Print
أسعد الجبوري

بريد السماء الافتراضي.. حوار مع الشاعر الفرنسي فيكتور هوغو

28 يوليه 2020
حوارات

كنا ندركُ أنه لم يغادر المكان منذ أكثر من قرنين من الزمن. فقد كان مولعًا بالكاتدرائية العملاقة التي سبق له أن أعتبرها خزانة ضخمة للآلام وتضخم المآسي وغياب العدالة. لذلك قمنا بعمليات مسح للبحث عنه تحت أكوام الحطام. وعندما لم نجد الشاعر الفرنسي، فيكتور هوغو، تحت رماد (نوتردام)، قررنا نبش التربة حتى وصلنا إلى طبقة رطبة من التراب، ما إن ثقبنا قشرتها، حتى وجدنا أنفسنا في مدينة واسعة وهائلة تحت الأرض.
لم يستمر بنا الذهولُ طويلًا، بعد أن قطع علينا دهشتنا صوتُ تلك العربة التي كان يقودها ثلاثة من حيوانات (الربوتشا) الحمراء الشبيهة بالزرافات. وما إن دققنا بالمشهد عن كثب، حتى عرفنا بأن السائس كان هو الشاعر الفرنسي فيكتور هوغو، بصحبة الفنانة المكسيكية (فريدا كالو)، التي كانت تحتسي شراب – التكيلا - من الزجاجة التي كانت بين أصابعها، مع حبة ليمون ضخمة.
وما إن توقفت العربة أمامنا، حتى هبط هوغو منها غاضبًا وهو يصرخُ:
لقد عرفت أنكم ترغبون في إجراء حوار معي. ومع أنني لست مستعدًا لذلك، إلا أن الحريق الذي التهم كاتدرائية سيدة باريس هو ما يدفعني إلى القبول. تفضل بالركوب معنا على ظهر هذه العربة، حتى نصل إلى (قلعة ملائكة الحمى)، فهو مكان يناسب الحوار.
آنذاك، قمنا بتلبية رغبة الشاعر. فصعدنا لنكون معه على ظهر تلك العربة. وما هي إلا دقائق حتى وصلنا إلى المكان. جلسنا في أعالي القلعة لتهيئة الأجواء. فيما كانت الفنانة فريدا كالو تقوم برسم تخطيطات لبعض الصور والمناظر الخاصة بإعادة هيكلة الكاتدرائية المحترقة.
وما إن انتهت الإعدادات، حتى طرحنا على الشاعر الفرنسي السؤال الافتتاحي، قائلين:



(*) هل يعتقد الشاعر فيكتور هوغو بأن الموتَ حجبهُ عن الأرض القديمة فعلًا، فحصل الانفصال ما بينك وما بين التراب الذي ولدتَ عليه؟
لا. لا أظن أنني غادرتُ تلك الكرة الملتهبة بالكراهية والظلم والجراح والتغريب. أنا ما زلتُ في جوف التراب أمارسُ أعمالي في الحب والتأليف والنقد، تقليدًا لما كنت أقومُ به على الأرض القديمة.

(*) قلتَ إنكَ تمارسُ الحب بعد الموت. مع منْ تفعل ذلك؟
هنا ملايين من النساء اللاتي ما زلنّ يبحثن في مدن التراب عمنّ يلبي لهنّ رغباتهن المتجمدّة التي سبق أن تراكمت بين طبقات لحومهنّ، سواءً بفعل فوضى الإهمال الذكوري، وسوء المعرفة الجنسية، أو نتيجة عمليات القذف السريع في الحياة الأولى. لذا هنّ هنا في ثورة عصيان، لا يرغبن بالصعود إلى السماء، لئلا يتعرضنّ إلى اضطهاد جديد، يعملُ على تغييبهنّ مرة أخرى أمام حشود هائلة من حُور العين في الجنة.

(*) متى أصبحتَ مؤمنًا توحيديًا يا فيكتور؟
ومتى كنت كافرًا كما تظنُ؟

(*) لا علم لنا بسجلك الإيماني يا فيكتور هوغو. وإذا كان اسمك يوحي بالوقار، إلا أن تاريخك الغرامي يكسرُ تلك الهيبة، ليؤكد لنا على مراهقتك الدائمة. والسؤال هنا: هل تظن أن الجنسَ (منطقة ثالثة) ما بين الحياة والموت سيد هوغو؟
هذا ما أحاول إدراكهُ الآن. سأتفرغ كليًّا لدراسة تلك الظاهرة، وكتابة روايات وقصائد عنها. العيش في ما وراء تراب تلك المدن منحني مزيدًا من الطاقات الخفية التي جعلت مني ومن سوايّ شعوبًا من الديدان ــ شبيهة بالنمل الأحمر ــ غير مرئية إلا بواسطة المجاهر.

 

 (*) ولكنني لم أر السيد فيكتور هوغو على هيئة دودة من سلالة النوع الذي عرّفتنا به!!
هذا لأنني أصبحت جنسًا قابلًا للتحوّل من نوع إلى آخر. فما إن ننتهي من هذا الحوار، حتى تجدني وقد عدتُ إلى نوعي الجديد في مدن ما وراء التراب.

تمثال برونزي لهوغو للنحات الفرنسي أوغست رودين في قصر كاليفورنيا بمتحف جوقة الشرف في سان فرانسيسكو (21/12/2006، فرانس برس)       

(*) تعني إنك تستطيع الخروج من تحت التراب، وزيارة مدن الأرض بمرونة ومن دون عوائق. أليس ذلك ما تقصدهُ يا سيد هوغو؟
بالضبط. ففي نهاية كل شهر، أنفض عن جسدي الترابَ ثاقبًا الأرض، لأخرج من قبري، من

أجل استلام راتبي الذي خصني به الملك لويس الثامن عشر. ثم إنني كنت هناك قبل أيام، عندما شاركت مع آلاف المخلوقات الدودية بإخماد حريق (كنيسة سيدة باريس)، خوفًا على الأحدب من النيران.

(*) ولكن بعد أكثر من قرنين من الزمان يا فيكتور هوغو، تحوّل كل شيء إلى رماد.  نوتردام لم تعد مكانًا آمنًا للأحدب كوازيمودو. هل أتت النارُ متأخرةُ لتصحح مسار العدالة في تلك الكنيسة كما كنت تريد ذلك منذ قديم الزمان؟
أجل. انتهى (احتفال الحمقى) بانبعاث (كوازيمودو) من دون وجود حدبته الجبلية على ظهرهِ، وكذلك دون وجود لتلك السياط التي رسمت على ظهره خرائط الظلم. لقد خمدتْ أصواتُ تلك الأجراس التي أفقدته السمع، وجعلت أصوات الدنيا بأذنيهِ موجاتٍ من السكون الأعمى.

(*) وماذا عن الراقصةُ الغجرية (أزميرالدا) يا سيد فيكتور؟
لقد أعادت هي الأخرى مجد خلاصها من جحيم الكنيسة ومظالمها في تلك العصور الوسطى. أجل. لقد رأيتها ترتفعُ فوق ألسن النيران رقصًا، وكأنها تصرخ بي.
تعال يا فيكتور، وأعدْ لنا كتابة روايتك الرومانسية التي كانت باسم "كنيسة سيدة باريس"، قبل أن تتحول إلى رواية باسم (أحدب نوتردام)، وذلك لتنظيف سجلات الكنيسة من مظالم القرون السوداء التي اتسمت بالقهر والظلم وغياب العدالة.

(*) وهل استجبتَ لنداء تلك الراقصة الغجرية يا فيكتور؟
أجل. فلقد أعادت النيرانُ كتابةَ روايتي قبل أن تجفّ عيناي من الدموع.

(*) معك حق. كانت مناظرُ الحرائق مروعةً ومحزنةً. فأن ترى فنَ أجمل الكاتدرائيات القوطية تنهارُ وتتبدد بين ألسن النيران، فتلك كارثة حضارية.
ليس ذاك ما كنت أبكي من أجله، إنما لأنني كنت أشم رائحة لحم الأحدب (كوازيمودو) وهي تُشوى بين النيران وتذوب. ذلك الإنسان المعوّق والمحب لا يستحق أن يحرق مرتين.

 (*) من أية مصادر أتقنت لعبة الشعر؟
من التنقل والبحث واتساع الرؤى. لقد تعلمتْ قدماي المشي وراء والدي الذي كان يعمل ضابطًا في جيش نابليون بونابرت، وهو ما أنعش حياتي الداخلية وجعلني أرستقراطيًا. عليك أن تطَّلِع على خلايا باريس، ومدريد، ومدن أخرى، كبروكسيل، وجزر القنال الإنكليزي. كل تلك التراكمات، كانت مخازن للشعر والرسم والرواية والحب.

(*) أنت بدأت الحب بطريقة تراجيدية، عندما ارتبطت وأنت في التاسعة عشرة بـ(أديل فوشي)، الفتاة التي بادلتك الحب من وراء إعجابها بعقلك الأدبي ومواهبك المبكرة، وصولًا إلى الزواج. كيف اختطفت تلك الفتاة من شقيقك أوجين الذي كان متعلّقًا بها؟
لم يكن شقيقي أوجين سويًا، فقد حاول القضاء على حياتي ليلة زفافي من أديل بسبب شغفه

الصارخ بها، وذلك عندما هجم علىّ بالفأس لإفشال ذلك الزواج. وعندما فشلت محاولته، سرعان أصيبَ بالصرع، ثم فقد عقلهُ، ليصبح نزيلًا في مشفى للأمراض العقلية.

(*) ألا تعتبر ذلك الزواج جريمة، أو خطيئة، تُشعِركَ بالذنب يا فيكتور؟
أجل. فطالما شعرتُ بسيخ حديدي ملتهب وهو يستعرُ على طول عمودي الفقري، وصولًا إلى الدماغ. تقابلُ ذلك الالتهاب شهوةٌ لم أستطع مقاومتها، أو السيطرة على جريانها، كطوفان في خلايا جسمي كله.

(*) وكيف دخلت (جولييت) على خط ذلك الحب، لتحطمهُ، وتضع حبكَ الأول (أديل فوشي) على الرف؟
ربما هو مرض الشعراء ليس إلا. كانت جولييت ممثلة مسرح، وما إن أتقنت دورها معي، حتى تخلت عن التمثيل على الخشبة، والارتباط بي بشكل جنوني يليقُ بمشاريعي في عالم التأليف.

(*) وكيف تداعى ذلك الحب الذي كان بينكما؟
ربما كانت نجاحاتي سببًا وراء ذلك. هذا بالإضافة إلى المرض النادر الذي أصابني في عقلي.

(*) أي نوع من الأمراض العقلية تقصد يا فيكتور؟
لقد عُرف مرضي إذاك باسم ميترومانيا. ما إن يضرب الدماغ، حتى يجعله منتفضًا وشديد الارتجاج.

(*) هل أصابك ذلك المرض بسبب خيانة زوجتك أديل فوشي مع أقرب أصدقائك الناقد (سانت بييف)؟
لا أظن ذلك كان صحيحًا. الخيانات لا تولد أمراضًا نادرة.

(*) وماذا حصل بعد تلك الخيانة. هل كانت دافعًا لكتابة رواية (أحدب نوتردام) التي قيل إنك أنهيتها في قرابة ستة شهور؟
أجل. لقد بلغتُ ذلك القدر من الآلام الشخصية من وراء علاقتي التي فسدت مع أديل، ونجحت بإنجاب البطل أحدب نوتردام من خاصرة ذلك الوجع الهائل.

أحدب نوتردام" (أنطوني كوين/ Quasimodo) مقيدًا فوق برج الجرس في مشهد من الفيلم المأخوذ عن رواية لهوغو (1957/Getty)

(*) إذا كانت خيانة أديل لك قد أنتجت رواية أحدب نوتردام العظيمة، فما الذي أنتجته بعد سلسلة الكوارث والمصائب العائلية بفقدانك لابنك الشاب الوحيد، وغرق البنت الأولى، وإصابة الثانية بالجنون؟
كان موت هؤلاء سببًا في كتابة رواية (البؤساء). لا شيء يعادل ذوبان شمعة، وغرق حورية،

وجنون وردة، غير أن تبحث عن الموت وتقتله. وعندما لا تستطيع فعل ذلك، فيمكنك رمي نفسك في البحر لتستريح.

(*) ولماذا لم تنتحر؟
ومن قال بأن فيكتور هوغو لم يفعل ذلك. لقد عشت ما بين بنادق الملكيين، وما بين حراب الجمهوريين، أكثر السنوات رعبًا.

(*) تقصد هروبك إلى بروكسل، والعيش ثمانية عشر عامًا في المنفى. هل اعتبرت تلك السنوات تجربة أدبية خالصة، أم كانت هامشًا سياسيًا ينتهي في نهاية المطاف مع الريح؟
لم تمضِ بضع دقائق من حياتي سدى. كان دماغي بمجموعة محركات تعمل في كل اتجاه، لتمنحني القدرة على التصوير والتقدير والتبشير بمكنونات العوالم الباطنية التي عادةً ما تنبع من تلك الأعماق، لتطفو مؤلفات على السطح.

(*) كأنك تتقمص شخصية السوبرمان النيتشوي؟!
لا. لم أكن بمتقمص أبدًا. بل كنتُ قميصًا لنفسي في الحركة والسكون والاضطراب الفني.

 

(*) هل كانت تعشش في رأسك مخلوقاتٌ من مختلف الصنوف والماركات يا هوغو؟
بالتأكيد. وكان كل كائن، أو مخلوق، منها، يتدربُ على تصاوير مخيلتي، مضيفًا لرأسي خبراته، حتى أصبحتُ أرشيفًا ضخمًا من الصور والمعلومات والمآسي.



(*) ثمة من كتب يقول عن فيكتور هوغو: "ربما لم يعرف كثيرٌ من قرائه أنه كان مصورًا عبقريًا يضعه البعض في مصاف غويا ورامبرانت. وصدرت عدة كتب تناولت هذا الجانب الخفي من إبداع هوغو، منها كتاب جان سرجان، الصادر عام 1965 بعنوان: "فيكتور هوغو رسامًا عبقريًا".
المتأمل لآلام نفسه المتشابكة مع مظالم الآخرين، يقدر على جعل لوحة الوجود متعدد الصور

والرسوم والديكورات. فمثلما تلتقطُ الكاميرا شخوصها من الواقع، مثلما تبتكرُ المخيّلةُ تصاويرها من تفاصيل الحوادث المبثوثة في البواطن السرية للجسد والطبيعة والنفس.

(*) هل تظنُ بأن اتحادًا شموليًا ما بين الجسد والطبيعة والنفس قد حصل؟
بالتأكيد. اثنان من طين، ولبّهما الروح حتمًا.

كم من الأرواح عند فيكتور هوغو؟
لم تبق لدي سوى أرباع أرواح، فيما ذهب القسم الأعظم من روحي بعيدًا عني تمامًا.

(*) من قسّمَ روحك، فأخذ منها ما يستحق؟
لقد تقاسمني أهلي تباعًا.

(*) ألا تعتبر تلك المآسي كنوزًا أدبية؟
نعم. لقد كان الموت موظفًا عظيمًا في حياتي العملية.

(*) وهو الذي وزّعكَ ما بين الشعر والرسم والرواية وبقية الفنون. أليس كذلك يا هوغو؟
كل جنس أدبي كان حفرة، ما إن أنزلق فيها، حتى أستعين بقدراتي اللغوية للخروج منها بشق الأنفس. وغالبًا أبقى في الحفرة، لأنني أفشل في مغادرتها.

(*) هل يسكن أعماقك كائنٌ تصوفي؟
أجل. فما إن بلغتُ الستين، حتى وجدت في داخلي شخصًا شرقيًا، يتحرك ويملي عليّ كتاباته بشكل دوري. وآنذاك شككتُ بأنه ينام معي وبين أوراقي.