، وآذنت له الرعي بها في البراري والمقاهي والحانات وليالي الصالحية.

(*) والحسكة أرضُ الميلاد والمنبت، ألم تكن لها حصة، أو مكان، في جغرافية شعر بندر عبد الحميد؟
لقد ابتلعت دمشقُ تلك المدينة سريعًا، حتى باتت الحسكةُ كمشةَ سنابل القمح لإطعام الذكريات التي على وشك الخفوت ليس غير.

(*) هل هو سحر المدن الكبيرة التي سرعان ما تبتلع الوافدين من الأرياف والمدن البعيدة، أم قلة التزام بما يُسمى الحنين إلى منابع الطفولة؟
عندما تصبح شاعرًا، فذلك يُمكنكَ من بناء مدنك المشتهاة حسب التصاميم التي تراها مناسبة لوجودك.

(*) تعني أن مدن الشاعر ليست من حجر، أو طين، أو إسمنت؟
بالضبط. مدنهُ مرسومةٌ بتصاميم خاصة، كما هي مبنية ومرصوفة بحبر من خياله.

                                                              

(*) هل تعتقد بأن ثمة مادةً تُمكّنُ الشاعرَ من إتلاف ذكرياتهِ؟
برفع السريّة عن الشهوات الباطنية اللامحدودة.

(*) كيف؟ هل يمكننا معرفة ما المقصودُ بالضبط؟
أن لا يؤمن الشاعرُ بالخطوط الحمر التي تضعها الدساتير المريضة، أو العادات والتقاليد وقوانين الإرهاب المجتمعي، أو العشائري. فلم يعدّ الحنينُ إلى الأرحام أولويةً، بقدر ما تثيرُ فينا ولاداتنا الخاطئةُ الغضبَ نتيجة تلك الأفعال التي أخرجتنا من كهوف اللحوم تلك إلى المواقد والسجون والهرولة اليومية خلف الرغيف، وخلف الحب، وخلف كلاب السلطة.

 

(*) ولكنك لم تكنْ متطرفًا في شيء. كنت معتدلًا في السياسة، وأكثر من وسطي في الدين، وأبسط وضوحًا في الكتابة الشعرية. بعبارة أدق وأعمق، كنت تمشي (الحيط الحيط وتطلب الستر) وفقًا للمثل الشائع!
وماذا في ذلك. أليس جميلًا أن تكون مخلوقًا مناوئًا للمواجهات العنيفة، وبلا أظافر؟

(*) هل أغوتك فكرةُ أن تكون حائطًا يُعلّق عليه العابرون راياتهم وشعاراتهم وتصاوير جثثهم الصامتة على حبال المشانق، من دون تأثير، أو أثر؟!!
لم تغوني فكرةُ أن أكون بطلًا ثوريًا في يوم من الأيام. كنت أعلّق التاريخَ ستارةً على شباك مفقود، كنت أعتقد بوجوده في مطبخي، وفي حياتي. لم أفكر بالقطيعة مع الموتى يوم كنت على قيد الحياة، مثلما أنا الميتُ الآن، ولم أنقطع مع الأحياء في مقهى الروضة، أو جمعيات عربدة السكارى، وملاجئ أيتام الغرام.

(*) كيف كان انخراطك بالغرام على تلك الأرض؟
انخراط الذئب في لُحُوم القطيع.

(*) من دون المساس بالعِظام تقصد؟
قد لا يستوعبُ السريرُ الاثنين معًا. فاللحمُ عادةً ما يغامرُ، بينما تُرمى العظام في أكياس القمامة.

(*) كأنكَ تتحدث عن المراهقة الأولى. أليس كذلك يا بندر؟
أنا أتحدث عن مراهقتي في الشعر. كنت الراعي الشرعي لبعض الأرانب اللاتي كنّ يجدنَ لهنّ

بيوتًا تحت تراب جلدي.

(*) هل تعتبر نفسك نسخة عن دون جوان أخرى؟
أبدًا. كنت أنا ذلك البدوي الذي وجد نفسهُ متشردًا في منزلٍ مُقفرٍ من الشمس والنوافذ والجيران. منزلٍ تملؤه التصاوير تعويضًا عن هوّل وحدتي المُنتَكسة باطنيًا.

(*) ألم يكنْ في رأسك جرسٌ للإنذار، حتى يُحذرك من أفعال المخلوقات الفاسدة من سواها؟
متُ وفي نفسي شيء من حتى.

(*) هل أغلقت الحياةُ عليكَ أبوابها وأنت حزينٌ يا بندر؟
ليس بذلك القدر الشديد. إلا أن عيني بقيتا مفتوحتين صوب ضرع البقرة الحَلوب في الحديقة الخلفية.



(*) أكانت بقرةُ الحياةِ أرملةً، أم تركتها بصحبةِ ثورٍ؟
هناك (الثوار) كُثرٌ. فلا تخف!

(*) الثوار داخل المنظومات السياسية تقصدُ، أم ثيران المدارس الشعرية؟
ما دامت الثورة أنثى، فكلّ حليبها سيتحوّل خمرًا ريانًا، ولن ينضبَ شرابًا ووقودًا، فيما جلود ضروعها، فسيستعملونها طبولًا للاستعراضات العسكرية.

(*) ولكنك كنت شيخ الصامتين عما يدورُ في بلادك. فهل كان قدرُكَ يتعلقُ بمداراة لقمة العيش، ومن أين تؤكلُ لحمة الضلع، أو الكبد، أو الكتف؟
كنتُ مصابًا بالوِسْواس الخناس سلطةً. ولكنني في الجانب الآخر من المعادلة السياسية، وجوديًا، عشتُ حمّالًا للأسِيَة، غرامًا وكحولًا وشعرًا.

(*) حتى لو افترضنا ذلك صحيحًا، فكيف كانت متعتك مع نفسكَ دينيًا؟
كنتُ قليل الإيمان، إلا بما يترتب على وجودي المشبّع بآلهة الأساطير، ممنْ فتحتُ لهم بيوتًا في قصائدي، ولو بشكل جزئي غير واضح الصورة، أو كامل الملامح، كتابةً وقراءةً.

(*) ألا تظن بأن الشعرَ مذهبٌ ديني لاهوتي سُبْحَانوي؟
بالتأكيد، لا.

(*) ولمَ تظنُ، أو تعتقدُ، بعدم جواز ذلك؟
لأن سُبْحَان الله الموجود في الشعر هو غيرهُ الموجود في بقية الممتلكات والمخلوقات.

(*) تعني أن التقسيم واقعٌ على الموجودات التي ليس الشعرُ منها، كما نفهم من ذلك؟!
أجل. فالشعرُ سَخَاءٌ رَبّانيّ بالإطلاق وبالمطلق.

(*) مَنْ مِنَ شعراء بلادك القديمة يؤمن بمثل ما تعتقد به حول هذا السَخَاء الرَبّانيّ الخاص بالشعر؟
نادرًا ما تجد شاعرًا سوريًا يرقص على صفيح ذلك السَخَاء الرَبّانيّ، لأن أغلب تجاربهم مفعمة

بحمى الواقع، وضجيج الوقائع، ونادرًا ما تجد شاعرًا وقد قفز إلى ضفة النهر الأخرى.

(*) وأنت! هل قفزتَ لتتمتع بذلك السَخَاء على سبيل المثال؟
كنتُ أتمتعُ برؤيةِ الضفادع، وكيف كانت تتمرنُ على قفز نهر الخابور. الشعر لعبةٌ. ولم أتدرّب عليها تمامًا.

(*) بسبب الجريان السريع لمياه نهر الخابور مثلًا.
هنالك أكثر من حكاية لذلك النهر في صدري. ففي أحايين كثيرة، أشعر به نهرًا جافًا ومهجورًا. ومراتٍ لا قدرة لي على مجاراته بسبب اختلاطه بدورة جسدي الدموية.

(*) ما لون دم الشاعر؟
بني اللّون.

(*) ودمُ الشعر؟
كحولي لا لّون له إلا إذا اندمج بالماء في كأس الساعة.

(*) أية ساعة؟ ساعة القيامة التي تستكملُ فيها الآلهةُ هندسة الأرواح بالحبر الريان؟
أجل. إنها تلك الساعة التي يتكاملُ فيها العقلُ مع مخلوقات الوجدان، ويرتفعُ فيها الجميعُ إلى مراتبَ التصوف الكحولي.

(*) وكيف يجد المتصوفُ السلّم ليصعد إلى السموات إذا كان كحوليًا؟!!
ليس المتصوف الكحولي محتاجًا للارتقاء إلى ما فوق. ففي ما بعد الأسفل والأسفل والأسفلِ مراتبٌ وطبقاتٌ لراحة الأنفس المنظومة شعريًا.

(*) ولماذا الشعرية المنظومة بالوزن وبالقافية تحديدًا؟
ربما لأن قصيدة النثر تثيرُ في أدمغة الآخرين زوابع لا قدرة لهم على تحملها، أو الدوران في طاقتها المُنفَلتة.