Print
أشرف الحساني

ندى شبوط: الفنّ العربي المعاصر غير منفصل عن العالم

17 أكتوبر 2021
حوارات


تُعدّ المُؤرّخة الفنيّة العراقية الأميركيّة، ندى شبوط، من الباحثين المهمين في تاريخ الفنّ العربي الحديث، وفي الشرق الأوسط ككل. بل أكاد أجزم أنّها لعبت دورًا أساسيًا في السنوات القليلة الماضية في التعريف بمُنجز الفنّ العربي المعاصر داخل مؤسّسات أميركيّة عدّة. وحرص شبوط على العناية بالصورة ومتخيّلها الفنّي قادها إلى التوثيق والتأريخ لفنون الشرق الأوسط، من خلال كتاباتٍ مونوغرافية تاريخيّة تتناول بالدرس والتحليل الظواهر الفنيّة، مُحاولة إبراز وتسليط الضوء على معالم هذا الفنّ وخصائصه ووقائعه، أمام الغياب المهول للتأريخ العربي في مواكبة المُنجز الفنّي وتحوّلاته على خلفية ما يشهده الفنّ المعاصر من متغيّراتٍ في العالم الآن. إنّ مكانة شبوط تبدو بارزة في صناعة نظرةٍ مُغايرة لفنون الشرق الأوسط داخل المؤسّسات الغربية، وتحرير الآخر من نظرته الضيّقة تجاه الفنّ العربي، في وقتٍ أضحت فيه أعمال فنيّة عربية تُنافس الإنتاج الغربي، بل وربما تتفوّق عليه على مستوى اجتراح أفقٍ بصريّ مُكثّف وأكثر جرأة على مستوى الصناعة والتخييل. لم يقتصر نشاط شبوط، أستاذة الفنّ الحديث بجامعة تكساس، على التأريخ لفنون الشرق الأوسط، وإنّما قدّمت وأقامت العديد من المعارض الفنيّة داخل البلاد العربيّة وخارجها. كما حازت على جوائز عدّة كان أهمها جائزة الكويت للتقدّم العلمي (2020) حول مُجمل كتاباتها التاريخيّة حول الفنّ ومتخيّله الرمزي. هنا، حوار معها:



(*) ندى شبوط! لا شك أنّ القليل من قراء العالم العربي يعرفونك كمُؤرّخة فنيّة ذات إسهامات كبيرة في تاريخ الفنّ العربي الحديث داخل أميركا وخارجها، بحكم أنّ كتاباتك باللغة الإنكليزية. كيف جاء اهتمامك بالفنّ الحديث، سواء داخل الإنتاج العربي، أو الغربي؟
بدأ اهتمامي بالفن الحديث أثناء نشأتي في بغداد، حيث كان جزءًا من محيطي البصري اليومي. نشأت وأنا أرى أعمال جواد سليم كلما مررت بنصب الحرية، أو أعمال محمد غني حكمت، وخالد الرحال، في ميادين المدينة. وكان الفن الحديث لوحات على جدران منازلنا. لذلك فوجئت بعدم رؤية هذه الأعمال، أو أي معلومات عن الفن الحديث من العالم العربي في مناهج وكتب تاريخ الفن عندما أتيت إلى الولايات المتحدة لدراسة الهندسة المعمارية. كان الافتقار في إشراك الفنانين العرب وأعمالهم هو ما أثار اهتمامي بدراسة تاريخ الفن. إنه أمر مؤسف، لكن كل دراستي كانت باللغة الإنكليزية. لقد تعلمت المنهجيات الغربية، وأسلوب الكتابة. ليس من السهل الترجمة! القضية هنا ليست اللغة فقط، بل المصطلحات والمنهجيات الفنية. أحاول قدر الإمكان ترجمة كتاباتي، وآمل أن أجد الوقت للكتابة باللغة العربية أيضًا.




نصب "الحرية" للنحات العراقي جواد سليم (تويتر) 


(*) كمُؤرّخة فنيّة، وأستاذة تاريخ الفنّ في جامعة تكساس، كيف تنظرين وأنت تعيشين خارج المنطقة العربيّة إلى الفنّ العربي المعاصر؟ وما هي خصوصياته ووقائعه بالنظر إلى ما تشهده الساحة الغربية من تحوّلات فكرية وجماليّة؟
على الرغم من التحديات والصراعات المستمرة والمتنوعة، لا سيما اليوم مع الوباء، لم يعد المرء يعيش في مكان واحد. وبينما أعيش وأعمل في تكساس، فأنا في العالم العربي بشكل متكرر، وعلى تواصل مع الفنانين وأعمالهم. وأنا دائمًا أشارك في مشاريع في المنطقة، وقد كان من أهم أهداف إنشاء AMCA (جمعية دراسات الفن الحديث والمعاصر من العالم العربي وإيران وتركيا) هو تعزيز هذه الروابط على وجه التحديد. وبالمثل، فإن الفن العربي المعاصر ليس منفصلًا عن بقية العالم. تكمن طبيعة العالم المعاصر والفن في الترابط بينهما. بالطبع هذا معمم للغاية، ولا ينفي حقيقة استمرار الخصوصيات المحلية. يبدو أن هنالك نوعين مختلفين من توجه الأعمال الفنية التي يمكن التحدث عنها، توجه عالمي يتمثل بعدد من الفنانين العرب مرتبطين ومتصلين بما يسمى المشهد الفني العالمي، ويحملون جنسيات متعددة، مما يسهل تنقلهم، والتوجه الثاني أكثر محلية، ويجذب مزيدًا من الجمهور المحلي. لكن من طبيعة الفن المعاصر، أيضًا، أن يكون فرديًا للغاية، وبالتالي لا يمكننا أن نتحدث حقًا عن خصوصيات "عربية" محددة في الإنتاج المعاصر شبيهة بتلك الخاصة بالحديث عندما كان تحقيق الخصائص العربية هدفًا للفنانين. الأمر أكثر تعقيدًا مع استمرارية بعض إشكاليات القرن الماضي (كمفهوم الهوية والجمهور على سبيل المثال) التي تفصل الإنتاج الحديث عن المعاصر.


التفكير خارج حدود الهوية والجنسية
(*) وُلدت في اسكتلندا، لكنّك من أصل عراقي، وقُمت في أميركا بالإشراف كقيّمة على العديد من المَعارض، وكتابة بحوث ترصد تاريخ الفنّ العراقي ومساره الحديث. كيف يُمكن لغير المُتخصّص في أميركا وخارجها التعرّف على فنون العراق عن باقي الحضارات الأخرى، أو بتعبير آخر، ما هي الخصائص الفنيّة والجماليّة التي تجعل هذا الفنّ مُميّزًا ومعروفًا؟
أعتقد أن خلفيتي المتنوعة (أين ولدت والهويات الثقافية لوالدي، والآن زوجي، وأفراد آخرين من عائلتي) تسمح لي بالتفكير خارج حدود الهوية والجنسية. لا أعتقد أن الفن والحضارة العراقية، أو أي حضارة أو ثقافة أخرى في هذا الشأن، يجب أن تقتصر في تقبلها، أو الاهتمام بها، على مكان أو زمان. من الواضح أن سبب تركيزي على الفن العراقي هو معرفتي الشخصية وحساسياتي تجاه شعبه وثقافته وفنه. لقد نشأت وعشت هناك، ولديَّ ذكريات وأقارب وأصدقاء. بالطبع يمتد الإنتاج الثقافي العراقي عبر تاريخ الإنسانية. ولكن للحديث عن إنتاجها الحديث على وجه التحديد، فإن هنالك عددًا من الجوانب المتضمنة، مثل تراثها القديم والإسلامي، ولكن إبداعات وتطلعات وطنية حديثة. إن تفاوض الفنانين العراقيين حول هذه العناصر من بين أمور أخرى، هو ما يجعل هذا الفن فريدًا وناجحًا في أهدافه.

نصب إنقاذ الثقافة العراقية للنحات محمد غني حكمت 




(*) أيّ صورة ترسمينها للفنّ التشكيلي العراقي المعاصر داخل أميركا، انطلاقًا من عشرات المعارض التي قُمت بتنظيمها، خاصّة بعد الاجتياح الأميركي للعراق، وما رافق ذلك من تصدّع وهدم للعديد من المنحوتات والأعمال الفنيّة؟
مع الأسف، لا يزال فهم وتقدير الفن العراقي الحديث والمعاصر قليل وضيق، ليس فقط هنا في الولايات المتحدة، ولكن بشكل عام خارج العالم العربي. يبدو أنه في عام 2003، فوجئ الإعلام الأميركي وعامة الناس بإدراكهم أن العراق لديه تراث حديث وإنتاج فني معاصر. هذا الموقف جزء من التراث الاستعماري لتاريخ الفن الذي لا يعترف بالتطورات الحديثة خارج أوروبا والولايات المتحدة. أعطيك مثالا معبرًا جدًا: في المحاضرات التي نظمتها حول المتحف العراقي للفن الحديث بعد غزو عام 2003، كان هنالك دائمًا على الأقل شخص يتوقع أن يكون هناك خطأ في الملصق، أو الدعوة، في سرد ​​متحف الفن الحديث بدلًا من متحف العصور القديمة. وبغض النظر، فإن الغالبية تهتم أكثر بمتحف العصور القديمة، وتقبل بلاد ما بين النهرين كتراث للإنسانية، ولكن ليس العصر الحديث! فهو يُنظر إليه على أنه دعاية وطنية في أسوأ الأحوال، أو تقليد للحداثة الأوروبية في أحسن الأحوال. بعد 18 عامًا من الغزو، ومع وجود عدد كبير من فناني الشتات العراقيين في الولايات المتحدة، يبدو أن الناس ما زالوا يتوقعون من الفن العراقي أن يفسر السياسة. فالاهتمام هو في الموضوع، وليس الجماليات. لذلك تهدف جميع المعارض التي أقوم بتنظيمها، أو تنسيقها، إلى تضمين إنتاج الفنانين العراقيين في قانون (canon)تاريخ الفن كشكل متساوٍ من أشكال المعرفة. لكن بالطبع الحديث عن الفن العراقي المعاصر يعقد بالضرورة فكرة الهوية العراقية. وهذا موضوع مطول وشائك.


(*) هل تعتقدين أنّ ذاكرة العراق الفنيّة والجماليّة قد اندمل جُرحها بعد موجات التخريب التي رافقت الاجتياح المذكور؟
إلى الآن يستمر تدمير التراث والممتلكات الثقافية العراقية. الشفاء ليس حتى على الطاولة الآن. ما نحتاج إلى التركيز عليه لا يزال محاولات إيقاف التدمير وتوثيق الماضي قبل نسيانه تمامًا. يبدو أن ذاكرة العالم قصيرة جدًا. ولكن أيضًا لا نريد أن تكون هذه الذاكرة المستعادة جزءًا من التاريخ البعيد، وإنما نحن في حاجة إلى أن تكون حية اليوم في ذكريات العراقيين وبقية العالم.


(*) للفنّ العراقي المعاصر مكانة هامّة وبارزة داخل كارطوغرافية الفنّ العربي، إلاّ أنّ المُثير للدهشة أنّ جماليّة بعض هذه الأعمال تبدو وكأنّها ظلّت مُقتصرة على الأسماء التي عاشت وتعيش في أميركا ولندن وباريس، أيْ داخل مدن غربية بامتياز. إلى أيّ حد في نظرك تستطيع المدارس والمعاهد وكليات الفنون الغربية تقديم تكوين مُختلف ومُميّز للفنّان العراقي، بما يجعل مُنجزه التشكيلي في طليعة الأعمال الفنيّة العربيّة داخل المؤسّسات الغربية؟
مرة أخرى، أؤكد أن المشكلة هنا هي الحصرية الأوروبية ـ الأميركية لقانون تاريخ الفن السائد. إن تاريخ الفن كمجال هو بناء أوروبي يتوقع من بقية العالم أن يتماشى مع قوانينه، والتي لا تقبل "الآخر" على قدم المساواة. المثير للاهتمام هو أن جيلًا جديدًا من العلماء المتخصصين في الفن الحديث والمعاصر من العالم العربي يقومون بإصلاح ومراجعة هذه الشريعة وقوانينها من خلال دراساتهم ونشاطاتهم. قد يكون من الغريب أن تكون AMCA منظمة مقرها الولايات المتحدة، ولكن كما هو الحال دائمًا، فمن الأسهل والأسرع إجراء تغيير فعال في مراكز القوة، حيث الدعم المادي متوفر، والصوت مسموع. أو بمعنى آخر، الاستفادة من مراكزنا، وما هو متاح لنا هنا.
وبالطبع، فإن إنتاج هؤلاء الفنانين العرب الذين يعيشون في المدن الغربية من شأنه أن يسهل وضعهم من ضمن الإنتاج المعاصر لتلك المدن، كما هو الحال بالنسبة لجميع الفنانين من أصول عربية الذين يعيشون في هذه المدن. ومع ذلك، أود أن أقول ليس فقط الفن والفنانين العراقيين، ولكن عددًا كبيرًا من الفنانين العرب معروفون الآن، ويتم تدريسهم واقتناء وعرض أعمالهم في جامعات ومؤسسات فنية في جميع أنحاء العالم. لقد حققنا نحن العلماء بعض النجاحات في تغيير المفاهيم وتنقيح الشريعة الفنية. لكن هنالك كثيرًا من العمل الذي يتعين القيام به. من المهم الإشارة إلى أن ما نفعله اليوم يهدف إلى الدمج الكامل للإنتاج الفني العربي في تاريخ الفن ليس كفن مختلف، أو غريب، ولكن في القبول والفهم الكاملين لديناميكيات تاريخه وإنتاجه ليس بمعزل عن الآخرين، بل بكامل الوعي والاتصال ببقية العالم.


مبادرة ربط تاريخ الفن

رأس للنحات خالد الرحال (artchart.net)




(*) هل ينطبق الأمر نفسه على النقد الفني وكتابة تاريخ الفنّ؟
هنالك رواية عامة مقبولة في الأوساط الأكاديمية الغربية تقول إن تاريخ الفن لا يُمارس في العالم العربي، وهو جزء من السؤال الذي طرحه المؤرخ جيمس إلكينز منذ سنوات: "هل تاريخ الفن عالمي؟". أقول إن هذا ليس سؤالًا يجاب عليه بنعم أو لا. لإيجاد فهم أفضل، أطلقت AMCA، بالتعاون مع جامعة شمال أميركا، وبتمويل من مؤسسة Getty، كجزء من مبادرة ربط تاريخ الفن، مشروع رسم الخرائط لتاريخ الفن في العالم العربي وإيران وتركيا. يهدف المشروع قيد التنفيذ، حيث تأثر مساره مثل كل شيء آخر بـ19ـ COVID، إلى جعل المعلومات حول تدريس تاريخ الفنون في منطقة SWANA (جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا) متاحة للعلماء والباحثين والطلاب وتطوير فهم أفضل لتاريخ الفن العالمي. والأهم من ذلك، سيوفر هذا المشروع بيانات تسمح بفهم أفضل لكيفية إدراك تاريخ الفن وكيف يتم كتابة تاريخ الفن في المنطقة.
النقد الفني أمر مختلف. هنالك قدر أقل من ممارسة النقد الفني في مفهومه القديم. يُمارس النقد الفني اليوم كجزء من كتابة التاريخ. يتعلق الأمر بوضع السياق والتفريغ، وليس الوصف، أو الثناء. لا تزال هذه مشكلة للأسف في العالم العربي (أود أن أضيف في الغرب فيما يتعلق بالفن العربي أيضًا)، حيث يتم الإشادة بالإنتاج بغض النظر.


(*) من المآزق التي تُعاني منها كتابة تاريخ الفنّ العربي غياب مونوغرافيات مُتخصّصة تُعنى بتوثيق وأرشفة هذا الفنّ وإدراجه داخل مؤسّسات ومتاحف، بل وجعله متاحًا للباحثين والدارسين على اختلاف مشاربهم الإبداعية؟ ما رأيك؟
مع تزايد الاهتمام بالفنون الحديثة والمعاصرة في العالم العربي، أصبحت الحاجة إلى التأريخ الميداني أمرًا حيويًا. كما هو الحال الآن، يبدو أن هذا التأريخ تتم كتابته في الغالب في الشتات. وهذا يؤدي، بالتأكيد، الى عدم التوازن، ويحتاج هذا الوضع إلى دراسة الأسباب.
هنالك العديد من المبادرات في المنطقة التي تدعم وتشجع التوثيق والتأريخ. ويقوم العديد من الفنانين بأنفسهم بتوثيق أعمالهم. ويقوم العديد من جامعي الفن بفتح مجموعاتهم للمتخصصين، وهنالك مبادرات للتوثيق وإتاحة الوصول إلى وثائق. إن التضاريس تتغير، وهنالك بالتأكيد إمكانيات جديدة.
ومع ذلك، أود أن أزعم أننا في حاجة إلى التركيز على المنهجيات. لا نريد بالضرورة تشجيع كتابة تاريخ الفن العربي باستخدام المنهجيات الغربية التي لم يتم تفريغها من المفهوم الاستعماري بعد. نحن في حاجة إلى مزيد من البحث، ومزيد من التمويل لهذا البحث في المنطقة. إن تمويل الفنانين أمر رائع، لكن المنح الدراسية تحتاج إلى تمويل متساوٍ. مع ذلك أنا متفائلة.