Print
دارين حوماني

مروان عبدالعال: "المنفى الأم" ليس بديلًا عن الوطن الأم

26 يوليه 2020
حوارات
يراهن الروائي والفنان التشكيلي الفلسطيني مروان عبد العال مع كل رواية جديدة له على ختم الحزن الفلسطيني بالشمع الأحمر فهو يفترض دائمًا حتمية العودة إلى الجذور واستعادة الحقوق الإنسانية، حتى نشعر أن أعماله الكاملة هي بحدّ ذاتها الأوكسجين العالق بين الظلام والضوء، بين السجن والحرية، بين المخيّم والمدينة.

وُلد عبد العال في مخيّم نهر البارد في لبنان عام 1956، عاش انهدامات اللجوء النفسية، لذلك ولدت رواياته كطلقات في الرأس. في عام 2002 أصدر روايته الأولى "سفر أيوب" وخلال ثمانية عشر عامًا تمكّن وعبر 9 روايات من أن يدخلنا معه إلى مناطقه التي أهملها العالم. هي مساحات بصرية على خط متوازٍ مع لوحاته التي تحكي حكاية فلسطين من ألف الألم والأمل إلى ياء اليتم والياسمين. صدرت روايته التاسعة "أوكسجين" مؤخرًا عن دار الفارابي في بيروت. لم يسمح للسياسة التي يمارسها كمسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان أن تتدخّل في وحيه الأدبي والفني إلا في حدود اقترابه من أثر المكان على اللاجئ، كان يريد أن يحكي احتكاكه الجيني مع فلسطين والمخيّم وما بينهما من تشقّقات مرعبة. نال عبد العال عدة أوسمة وجوائز منها جائزة القدس للثقافة والإبداع عام 2017. 
عن وجه مروان عبد العال الثلاثي الأبعاد بين الرواية والفن التشكيلي والسياسة كان لنا معه هذا الحوار: 



الحياة مرتبطة بالتنفس
(*) لا حياة بدون أوكسجين فهل كنت تستمد عنوان روايتك الأخيرة "أوكسجين" من مفردات الأمان والطمأنينة والانتماء التي يبحث عنها كل مقيم على هذه الأرض؟ وهل يمكن للرواية أن تضخّ فينا الأوكسجين أم أننا محكومون بهذا السجن الافتراضي في لاوعينا؟
-  وحدها الصدفة جعلت صدور رواية "أوكسجين" سابقًا للحرب على فيروس كورونا، ولكنه جاء في زمن اللّجوء المكثّف والهواء المُلوّث. بعد تفشّي الفيروس تأكدّت لنا بديهيّة أن نهاية العالم مرتبطة بنهاية مادة الأوكسجين، وأن أهمية توفير الحياة مرتبطة بالتنفس، لم يكن هذا مجرد حدس، هناك فارق لا شك بين ما قالته الرواية عن نقص نسبة الأوكسجين في الهواء، وبين ما يحصل اليوم من وجود الأوكسجين ولا قدرة على التنفس، الفارق بين وبائين مختلفين ولكن النتيجة واحدة بكلفة إنسانية مرعبة: الموت اختناقًا. حسب وصف مارك توين فإن أكثر العناصر انتشارًا في هذا الكون الأوكسجين والغباء! وفقًا للرواية كان هناك الكثير من الغباء والقليل من الأوكسجين، ومآل كليهما هو الاختناق، وكل ذرّة أوكسجين ممكنة تصبح غالية الثمن هي إكسير حياة.

(*) رواياتك هي رحلات داخل الوعي واللاوعي الفلسطيني منذ الرواية الأولى "سفر أيوب" وحتى روايتك الأخيرة "أوكسجين"، هل تغيّر مزاج مروان عبد العال الروائي، وهل من ثيمة أساسية يمكن أن تختارها لوصف مجمل نتاجاتك الأدبية، وما هي العلامة الفارقة في "أوكسجين" التي لم تتناولها في نتاجاتك الأدبية الأخرى؟ 
- هذا السفر بين الوعي واللاوعي مسألة معقّدة، الفلسطيني اللاجئ ليس مجرّد كائن بشري عادي، اللاجئ من طراز جيلي يتعلّق بذاكرة شتات وهي ذاكرة شفوية، ينتمي لوطن لم يعشه، ولنكبة يدفع نتائجها قبل أن يولد، وفي مخيّم لم يختر العيش فيه، هذه الحياة بما فيها من استثناء غير مفتعل، جعلت الثيمة الأساسية هي فلسطين المُتَخّيلة، لم يكن هناك بشكل مقصود أن ينصّ كل عمل روائي لديّ على "ثيمته"، ظلّت كخصوصية مخبّأة بين السطور؛ فلسطين ليست موجة أو شعارًا، بل إيجاز لفكرة الحرية ذاتها، هي كالمادة الشفَّافة التي على المتلقي أن يستشعر وجودها دون أن يلمسها، وأن يدرك حضورها وتتكشَّف تدريجيًّا من خلال الشخصيات والأحداث والحبكة.

إنّ للأوطان سرًا لا يعرف طقوسه أحد أكثر من الذي افتقده، من غربة قاسية واقتلاع في "سفر أيوب"، إلى اللاجئ السندباد في "زهرة الطين" والتي أضحت تراجيديا فلسطينية ومعولمة ومرعبة، أو سيرة مخيّم استيقظ على كابوس فجائي كما في رواية "حاسة هاربة"، أو في رواية "جفرا" عن اللاجئة العاشقة لوعد حبيبها الفدائي بخاتم سحري يرمز إلى الوطن! صراع وتناقض بين البطل السلبي والايجابي عند "إيفان الفلسطيني" وطرح أسئلة الهويّة الذاتيّة، ثم إلى سؤال الملحمة البطولية في "شيرديل الثاني" أو الدعوة إلى الصمود والتجذّر في رواية "60 مليون زهرة"، إلى الإفراط في الذاكرة ونوستالجيا الفاشية في "الزعتر الأخير". وأخيرًا صرخة رواية "أوكسجين" هي الكفّ عن التعامل مع اللاجئ كبضاعة في سوق السياسة، يكرّس حياته ليستحقّ انسانيته بدون أي تستّر عليها، كما وصفها غسان كنفاني "ألست ترى أنكم استطعتم بقدرة قادر تحويلي من إنسان إلى حالة؟ ومن ثم على اللاجئ أن يثبت على الدوام أنه إنسان". حاولت "أوكسجين" أن تفكك هذه الأحجية، خاصة بعد "عولمة اللاجئ" الذي لم يعد حالة حصرية بالفلسطينيين، ورغم التباينات يظل وجه الشبه بين لاجئ وآخر يتمثّل بسوء الاستقبال، اللاجئ غير مرحّب به، إن لم يتحوّل إلى فزّاعة، تعلّق أزمة الكون عليه وتطغى الصورة المتخيلة على الصورة الحقيقية. يتجلّى الغباء العنصري عندما يصبح اللاجئ هو المسؤول عن ثقب الأوزون أو بؤرة الأوبئة المستجدّة والمخيّم سبب الاختناق الكوني وليس نتيجة هذا الاختناق! حاولت أن أفضح حالة الهروب من السؤال الوجودي: ما الذي سيحدث إن اختفى الأوكسجين؟ الجواب قالته الرواية: لو وضعت لي العالم كله داخل قفص ذهبي، سأختنق.



(*) قلت في كلمة لك: "أعترف أني لم أجتهد ولم أقتفِ أثر أحد، وإن سجّلت حكايا الناس فأنا أحمل شفاههم لأنطق".. إإلى هذا الحدّ تتصلّ قدماك بالأرض؟ وهل يصعب فصل الكاتب والفنان عن عوالمه الداخلية؟
- لم أختر كتابة الرواية كموضة لكي أقول شيئًا عن فلسطين. فلسطين في النص هي مادة الفيتامين (سي) في البرتقالة، تتذّوقها دون أن تراها، هي حلم وقدر وهدف، أمّا الرواية فهي وسيلة، عندما تكتشف ذاتك في سردية حلزونية تبدأ حركتها التصاعدية من اللاجئ الفيزيائي إلى اللاجئ النفسي، وثم حركة دائرية ما بين الاستعانة بالماضي الجميل الذي هو الذاكرة المحكية إلى بشاعة الحاضر المعاش الذي هو الشتات. أدرك من يكتب مأساته أن عليه أن يصنع ذاته لأنه خارج الوطن ولكن كجزء أصيل من الوطنيّة. اللّاجئ الفاعل لا يتوّقف عن الحلم ولا يتخلّى عن الحقيقة، لذلك الرواية لا تولد بتخطيط مسبق أو بقرار شخصي أو حزبي، بل تولد عندما تتراكم الأشياء داخلك بتلقائية، إنها طريقة في الرؤية الروائية، إنها صلاة، بل هي سمفونية.

(*) اشتغلت على الرموز والأسطورة والفانتازيا في عملية السرد الواقعي، على هويّات متعدّدة الزوايا والطبقات.. هل نجحنا في أن نكون "ما بعد حداثيين"؟  

- لا تولد الرواية بقرار مسبق، ولكن إذا قامت بإجراء أي تفاعل مغامر وإن أدّى ذلك إلى تهشيم حتى الثوابت المرعية في التشكيل الروائي فليس لتكون "ما بعد حداثية" إنما تسعى إلى اكتمال الفكرة بقوة التخيّل فنيًا وبنائيًا وتشكيليًا، سواء في استخدام المادة الأوليّة أو في طريقة الاستخدام وطبيعة أسلوبه، من "الواقعية السحرية" التي تدمج بين الواقع والفانتازيا/الخيال، وأحيانًا يملي الواقع اللامعقول نفسه كواقع غير قابل على التصديق ليس بمعنى إنه كذب، بل حقيقة ولكنها أقرب للخيال، مستمدّة من غرابة الواقع ومأساويّته وامتداده الخيالي في فضاء الاستثناء، وتُكتب رواية لكل شخصية أو رواية بدون شخصيات، كما في رواية "حاسة هاربة" 2007، فمعظم أبطالها أشياء من رموز المخيّم من النهر إلى المغيب إلى الزقاق والتراب والحلم والسرير العتيق والحائط كلها شخصيات، بطولة جماعية مارست قتلًا للبطل الفردي في لحظة الخيبة الجماعية من خلال بناء علاقة بين الشخصيات/ الحكايات تقوم على التزامن والتماكن أكثر مما تقوم على التفاعل، فتتجاور معظم الشخصيات الرئيسية في المكان الروائي من دون أن تنخرط في علاقات في ما بينها، هنا يكمن البعد السحري والعجائبي. سواءً جاء أفقيًا في البعد التصويري للمشهد ومن أبعاد وزوايا متعددة، أو كان عاموديًا في سبر غور الحالة اللاشعورية للشخصيات، يغلب السياق الثقافي على البنائي، الذي يتطلّبه الغوص الجميل في حلم طويل معبّأ بالذّاكرة والتّداعيات والأساطير من أجل رؤية ثقافية واقعية جديدة.

 

الفكرة الوطنية كبديل للذاكرة الانعزالية
(*) يحتاج الفلسطينيون إلى ذاكرة أفقية تتمدّد حيث هم ينتشرون، هل يمكن أن نحكي هنا عن أهمية الرواية واللوحة ليس فقط في عرض المخزون الفلسطيني الموجع بل في الحفاظ على التراث الفلسطيني واستمرارية تأثيراته؟
- المقاومة الحقيقية هي ذاكرة حقيقية، مهمة الأدب والفن والتراث حماية الذاكرة، تأصيلًا وتحديثًا، عبر الفكرة الوطنية التي تعزّز الشخصية الوطنية والهوية الثقافية، كبديل للذاكرة الانعزالية! هذا مجرّد تحذير من ذهنية سلبية تنظر إلى حدود ذاكرة الفلسطيني بأنها مخيّم فحسب، فذاكرة العزل "الغيتو" هي ذاكرة إلغائية، والهدف هو تحويل ذاكرة الشتات إلى شتات الذاكرة؛ أن يتحوّل اللاجئ المناضل للعودة إلى الوطن، إلى اللاجئ الضائع الباحث عن أي وطن! بهذا المعنى يكون دور الأدب الثوري تعزيز الشعور بالانتماء الوطني وأن فلسطينيّته واقع وليست خيارًا. لم تتوقّف عمليات استهداف الذاكرة الوطنية وتخريب الروح الوطنية وتجويف المجتمع من عناصر طاقته الإبداعية عبر التجهيل وتغييب الوعي، أن يصبح "المنفى الأم" هو البديل عن الوطن الأم في ظل تراجع الحكاية المروية لمصلحة الحكاية المعاشة، المكان الجغرافي الخاص والمؤقّت صار له ذاكرة جزئية. لم يعد الرهان فقط على الذاكرة العامودية كذاكرة جماعية تتواصل عبر الأجيال فقد تشكّلت أمكنة جديدة فيها ذاكرات جديدة، وحين تشتّتت العائلة زمانيًا ومكانيًا ظهرت الذاكرة الأفقية والمتعدّدة الجنسيات والعابرة للحدود في أمكنة متباعدة جغرافيًا تحمل بصمات واقع قديم ومسقط الرأس والذكريات.

(*) تعدّدت أدوات مروان عبد العال للحفاظ على الهوية الفلسطينية ونفض الغبار عن حكاياها، هذا الوجه الثلاثي الأبعاد بين النضال السياسي والأدبي والفني أين يكون نفسه أكثر؟ وهل على الأديب والفنان أن يكون سياسيًا في وقت ما؟
- الثقافة الحقيقية لا تخلو من السياسة حتى لو ابتعدت عنها، وأعترف أني استفدت من هذا المكان باقترابي من الألم الإنساني وتفاصيله ورؤية أثر المكان على الإنسان الفلسطيني. الثقافة العضوية ليست الفن من أجل الفن، إنما لها وظيفة في "إيقاظ المظلومين" لتوفير بيئة ومجتمع ووعي ورأي عام، للدفاع عن كل شيء نبيل وعن الحق والحقيقة، ولمقاومة الكراهية والعنصرية والاحتلال والاستبداد والفتن وكل ما من شأنه تدمير الفكرة الوطنية.



المثقف السياسي والسياسي المثقف
(*) رغم تبوئك منصب مسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان إلا أنك لم تتّجه أدبيًا نحو التنظير الروائي السياسي، لكن هل كان للعمل السياسي تأثير على المنجز السردي في مكان ما؟
- يحتاج الراوي منصّة مرتفعة كي يشاهد ويرى ويكتب. هكذا تكتمل ناصية الرؤية الشاملة والكتابة المتألقة معًا، عندما تُفهم غاية الأدب نتعامل مع الحقائق بعمق ونبتعد عن الخطابات والكليشيهات واللغة السياسية الرائجة والمبتذلة، إذا اتفقنا أن المثقف العضوي حسب غرامشي ليس فقط الكاتب أو الفنان أو الروائي إنما أيضًا القائد السياسي، وأنا في السياسة كامتداد ثقافي وانتماء وطني على مبدأ المثقف السياسي والسياسي المثقف، فهذا يجعل من الثقافة والسياسة معًا رسالة وهوية وقضية وليس مسألة حزبية ضيقة.


(*) ثمة معاناة تشكّل المواد الخامّ للكتّاب الفلسطينيين وإن كانت تختلف بين الداخل الفلسطيني وبين الشتات، كيف وأين يختلف أدب المخيّمات عن أدب 1948 عن أدب السجون؟
- أعيش هنا وأكتب هنا، والرواية لديّ هي بمثابة المكان الذي هو مؤقت أو فضاء الاستثناء، لي فيها شيء من وطن مفترض ومتخيّل، هذا يختلف عن أدب 1948 وعن أدب السجون، أن يكون الاحتلال في كل الحالات داخل وخارج السجون يعني أن تكون علاقة الكاتب بالمكان خارج السيطرة، استنسابية حسب شروط الاحتلال، الفارق زاوية النظر، عندما يتم النظر له من الأعلى تصبح زاوية النظر للآخرين من الأسفل. حول "أدب المخيّمات" المشكلة ليست في المخيّم فقط، ولكن ثمة شيء ما يتبعك رغمًا عنك، كما قال البطل في رواية "60 مليون زهرة": "من لا يسعه وطنه فإن العالم بأسره لا يكفيه". التصنيف يجب أن يكون بين أدب جيد أو أدب رديء؛ وتوصيف نوع الأدب ينطلق من معايير واضحة، لا مراوغة فيها، نعمل على تصنيفات متعددة، مثل أدب مهجر وأدب منفى وأدب مخيّمات ومن قال أدب حرب، كل أدب مبدع هو أدب مقاومة، وكل أدب رديء لا يمت بصلة لها. هناك خصوصية يمكن أن نقول عنها "أدب شتات" وليس أدب مخيّمات لأن للشتات غربة أوسع من المخيّم، وخاصة في زمن اللجوء المتحرّك ودائمًا له نسخة جديدة، الشتات يبدأ عندما تتكثّف فيك الغربة ومشاعر النبذ، ظلّك يتبعك ويدعوك لأن تصير أنت ظلّ نفسك، المخيّم قد يتعرّض للتدمير أو قد تفارق المكان ولكنه يتبعك في خارطة الشتات الواسعة، وأنت تجلس في مقهى أو حافلة أو تمشي في الشارع، إذا متّ أين وكيف تدفن؟ حقك أن تعمل، وإن زاد عدد أولادك عن المعدّل المسموح به، ستعرف معنى السؤال الانساني أين تسكن؟ ويطاردك السؤال والحنين داخل وخارج حياة البناء الشاقولي في المخيّم أو المأوى المخترع. لاحظ لأنك فلسطيني أينما كنت تظل هذه المسألة تتعلّق بحياتك. سيظلّ يطارده الوطن الذي ينتمي إليه وليس الذي يقيم فيه.


(*)
لماذا لا يعمل المثقفون الفلسطينيون في لبنان على إنشاء بيت أدبي جامع لتفادي تشويه الوجه الفلسطيني ولاسترجاع دور المخيّمات الثقافي التاريخي؟
- لا شك أن هناك حاجة إلى ثقافة قراءة ومطالعة ونقاش وتدشين الكتب والاحتفال بالإصدارات الجديدة وبالكاتب، ولا شكّ أيضًا أنّ الأزمة السياسية تركت آثارها على الثقافة بشكل عام وتحوّلت بنظر البعض إلى ترف، وسبب تعثّرها هو تراجع مستوى الإمكانيات المتاحة والضعف في المناهج التربوية للمنظومة الشاملة، المدرسة والأسرة والتنظيم السياسي، إضافة إلى طغيان ثقافة الصورة والقراءة الرقمية، مع ذلك هناك جهود تُبذل باستمرار في ظروف صعبة لكن على أمل أن تتكلّل بالنجاح.


(*) ثمّة قطيعة أو مسافة ملحوظة بين الجيل التأسيسي والجيل الجديد في المجال الأدبي في العالم العربي، إذا أردنا أن نحكي فلسطينيًا، كيف ترى العلاقة بين الجيلين في الداخل الفلسطيني وفي خارجه؟ ما مدى وجود نقد متبادل بين الجيلين؟ وهل تخاف على الجيل الجديد من الذائقة والذاكرة المعطوبة والمشوّهة ومن الاندماج في الداخل؟
- دائمًا هناك مسافة بين جيلين وهذا أمر صحيّ، وحتى القطيعة فأنا لا أراها بالشيء السيء، طالما هناك جيل يعبّر عن نفسه بصدق فهو ينتمي إلينا لأن التعبير الأصدق والحقيقي هو ما نطمح إليه. على كل حال الرعاية مهمة شرط أن ندرك اختلاف الجيل الحالي عن الذي سبق، والتواصل مهم بشرط ألا يؤدي إلى أن يصبح سقفًا إبداعيًا. أما عن الاندماج في الداخل فلا أراه ممكنًا خصوصًا أن التجربة الداخلية الفلسطينية مختلفة، وهناك جيل فلسطيني مدرك لعمق هويته ويبدع شكلها الجديد دون الذوبان في الآخر.



العلاقة ببيروت
(*) حدّثنا عن علاقتك ببيروت وماذا أعطتك؟
- أعطتني بيروت الروح المفتوحة على كل الهويات والهواء الطلق كي أبدع، الحوار بين مختلف الأمكنة، داخلها عميق وسحري، التجاذب والتناقض فيها يجعلانك تحاور ذاتك أكثر داخلها. بيروت اليوم تعيش سؤالها الخاص: من أنا بعد الحروب؟ لكننا نعرف من هي بالأمس ونثق أنها قادرة بأن تكون في قلب هواجسنا وقلقنا لأنها عاصمة الأزمنة الفلسطينية وهي الحبل السري الذي يربطنا بجسد فلسطين ولم ينقطع.

في بيروت امتزج حب فلسطين مع الموت، هذا الحب الذي كان يزداد كثافة كلما اقتربنا من الموت، تعيش معها وفيها في ترميم فظيع، اختزالات غريبة، نحسّها ولا نراها، صراع الثنائيّات مختزلة في شتاتنا، شخصية الإنسان المحاذي، يحاذي المكان ولكن ليس فيه، تكثيف لعناصر الهوية: ثقافةً وناسًا وحكاية. والغريب فيها يجدها كأنها بلاد التي تشبه البلاد! فهي من نسيج وجسد واحد كبلاد الشام. أنا وبيروت نلتقي كخطيّن صاخبين، أحيانًا تصبح عالمًا مشّوهًا غير مألوف، مدينة بوهيمية بإحساس بوهيمي وموسيقى بوهيمية تشكّل مزيجًا مدهشًا. قد تنقلب بيروت فجأة إلى مدينة مجنونة لا يكفّ أهلها عن الصياح، تسترق النظر إليها من وراء الستائر. وتشعر بأن صدرها ضيّق ولا يوجد هواء كاف، رغم أنها الأكثر جرأة بفتح نوافذها، وتسمع صوت لهاثها. وتتوجّس دائمًا من لجوء يتكرّر، أو تكون أنت الفدائي الأخير الذي يكون أول من يقاتل ذودًا عنها وأول من يغادر المدينة قرفًا من ظلمها دون أن يودّعها. كثير من الأحيان نعشق كل ما فيها من غجرية وتمرد، وإن تغيّرت كثيرًا بيروت فإنها لم تتبدّل من الداخل، تكاثرت أسئلتها وتجاوزت زمنها وبقيت رغم ذلك أصيلة، خيمتنا وغصّتنا.