Print
زكريا الإبراهيم

شوقي بزيع: النصّ الشعريّ لا يُستنفد إطلاقًا بخلاف الرواية

19 أكتوبر 2021
حوارات

 

يقول شوقي بزيع في مجموعته "سراب المُثنّى": "إنّ ذكرى النساء أشدّ سحرًا، في حساب العاشقين، من النساء!". هذا تكثيفٌ، كما أراه، لرؤيته الشعرية، حيث يُحيلُ الفقدان ومتاهاته إلى المتن مجدّدًا، أقصدُ سحر اللغة، الشعر. وهنا لا بدّ من استحضار المتصوفة، وجلال الدين الرومي، وهو يُعلنُ أنّ امتحان العشق هو الفراق، وليس الوصال. كأن حالةَ التمزق واللوعة، البَيْن والفراق، والمسافة أو الهوّةِ الزمانية والمكانية تُشكِّلُ سَنَدًا وظهيرًا لاندلاعِ اللّهفةِ التي يُتوّجُها الشعر.. وتترجمها القصيدة.

في هذا الحوار، الذي أجريناه في بيروت مع الشاعر والناقد شوقي بزيع، لم نسأل عن الجوائز الكثيرة التي حاز عليها، ومنها عكاظ 2010، والعويس 2015، ومدى تأثيرها وارتداداتها على الشاعر وحضوره ونتاجه. كما غابت، وبشكل مقصود، محاورته في تفاصيل قصائده، مما أضاء الجانب النظري والمفاهيميّ بشكلٍ يتلمّسُ الاقتراحات وعمقها. ولن نسردَ عناوين نتاجه الشعري، ونشاطه النقدي والثقافي الاجتماعي عبر ما يقارب العقود الأربعة ويزيد؛ فهي متاحة للجميع؛ ولكن لا بدّ من التذكير أن النشاط النقدي، وخاصةً في مجال الرواية، للشاعر بزيع، كان وراء تكليفه برئاسة لجنة تحكيم جائزة البوكر للرواية العربية 2021.



كتابة الشعر موجعة وممتعة

(*) هل ترى إلى القصيدة كخلاصٍ ومطهَر، أم أنها الأتون الذي لا يتوانى ولا يتوقف عن إشعال القلق الأعمق لما يُحيط بنا من كوارث؟ وهل يأخذ الشعر دور الساحر والمنقذ؟! أم أننا نُعمِّدهُ بنارٍ تنخرُ الشرايين وجذر الفكرةِ والمسام؟

في الواقع، السؤال أقرب إلى وصف الشعر بالشعر. لذلك تصعب الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة، لأنه يقع في قلب العملية الشعرية في حد ذاتها. وكما قلت، وصف الشعر بشكلٍ شاعري يتضمن إجابته من داخله. في أية حال، أن يكون الشعر نوعًا من الخلاص فهذا أمرٌ طبيعي، لأنه ناتج عن مخاض صعب جدًا يعيشه الإنسان في علاقته بنفسهِ، كما في علاقته بالعالم. وهو أيضًا تعبيرٌ عن قلقِ الكائن إزاءَ الوجود، حالة اغترابهِ عن نفسه، وعن الآخرين، عن المكان، وعن الزمان. أعتقد أن الشعر بشكلٍ عام هو محاولة لإعادة التوازن المفقود بين الإنسان وبين ذاته، وبين الأشياء أيضًا. وبهذا المعنى، يصبحُ نوعًا من خلاصٍ فردي ومطهَر. طبعًا هو تعريف أرسطو للفن على أنه نوعٌ من التّطهر، خاصةً في التراجيديا، أو المأساة. وبالتأكيد، فالفن، بما هو "تنفيس" عن كل ما يعتملُ داخلنا من مآسٍ، من مكبوتات، من مشكلات، يأخذنا إلى حالة من حالات الّتطهر. كما هو حال الدموع، أو البكاء أحيانًا. وأعتقد أكثر من ذلك هو طريقتنا في مواجهة الأشياء التي يصعب مواجهتها في الواقع، حين لا نملك الطاقة بوصفنا خارج السلطة، لأن الشعر هو سلطة، لكنها سلطة هشّة، سلطة رمزية ووهمية مُتخيلة.

نلجأ إلى هذه السلطة الرمزية في ردِّنا على الموت. وفي ردنا على إشكالات الحياة ذاتها، وفي ردنا على الهشاشةِ أيضًا؛ وفي عجزنا عن تغيير العالم. ففي الحدِّ الأدنى الشعر خلاصٌ فردي للشاعر. أما أن يكون الشعر خلاصًا عامًا فهذه مسألةٌ نسبية جدًا. هو لن يأتي إلى الجائع بخبز، ولن يأتي إلى الخائف بعمليةِ إنقاذ، ولن يأتي إلى الغريق بخشبةِ خلاص. ولن يأتي إلى الشعوب المضطَهدة بحلٍ سحري. ولكن، على الأقل، هو يُوسِّع مساحة الأمل؛ يوسع مساحة الحلم. وعبر عملية التّماهي بين القارئ والشاعر، أو القارئ والنَّص، يمكن للقارئ أن يشعر بأن الشعر هو حالة من حالات استعادة التوازن من جهة، وتوسيع رقعة الجمال على الأرض من جهة ثانية، عن طريق ما يُسمى "لذّة النص"، وهذه تسمية رولان بارت، وهي لذة مزدوجة يشعر بها الكاتب والقارئ، على حدٍ سواء.

والآن، هل يأخذ الشاعر دور الساحر والمنقذ؟ قلتُ إن فكرة الإنقاذ رمزية جدًا. ولكن دور الساحر، بشكلٍ من الأشكال، صحيح، لأنه يجب هنا أن ننتبه إلى أنّ القرآن الكريم ينفي عن النبي صفتين اثنتين، هما السحر والشعر، ودائمًا هناك تأكيد: ما هو بشاعر، وما هو بساحر. هذا دليل إلى أن هنالك طبيعة سحرية للشعر. ولذلك، فالقول الذي يُنسب إلى الرسول، ومنهم من ينسبه إلى عمر بن الخطاب، حين سمع أبياتًا لامرئ القيس: "إن من البيان لسحرا"، يؤكد أنّ هذه القدرة على تغيير العالم، وهذه القدرة على إعادة تشكيل الأشياء، وعلى فعل الغواية من خلال اللغة، وعلى اجتراح عوالمَ غير متوقعة عبر المخيلة، مدهشة، مفاجئة. هذا فعلٌ سحريّْ. ولذلك يأخذ الشعر، بشكلٍ ما، بُعدًا سحريًا. كما هو حال الأسطورة.

وبالتأكيد، الشعر شبيهٌ بالولادةِ بالنسبة للمرأة. وكلّ مخاض هو عملٌ موجع؛ لكنه عملٌ ممتع أيضًا، لأنّ فعل الخلق في حدِّ ذاته يخلقُ متعة كبيرة بالنسبة للشعر. تمامًا كما هو الحال بالنسبةِ للولادة، يشعر الشاعرُ بشعور مزدوج من الألم واللّذة.

 



(*) المكان عند الشاعر شوقي بزيع نبضٌ آنيٌ، أم ذاكرةٌ مُعاشة؟ ترى ما البرزخ بينهما؟! هذا سيُحيلني إلى تكثيفٍ وتداعٍ في السؤال.. ما هو الفقدان؟!

السؤال عن المكان شديد الأهمية بالنسبة لشعري. وهو يكتسب أهميته من مركزية هذا البُعد في تجربتي الشعرية، لأني من الذين احتفوا كثيرًا بالمكان، الذي شكّل ظهيرًا لكتابتهم.

سواء كان موضوعًا مباشرًا تمّ الاحتفاء به عن طريق استعادة الطبيعة، وأماكن متعددة ذات أسماء عَلَم وهويات في قصائدي، أو تمّ كاستعارة وكرمزٍ وخلفية للكتابة، ففي كلا الحالَين أعتقد أني مُصاب بما يمكن تسميته بـ"لعنة المكان". وهو شبيه بما يسمى بـ"لعنة السُلالة"، واللعنة هنا بالمعنى التأويلي، فأنا مشدودٌ هنا بكُليّتي إلى المكان الأول الذي هو المكان التأسيسي، أو الأسطورة المؤسّسة للحياة. والحياة بالنسبة لي هيَ التفاتة دائمة في اتجاه تلك الأماكن التي يُحذرُ الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار من خسارتها، أو من خساراتنا لها. لأنه من دون العودة إلى ذلك المكان الطفولي تصبح الحياة صحراءَ قاحلة. وكذلك الأمر مع اللغة أيضًا.

أتذكر هنا قولةُ ابن عربي: (المكان هو زمانٌ متجمد؛ وأن الزمان هو مكانٌ سائل). هذا يعني أن المكان يحضرني في علاقتهِ بتفاصيل الذاكرة... وهو ما يحيلُنا إلى القسم الأخير من سؤالكَ حول الفقدان. المكان المفقود هو ما يُعوّلُ عليه، الحبّ المفقود هو ما يعول عليه. كل ما هو مُمتَلك لا يعول عليه، خاصةً بالنسبة للفن والإبداع. لذلك يتحول الفن، والشعر في صميمه، إلى حربِ استردادٍ دائمة لكل ما خسرناه في أزمنة الماضي السحيقة.

(*) تحدثتَ عن اللحظةِ المواتية للكتابة الإبداعية. يبدو أن كثيرًا من العِناد تمتلكها لحظاتٌ أُخَر استطاعت أن تغيب عن التحنيط "مجازًا" لصالحِ العيشِ ونبض الآن. أيهما الأثمن والأوضح دلالةً وامتلاءً لحاملهما؟!

بالنسبة للحظات المواتية للكتابة، هذا سؤالٌ له علاقة أيضًا بطقوس الكتابة. وهو أمرٌ يختلف بين كاتب وآخر، بين شاعر وآخر، بشكل يصل إلى حدود التناقض التّام. والواقع أن طقوس الكتابة عندي شديدة التعقيد، بحيث أنني أكتب أحيانًا لفترة متواصلة قد تمتدّ لأشهر، أُنجزُ فيها مجموعة شعرية كاملة. لا أفرغ من قصيدةٍ إلّا لأبدأَ بغيرها، من دون أن تكون هنالك أيّ صلةٍ بين الاثنتين، ولكن أكونُ في حالة تهيؤٍ وامتلاء غير عادية. ومن ثم أخلدُ إلى صمتٍ قسري قد يستغرقُ سنتين أو ثلاثًا، من دون أن أكتب أي شيء. ولكن، على الأرجح أكون خلالها في فترة كمون، أو تخزين، خاصةً أنني أشغل تلك الفترة بالقراءات المتواصلة.

أما في الإطار التفصيلي، فأنا لا أكتب إلا في النهار. لا أكتب ليلًا على الإطلاق. في الليل أحسّ أنني قد فرغتُ كليًا من كل طاقة، من كل شحنة إبداعية. لذلك فهو يكونُ للاستراحة، ولتزجية الوقت، للقراءة، أو مشاهدة التلفاز، أو أي شيء آخر.

أمّا خلال النهار فأستطيع أن أكتب، بعد استراحة الليل، بعد نومٍ طويل يوفرُ لي سُبُلَ الراحة والاستعداد للكتابة، فتكون الأمور إيجابية. لكن الأصعب من ذلك أنني ومنذ أربعين عامًا لا أكتبُ إلّا في مقهى "دبَيبو" على شاطئ الروشة. ليس هذا فحسب؛ بل جالسًا إلى الطاولة نفسها، وعلى الكرسيّ نفسه من دون أي تعديل. وأكتب على ورقٍ أبيض، وبحبرٍ أسود. وقبل أن أشرعَ في الكتابة يجب أن أقرأ، على الأقل شعرًا، في مجموعةٍ، أو أكثر، لنصف ساعة.. وكأنني في ذلك ساعتئذ في حالةِ شحن الطاقة الكامنة في داخلي، وليس بالضرورة أن أتأثر بما أقرأه. ولكن هي فقط عملية تحفيز، أعتقد أن كثيرًا من الشعراء يعرفونها ويعيشونها. لا أكتب القصيدة دفعة واحدة. أحيانًا تستغرق أيامًا وأسابيع. والقصائد التي كتبتُها دفعة واحدة هي قصائد قليلة جدًا. القصائد عندي تتعرض إلى كثير من التغيير، حذفًا وتعديلًا، وإعادة كتابة. وأحيانًا عندما لا أرضى عن قصيدةٍ أتركها بالكامل، ولا أعود إليها، لأنّ عملية الترميم أصعب كثيرًا من كتابة قصيدة جديدة. هنالك أمرٌ آخر؛ وهو أنني أكتب على امتداد الصفحة البيضاء، وعلى جوانبها، ولا أتركها إلا حين تصبح سوداء بالكامل، وغالبًا المناطق الهامشية، أو الأجزاء الهامشية من الصفحة، تغريني أكثر للكتابة.





كثير من الشعراء المبدعين نُقّاد أيضًا

(*) التّلقي الفني عملٌ إبداعي، كما أراه. وقِلّةٌ تُجيدُ هذا التّناعم بين الإنتاج والتلقي الإبداعي. وأراكَ منهم، ناقدًا وناثرًا، وشاعرًا أولًا طبعًا. كيف يُحيلُ الأول إلى الآخر، أم أنهما ينجدِلانِ معًا بالنسبة لتجربتك؟

أوافقكَ الرأي على أن التلقي عمل إبداعي يوازي من حيث أهميته عملية الكتابة. أصلًا لا قيمة لأيّ أثر فني، أو كتاب، أو قصيدة، إذا لم تجد من يتلقاها، أو يقرأها. ولذلك خطرَ لبعض النّقاد أن يُشبِّهَ الكتاب غير المقروء بالكتاب المَيْت، وحين نفتحهُ فنحن نُحييه. إذن، القراءة هي بعث الكتاب من سباته، بما يشبه حبة القمح التي تنبعث من رقادها، أو بما يشبه زحزحة المسيح لصخرة الموت. فكل قراءةٍ للعمل هي قيامةٌ له. وهو أمرٌ يحتاجُ ذائقة مرهفة، ويتطلّبُ كدْحًا وتربية ونضوج. لذلك تجد أن أفضل القرّاء هم الكتّاب أنفسهم. وأفضل النّقاد أيضًا هم المبدعون أنفسهم، لأنهم يعرفونَ آلياتِ العمل الفني، وطقوسه وخلفياته، ولا يحتاجون في ذلك إلى الدراسة الأكاديمية، كما هو الحال مع النقاد الأكاديميين. ولكنهم يختبرونه بالروح والحدس، وبالمعايشة الداخلية. لذلك ترى أن كثيرًا من الشعراء المبدعين هم نُقّاد أيضًا. وهذا ما ينطبق على كتاب عالميين، مثل شيللر، كولريدج، ت. إس. إليوت. وينطبق أيضًا على كتاب عرب ومبدعين، مثل أدونيس، الذي هو ناقدٌ ومفكر بقدر ما هو شاعر. طبعًا، هنالك نماذج أخرى، ولكن يحضرني أدونيس كحالةٍ نموذجية للمزاوجة بين الإبداع الأدبي وما بين النقد، هو مشروع ثقافي متكامل.

في ما يخصني، أحاول أيضًا الاشتغال على نصوص موازية للشعر، لها علاقة بالنقد والدراسات، وتعقّب ظواهرَ أدبية واجتماعية مختلفة. ينسحب هذا أيضًا على علاقتي بالرواية. صحيح أنني لم أكتب رواية في السابق، ولكنني شغوفٌ بالروايات، وأقرأها بشكل دائم. وطبعًا هنالك كتابات نقدية حول الأعمال التي قرأتها منذ عشرات السنين.

(*) نصوصك النثرية، التي قرأتُ جزءًا قديمًا منها، تَشي بروائيٍّ خاص، وقلتُها لكَ منذ سنوات بعيدة، كما قالها آخرونَ أيضًا، أين جديدُكَ من هذه الهوية، أو التّهمة الممتعة الآن؟!

في ما يخصّ سؤالك حول كتاباتي النثرية، وما إذا كانت تُشكل إرهاصًا لعملٍ روائيّ مقبل، أو كتابةٍ روائية لاحقة، في الواقع هذا السؤال يُطرح عليّ باستمرار. وينطلق السّائلون من كتاباتي النثرية التي سبق أن نشرتها في غير منبرٍ ثقافي عربي ولبناني. ولكنني أفصل إلى حدٍ بعيد ما بين النثر الأدبي الذي ينبغي على الشاعر أن يتقنهُ بوصفهِ الوجه الآخر لشاعريته، وبين الكتابة السردية الروائية، لأنّ النثر، في تقديري، هو محكّ الشاعر الفعلي. وهذا ما قاله ت. إس. إليوت بأنهُ عليك إذا ما شككتَ بقدرة شاعرٍ من الشعراء، أو بتَلطّيهِ خلف الأوزان والقوافي والإيقاعات والتّنظيرات التعبيرية والبلاغية، عليكَ أن تعود إلى نثرهِ لترى فيه معدنه الحقيقي، وقماشته الحقيقية. لكن الرواية ليست محكَّ الشعر على الإطلاق، لأن الشاعر، في تقديري، يصعبُ أن يكون روائيًا كبيرًا. يمكن له أن يكتب أعمالًا في السّرد متوسطة الأهمية. لكن أن يكون روائيًا كبيرًا، فهذا يعني أنّ عليه أن يُغادر الأنا النرجسية التي تقفُ وراء شعره، على اعتبار أن الشعر هو مسألة ذاتية وداخلية بامتياز. أما في الرواية فعلى الشاعر أن يتماهى مع ذوات الآخرين، وهو ما لا يستطيع الشاعر أن يفعله أبدًا. كما أن لغة السرد تقوم على ملاحقة التفاصيل والجزئيات، وعلى مَطِّ اللغة إلى حدودها القصوى. في حين أن الشعر هو اختزالٌ وتكثيفٌ ولَمْحٌ تكفي إشارته كما يقول البحتري.

أعتقدُ، إذا ما كان لي أن أكتبَ عملًا سرديًا ما؛ فيمكن أن أكتب سيرتي الذاتية، لأن العمل الوحيد الذي يمكن للشاعر أن يتقنهُ هو السيرة، باعتبارها تركيزًا على الأنا، وتمحورًا حولها، وهو ما يُجيده الشاعر بامتياز.

هذا فضلًا عن القول إنّ الحياة أقصر من أن تتّسع إلى نوعين أساسيين من الإبداع، أعني بهما الشعر والرواية، فكل منهما يتطلب أكثر من حياة واحدة؛ فكيف إذا تعلق الأمر بتقسيم الحياة بين هذين الخيارَين البالغَي الخطورة.





(*) الشاعر شوقي بزيع معروفٌ بولعهِ في تلقي وقراءةِ الرواية نقديًا. هل كان هذا الاهتمام وراء ترؤسك لجنة تحكيم جائزة البوكر للرواية العربية 2021؟ حدثنا عن هذه التجربة، متاهاتها، متعتها، إرهاقاتها؟

لا شك أن اختياري لهذا التكليف كان بناءً على تتبّع المعنيين بالأمر لكتاباتي النقدية السابقة، حيث أنني شغوفٌ بقراءة الرواية، ولديَّ تجربة طويلة في هذا المجال تمّت ترجمتها عبر عشرات المقالات التي نشرتها منذ أكثر من ثلاثة عقود، وما زلت أنشرها حتى الآن.

بالنسبة للتجربة، كانت من المتعة والإرهاق الشديد، المتعة المتأتية من قراءتي لأكثر من مئة وعشرين عملًا سرديًا، نصفها على الأقل يتمتع بالمواصفات الفنية المطلوبة، وبالتالي مدعاة للكثير مما يسميه رولان بارت "لذّة النص"، ومتعة القراءة. أما الإرهاق فناجمٌ عن أنّ شعوري بالمسؤولية كان يحرمني كثيرًا من متعة القراءة، لأني كنت أعمدُ إلى تدوين الملاحظات المتعلقة بالنصوص السردية، ووضع علامات تقريبية على تلك الأعمال، والمقارنة في ما بينها مع أعضاء لجنة التحكيم، وكانت تأخذ أوقاتًا طويلة. وبشكل عام، أستطيع أن أقول بأنها تجربة هامة جدًا ومفيدة لي، اختبرتُ خلالها قدرتي على أن أكون موضوعيًا، وأن أتعامل مع النصوص كنصوص فنية بمعزلٍ عن انتماءات أصحابها الجغرافية، وبمعزل عن أسمائهم، وعن نجوميتهم، أو عن المكانة التي يحتلونها في السابق. كان مرجعي الأول والأخير هو العمل الذي أقرأه، ومستوى هذا العمل ومكانته الأدبية.

عن الشعر والرواية

(*) الشعر لبُّ الإبداع اللغوي، لأنه لا يحيلُ إلى غيره، من خلال هواجس القصيدة وعمارتها وجمالياتها، ولأنه يتجاوز التّزمين، والقرائن كثيرة تاريخيًا. الروايةُ يغيب حضورها، أو يخفت، حتى عند متلقٍ خاص مأخوذ بالحكايات والسرد والخيالات واستعارةِ حَيَوات الآخرين. ولأن الرواية تُحيلُ إلى ضروبَ واحتمالاتٍ عديدةٍ لن تتجاوز مقام الشعر الأول، والإبداع عمومًا، يتناغم الفنان ليُكمل بعضه الآخر. ما التعليق؟!

لا أعتقد أن فنًا من الفنون يمكن أن يأخذ مكان فنٍ آخر، بل يكمّله ولا يلغيه.

الرواية الآن تتطور بشكلٍ مضطرد بسبب طبيعتها، فهي تسمح للقارئ بأن "يُنفِّس" عن مشاكله وهمومه الشخصية، وأن يأنسَ إلى حياةٍ، وهي ليست حياته بالذات، ولكنها تسمح له بأن يستقيل من همومه ومشاكله، ويعيشُ المُتخيَّل السردي. وهي تسمح له بأن يُغادر مصائر الأبطال الذين يتماهى معهم في حالات الرَّغدِ والسعادة؛ وأن يتخلى عنهم وهم يواجهونَ مآزقهم الكارثية! وهذا شبيه برغبة الحالم بأن يستيقظ عندما يَعرض له كابوس ما. فالبشرية المُتعَبة بعد القرن الفائت المثقل بالحروب والكوارث والأوبئة تريدُ أن ترتاح. والشعرُ لا يترك لها مكانًا للراحة باعتباره تعبيرًا مكثفًا ولغةً في اللغة، وبخاصة شعر الحداثة الذي يعتمد الإيجاز والتأويل، والذي يستنفر وعي القارئ المعرفي، فهناك صعوبة ومتعة، في آنٍ معًا، في تلقي هذا النوع من الشعر. وهي متعة نخبوية لا تختبرها إلّا الذائقة العالية.

نعم. بالتأكيد أوافقكَ الرأي أن الشعر يحملُ قابلية الصمود في وجه الزمن أكثر؛ لأن النص الشعري لا يُستنفد على الإطلاق، فعندَ قراءتكَ قصيدةً لامرئ القيس مثلًا، أو المتنبي، أو السيّاب، فأنت لا تفرغ من قراءة القصيدة أبدًا. وكلما عاودتَ القراءةَ تجدُ نفسك أمام قصيدة جديدة، وهذا ما يسميه رولان بارت، كما أسلفنا، لذّة النص، وهو أمرٌ يجسده الشعر بكل المعاني. في حين أن الرواية، مهما بلغت جمالياتها، لا تستطيع قراءتها لأكثر من مرةٍ، أو اثنتين، في أحسن الأحوال.


(*) في عام 1988، راودني السؤال لحظةَ إعلان فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب، ترى لماذا لم تُمنح الجائزة لشاعرٍ عربي على كثرتهم وجدارتهم؟! هل يرجع السبب إلى احتفاءِ الغرب بصنيعهِ.. الرواية؟! أم أنّ...

أنتَ تعلم أن الوضع قُبيل منح الجائزة كان مختلفًا تمامًا. فالإشاعات التي تسربت إلى الإعلاميين العرب أن يتحضّروا ويستعدّوا للكتابة عن أدونيس. كان احتمال فوزه عاليًا جدًا. وهذا ما أخبرني به عدد من الصحافيين العرب. هذا لا يعني أن نجيب محفوظ لا يستحق الجائزة، وهو القامة الروائية العالية بكل المعايير، ولكن لا أعتقد أن الغرب كان معنيًّا أن يُغيّب الشعرية العربية، وأن ينتصر للسرد العربي، بقدر ما كان معنيًا بالاسم، وبربط الجائزة بأمور سياسية. نحن نعرف جميعًا بأن نوبل ولجنتها يأخذان في الاعتبار ما رجّح وغلّب فوز نجيب محفوظ، وهو "كامب ديفيد"، الذي كان قد أُنجز قبل ذلك بسنوات، وكان محفوظ مؤيدًا لهذا الاتفاق. هذا الأمر كان يبدو بمثابةِ جائزة لمصر في الوقت ذاته. والأمر الواضح أن المركزية الأوروبية ترى إلى العالم العربي بوصفه هامشيًا على المستوى السياسي والثقافي، وهم لا يريدون للعرب أن يحصلوا عليها مرةً ثانية قبل مرور عقود عدّة (الحوار تمّ قبل إعلان نتائج نوبل للآداب 2021)، وهو أمرٌ فيه كثير من التّجني، لأنني أستطيعُ أن أفصل بين مكانة الأمة على المستويين السياسي والاقتصادي، وحتى العسكري، وبين مكانتها الإبداعية. بمعنى، ليس هنالك من علاقة طرديةٍ بين الموقع الحضاري للأمة في التاريخ، وأهميتها، وبين نتاجها الإبداعي، وخاصة في مجال الشعر، الذي هو لغة قَبْلِيّة، وعودة إلى اللغة الصافية والينابيع الخام. وهذا يعتمد على عناصر تختلف تمامًا عمّا هو الحال في مجال التّقانةِ والتطور العلمي. والدليل على ذلك هو أميركا اللاتينية، وهي ضمن العالم الثالث، وفي الوقت نفسه تمتلكُ مخزونًا عاليًا من الإبداع، وتقع ضمن الصفّ الأول على هذا المستوى، في كل المقاييس.

(*) الجِدّةُ وتجاوز الذات المستمرَّان هاجسٌ أعمق للمثقف والشاعر الأصيل. كيف ترى إلى ذلك؟

كلّ مشتغلٍ بالكتابة، وخاصةً في المجال الإبداعي، يعمل على جبهتين متوازيتين، الأولى تجاوز النتاج السابق عليه عند الآخرين كي يبرّر معنى وجوده وكتابته، وأن لا يكون نسخةً لما كُتبَ من قبل، لأن على الكاتب أن يشكل إضافةً ما، لمسة مختلفة، إذا لم يكن قادرًا على اجتراح لغةٍ جديدة.

والجبهة أو النقطة الثانية أن يكون في صراعٍ مع نفسه، لا يُعيدُ كتابة ما سبق وكتبه. وهو للأسف ما ينسحب على كثير من الكتّاب العرب الذين يكتبون عملًا شعريًا واحدًا، ثم يبدأون بتكراره والتنويع عليه. وهذا ما ينطبق على الرواية، وبشكل كبير. على الكاتب أن يعتني بتطوير أدواته، وتطوير تجربته، وأن تكون كل مجموعة جديدة إضافةً حقيقية لما سبقها، وإلا فلا مبرر لمراكمة الأعمال، كما يفعل كثير من الشعراء.






"مرثية الغبار" نقلة حقيقية في شعري

(*) "سرابُ المُثنّى"، و"مرثية الغبار" ديوانَا حبٍّ ولوعة. كأنهما الأقربُ إليك؛ بما يحملانه من ذاكرة وخصوصية. هل تُحدثنا عنهما بنميمةِ الشاعر عن ذاته وتجربته؟!

لا أرى أن هذا التوصيف ينطبق على "مرثية الغبار"، لأنها متنوعة الموضوعات والمقاربات، فهنالك احتفاءٌ بالبيت، وتحمل العنوان ذاته. وهنالك قصيدة عن العمر تحمل عنوان "الأربعون". وهنالك "الأسلاف"، موضوعات متنوعة، وفيها قصيدتا حب لا تكفيان لوسمها بشعر الحب بالمعنى الحصري، بمعنى المرأة. مع أن كل شعر هو شعر حب، وهو شعر لوعةٍ، بوصفه تعبيرًا عن حالة من الفقدان لزمان، أو مكان، أو للحرية، أو أي شيء من هذا القبيل.

"مرثية الغبار" نقلة حقيقية في شعري، من حيث الانتقال من محور المرأة، أو الجنوب، أو المقاومة، والمكان، لمقاربة قضايا أعمق وأشمل تتصل بعلاقة الإنسان مع نفسه، ومع العالم والأماكن والأزمنة. لذلك يُعد الديوان، وخاصة القصيدة التي تحمل العنوان ذاته، والتي حازت على جائزة عكاظ للشعر العربي، بمثابة مفصل أساسي في تجربتي الشعرية.

أما "سرابُ المُثنّى" فقد كتبته إثر قصة حب انتهت بشكل دراماتيكي مع فتاة تصغرني بثلاثة عقود. وقد اكتُشفَ أمر العلاقة وتمّ الحجز عليها وإبعادها من قِبَل ذويها، كما يحصل في العصور القديمة. هذا الإخفاء جعلني أكتب المجموعة كاملة. ويبدو من عنوانها عنايتها بسرابية العلاقة مع المرأة. وهي عبارة عن قصائد حب تشتغل على الفقدان بشكلٍ أوسع من علاقتي المباشرة مع الفتاة المقصودة. المجموعة تذهبُ في عمقها صوب الحب بمعناه الجوهري والعميق، بما هو تحقيق للذات وامتلاءٌ بالوجود، وفيما هو قتلٌ لكل حالات الفراغ الزماني والمكاني، وفي الوقت نفسه بما هو لحظة التّماس مع الموت، عندما يكون الجسد في كامل جهوزيته؛ والروح في كامل يقظتها وشغفها، تكون هنالك إمكانية كبيرة لتصدّعِ وجود الإنسان الجسدي المباشر، والتقائه بالعدم، أو الموت.


(*) كنتُ أحاول الابتعاد عن إثارة هذا التساؤل، لكثرة تناولهِ ووضوح أبعاده، لأراني مضطرًا لمُناورته بهدأةٍ، لأنه شكّل في مرحلةٍ خاصة ومعروفةٍ بزخمها وشعارات حضورها اللافتَ آنذاك: ما أخبار شعراء الجنوب (اللبناني)؟ لا بدّ وأن تراخت التجربة مع انزياحات الحدث وتفاصيل الأيديولوجيات. ما أحاولُه الآن مجرد التفاتةٍ إلى مصائر عديد الشعراء، وتلاوين حضورهم في المشهد الشعريّ الآن. طبعًا لن أبحث عن إجاباتٍ بالنيابةِ عنهم، ولكن عن تجربتك الشخصية كجزءٍ وقطبٍ من هذه المجموعة؟!

هذه الظاهرة تمّ التركيز عليها في السبعينيات، لأن الجنوب آنذاك كان في دائرة الضوء، خلال المواجهة الضّارية بين المقاومة الفلسطينية، وبين الاحتلال الإسرائيلي. وطبعًا كان أهل الجنوب منخرطينَ مع المقاومة في مواجهة الاحتلال، وترافقَ ذلك مع تراجع اليسار التقليدي، وصعودِ اليسار الجديد، خاصة بعد هزيمة حزيران، فكان لا بدّ من ثقافة تعكس هذا التّوجه، ثقافةٌ قائمة على الرفض، والانحياز إلى التغيير، والبحث عن أفق مختلفٍ للصراع.

في تلك الفترة، كان شعراء المقاومة الفلسطينية قد برزوا إلى الضوء في ستينيات القرن المنصرم. وبالتّوازي، تمّ التركيز على مجموعة من الشعراء الذين ينتمون إلى الجنوب اللبناني، فبَدَوا وكأنهم ظاهرة لافتة ومميزة. وقد نسيَ بعضهم أن الجنوب كان منجمًا لشاعرياتٍ تاريخية تعاقبت منذ مئات السنين. وبدَت تعبيرًا عن إرثٍ غني جدًا من الثقافة، ثقافة الاعتراض، مُضافًا إليها أنّ الجغرافيا المعتدلة، والتي تشكّل مزيجًا من صلابةِ الجبال المتوسطة الارتفاع، ومن الانفتاح على الخارج من خلال البحر؛ وأيضًا المواجهة مع الكيان الإسرائيلي، الأمر الذي خلق قدْرًا كبيرًا من المعاناة؛ إضافةً إلى تهميشِ الجنوب خلال القرن التاسع عشر في فترات القائمقاميتَين والمتصرفية ولبنان الصغير، وسوى ذلك. وحتى ظهور لبنان الكبير، عُوقِبَ الجنوب لأنه كان مؤيدًا للدولة التي أعلنها فيصل ابن الشريف حسين في نهاية الحقبة العثمانية. كلّ ذلك شكّل عناصر مُهيّأة لشاعرية الجنوب العالية، التي بدَت واضحة تمامًا في بداية سبعينيات القرن المنصرم. في تلك الفترة، تلقّفَ حبيب صادق الشاعريات؛ وكانَ قد أنشأَ المجلس الثقافي للبنان الجنوبي؛ وكان يُقامُ مهرجان سنوي للشعر في نادي الشقيف في النبطية. وأحيانًا في صور، أو بيروت (المركز الرئيسي للمجلس). كلّ ذلك أسهم في تسليط الضوء على شعراء الجنوب لغاياتٍ شعرية من جهة وإعلامية و"نضالية" من جهةٍ ثانية. لكن مثل هذه الظواهر لا تستمر طويلًا بعد انتهاء الرافعة الأيديولوجية التي شكّلت ظهيرًا لشعراء الجنوب، ولم يتبق الآن سوى المواهب الحقيقية البعيدة من كل سَنَدٍ أيديولوجي، فكان أنْ تراجعت كل الأسماء المُتكئة إلى هذا الظهير، أو السند إلى الظلّ؛ وبقيت الأسماء التي استطاعت تخطي هذا البُعد الجِهَوي والجغرافي لتتلمّسَ الشعر في مناطقَ مختلفة، وأكثر عمقًا وبحثًا عن الأسئلة الوجودية الكبرى التي يطرحها الإنسان على نفسهِ، وعلى العالم. الأسماء المتبقية هي تلك الخارجة من عباءة "الأدلجة"، ووجدت نفسها في مكان آخر له علاقة بتطوير البعد الجمالي للّغة، وفي بلورة تجاربها الخاصة، وفي طرح أسئلتها المختلفة على العالم.

شوقي بزيع في "ساحة الشهداء" وسط بيروت مشاركًا في إحدى تظاهرات "ثورة 17 تشرين" مع ابنتيه



الكتابةَ عزاء شخصي للإنسان

(*) يقول سارتر في كتابهِ "ما الأدب" مُحاوِلًا تعريفًا كارثيًّا وتراجيديًا، رغم أحقيتهِ من منظورٍ أو رؤية مختلفة "الشاعرُ الأصيل يختارُ الخسارةَ حتى الموت كي يربح. إنّ الشاعرَ متأكدٌ من الفشل الكلّيّ للعمل الإنساني، ويُعدُّ نفسهُ للفشل في حياته الخاصة، حتى يكون شاهدًا بهزيمته الخاصة على هزيمة الإنسانية عامة". كيف تقرأ هذا البيان؟!

سارتر يُركّزُ دائمًا على أن الأدب لا يعيشُ خارج المجازفة، وأن ّ على الشاعر، أو الكاتب، أن يُغامر بكل ما لديه من أجل أن ينتصر المعنى الإنساني، حتى لو كان هذا المعنى مأساويًا في عمقه. فمن خلال تركيزه على الأدب الملتزم، ومفهومه، كان يحاول أن يقول إن الإنسان لا يمكن له أن ينجو وحيدًا في سفينة غارقة. وهذا شبيه بكلام أراغون "منَ الصعب على الإنسان أن يكون سعيدًا وسط الشّقاء العام". ومع ذلك، عليه أن يحاول، فهو كائنٌ تراجيدي محكومٌ بالموت. أنا أرى أن الكتابةَ عزاء شخصي للإنسان، وأنها تُشكل، إضافةً إلى أنها متعته الخاصة، طريقة في الاحتيال على الموت، في تحقيقِ، أو إثباتِ وجوده، وفي مُقارعتهِ للعدم، وَلَوْ بشكلٍ رمزي.

(*) يميلُ كثير من الشعراء إلى تعريف الشعر والشاعر من خلال الشعر نفسه، من خلال القصيدة. وهذا ما حصل معك، ومعي أيضًا. قصيدتك "الشاعر" من مجموعة "سماء مؤجلة" تعجّ بالتناص والإحالات، على غير مستوى. هل تعتقد أن القصيدة تُجيب وتشرح حالة الشاعر الجوّانية، وآليات عمل الشاعر الخفيّة، أم أننا نضطر إلى الهوامش والشروحات، ومنها هذا الحوار؟!

أنا لم أحاول تعريف الشاعر بقدر توصيف حالة الشاعر في الوجود. هو شكل من أشكال سيزيف، هو يحمل الصخرة إلى قمة الجبل رغم معرفته أنه لن يصل. ومع ذلك، فإن هذه المحاولة التي تكرر نفسها بشكل دائم هي التي تعطي للحياة معنى؛ وهي المسافة الفاصلة بين حياة الإنسان وبين موته، لأنه من دونها لن يستطيع العيش على الإطلاق.

(*) إذن، فالشعر يعطي أملًا حتى لو كان نسبيًا.

أنا لم أتحدث عن الشعر في قصيدة "الشاعر" وحدها، بل لديّ كثير من القصائد، مثل "لمن يكتب الشعراء"، و"كيف أنصبُ فخاخًا لما لا يرى"، وكلها تحاول مقاربة موضوعة الكتابة، وتُحوِّل الكتابة إلى موضوع للكتابة. وهذا موضوع صعب، ولكنه يقع في قلب الشعر، لأننا حقيقةً حين نتقدم للكتابة لا نعرف ما الذي سنكتبه، ونكتشف ذلك أثناء كتابتنا نفسها. كما أننا نصنعُ أشراكًا لشيءٍ غير مرئي، وهنا تكمن صعوبة الموضوع. ولا نعرف متى تُداهمنا لحظة الكتابة، وعلينا أن نكون متأهبين لاصطيادها، بمعنى أنها تشبه ليلة القدر عند المسلمين، أو ليلة الغِطاس عند المسيحيين. شيءٌ لا نعرف موعدًا له، ولا مكانَ ولا لحظة انبثاقه، وعلينا أن نظل متأهبين لحدوثه بشكل دائم.