Print
أشرف الحساني

ميس الريم قرفول: حين تتبع حدسك الشعري تكون صادقًا

5 أكتوبر 2021
حوارات

 

بين رهافة الشعر وحدّة السرد ترسم الشاعرة السوريّة ميس الريم قرفول في كتابها الجديد "لا تموت، لا تطير: يوميّات شاعرة تدرس الحقوق" (المتوسّط، 2021) صورة مطابقة عن يوميّاتها في فرنسا وهي طالبة تدرس الحقوق. الفتاة التي وصلت في العشرينات من العمر إلى مدينة تولوز الفرنسيّة أضحت اليوم من الأسماء الهامّة داخل الشعر السوري الجديد، الذي برزت معالمه على سطح المُدوّنة الشعريّة العربيّة منذ بداية الربيع العربي. لم تكُن ميس الريم تُفكّر أنْ تُصبح شاعرة، لكنّها وجدت نفسها تعشق الكلمات منذ رحيلها عن سوريّة. شخصيًا أجد في شعر ميس الريم الكثير من الاشتغال الجماليّ المُبكّر وهي تتناول الحرب. كل هذا في وقتٍ انصاعت في تجارب سوريّة عديدة أثناء الثورة إلى نوعٍ من المُباشرة والتقريرية في رصد يوميّات الحرب وآلامها، إلاّ أنّ الشاعرة وباحتكاكها منذ عملها الأوّل "حين ساعدنا الحرب لتعبر.." بالشعر الفرنسيّ والمشاركة في مهرجانات عالمية كبرى عمدت إلى ابتكار لغةٍ خاصّة بها، فهي لا تتماهى شعريًّا مع التجارب الأخرى، بقدر ما تخلق مساحة اشتغالٍ مُكثّفة. إنّها تحتفي شعريًا بسيرة الحياة ككلّ، إذْ أنّ نصوصها الشعريّة لا تكاد تُفارق الأشياء والتفاصيل والنتوءات في حياة الكائن، إذْ تُطوّعها وفق ذائقتها الشعريّة ويغلب عليها في الكثير من الأحيان الألم والحسرة والفجيعة، بحكم ما شهدته سوريّة في الأعوام الأخيرة.

بمناسبة صدور كتابها الشعريّ/ النثري الجديد كان لنا معها هذا الحوار:

 

(*) إلى أيّ حد في نظرك، يستطيع الشعر في زمن "اللاشعر" هذا، أنْ يُجمّل حياتنا الرتيبة داخل العالم العربي، أمام سطوة باتت تُمارسها الرواية عليه تجاريًا؟

أعتقد أن في سؤالك عدة أسئلة يمكن الإجابة عليها بشكل منفصل. أولًا هل على الشعر أن يجمّل حياتنا؟ ألا يجب أولًا أن نتصالح ونصلّح مع ومن فكرة التجميل؟ ومشكلة الشعر ألا تتجاوز العالم العربي إلى مجتمع غربي داخل في دورة الاستهلاك من دون حتى أن ينتبه؟

أزمة الشعر في زمن اللاشعر، كما سجلت مرة عن سيرج بي في إحدى محاضراته، مرتبطة بالشعر ولم تتوقف يومًا ولن تتوقف، لأنها متجذرة بطبيعته، بمحاولته انتشال الأصيل مما هو غير كذلك. لذلك برأيي، وبالعمق، كل ما هو جيد، سواء كان كتابًا شعريًا، رواية، فيلمًا سينمائيًا سيكون قادرًا على فك الرتابة. إذا حاولنا أن ندافع عن الشعر لأجل الشعر فنكون قد دخلنا في منحى من الدوغمائية، أنا شخصيًا أحب الأعمال التي تستطيع الربط بين أصالة لم أكن منتبهة لقيمتها عبر طرق تعبير جديدة، أو بالأحرى طريقة التعبير الجديدة عبر ما تحمله من إدهاش هي ما تستطيع إحياء الأصالة وجعلها أجمل، وهذا أجد فيه من المحمول الشعري الشيء الكبير. المسألة التجارية هي شيء آخر، دوما هناك فن ينجح تجاريًا على حساب فن آخر، كالدراما بالنسبة للمسرح وسينما المؤلف في عالمنا العربي. ربما الأمر يتعلق بوسائط الاتصال والقنوات الإعلامية التي تروج لما يدر مالًا أكثر! لأجيب على سؤالك بشكل أوضح، هل يستطيع الشعر منافسة الرواية من أجل استعادة مكانة ما في عالمنا؟ الأمر يحتاج إلى دعم وتنظيم أكبر من محاولات شاعرة أو شاعر، ورغبة عميقة بدعم الشعراء الجدد والكتابة الجديدة في محاولة إيصالها للقراء، وكتابات نقدية جادة لا يكون هدفها إعلاميًا وترويجيًا فقط. شخصيًا لست متفائلة حيال الأمر، لكن جزءًا من عدم تفاؤلي هو مواظبتي على محاولة تقديم الجيد.

(*) بعيدًا عن قراء الرواية الذين يزدادون يومًا بعد يوم، كيف يُمكن أنْ نُفسّر هذا الانسحاب المُخيف للشعر من حياتنا اليومية داخل العالم العربي؟

أكرر أن الأزمة ليست متعلقة بالعالم العربي وحده، قراء الرواية في الغرب في ازدياد أيضًا. باستثناء راديو فرنسا الثقافية لا توجد أية محطة تلفزيونية فرنسية تتحدث عن الشعر، إلا بمناسبة ربطه بسياق اجتماعي أو سياسي ما. ربما على الشعر أن ينقذ نفسه وعلى الشعراء أصحاب النخوة أن يكتبوا بنفَس محارب. حين تسأل السؤال كأنك تطرحه عن الحاضر، أود أن اسأل هل الأمر يتعلق إذًا بطبيعة الشعر الحديث؟ قصيدة النثر لو أردنا تسميتها الآن كذلك! أعتقد لو غيرنا السؤال قد نستطيع إيجاد بعض الأجوبة، أي كيف استطاعت الرواية أن تحافظ على مكانتها؟ ماذا يحتاج القراء؟ حكاية؟ لماذا قد يترك أحدهم برنامجًا تلفزيونيًا ملونصا يتحدث عنه زملاؤه في العمل ليبدأ رواية؟ ليشتريها؟ هل السبب هو دور النشر التي لا، باستثناء القليل منها، تتخذ خطوة جدية لدعم الشعر بأشكاله الجديدة؟ أحاول أن اسأل معك أسئلة صغيرة متعلقة بالجواب أو ربما تشير إليه من بعيد، لأني حقًا لا أعرف الجواب.







(*) بهذا المعنى يُمكن أنْ نقول إنّ الشعر في أزمة، لكن في نظرك أين تتجلّى روح هذه الأزمة بالنسبة للشعر الفرنسي أو حتى العربي المقروء داخل أمسيات ومهرجانات في فرنسا؟

بالنسبة لما يُكتب حاليًا من شعر في فرنسا، خاصة من أجيال جديدة، أعتقد بأنها مدللة "التيسيرات" المادية وتكرير القضايا، الشعر يحتاج إلى عقدة أقوى من شكل أو من موضوع، وحتى لا أقول صورًا واستعارات كالتي يزخر بها الشعر العربي، لكن ثمة تجربة ناقصة وبُعد ناقص في أغلب ما يُكتب في فرنسا، ويطبع. لا يكفي أن تتحدث عن الأزمات البيئية أو استعادة أسطورة ما بلغة أدبية ساحرة أو باستعمالك ألاعيب لغوية حديثة حتى تصنع قصيدة. طبعًا لست مطلعة على كل الكتابات، لكن أتحدث عن كتب مطبوعة عند أحسن دور النشر.

غياب هذه العقدة الشعرية، أو بهتانها، حسب رأيي، هو ما قد يدفع القراء والكتاب الغرب للانبهار ببعض المواضيع التي قد تكون مغرية شعريًا، وتشكل عقدًا جاهزة للكتابة، ومستوردة من بلداننا العربية بمواضيعها الساخنة، كالمرأة والدين والثورات والحروب.

لذا أعتقد بأنني أجبت على الشق المتعلق بقراءات عربية في فرنسا بشكل غير مباشر. في فرنسا، استطعت أن أتلمّس شعرًا عند بعض الأشخاص الذين لم تنشر أعمالهم، أو لأقل رؤية لامست رؤاي أكثر مما قرأته في بعض الكتب. هل الأزمة تتعلق إذًا بطبيعة النشر والعلاقات الأدبية في فرنسا؟ لست على اطلاع كاف حقًا كي أجيب.

 
(*) في عملك الشعري الأوّل "حين ساعدنا الحرب لتعبر" تُطالعنا ميس الريم وكأنّها مهووسة بعوالم الحرب وما يُرافقها من ترحيل ولجوء وخوف وموت. كيف استطاعت الحرب داخل سورية أنْ تحفر كل هذا الألم في قلب شاعرة، كانت حينها في الضفّة الأولى من العمر؟

نعم كنت مهووسة، ربما بسبب قلقي الداخلي الذي كانت تجيب عليه أخبار قادمة من هناك. كنت مهووسة بعوالم أخرى أيضًا، لكن حين أقدمت على مغامرة النشر، لم أستطع بعد سبع سنوات من الثورة والحرب والتهجير إلا ان أعبّر عن صوتي من وراء هذا الحاجز، شعرت بأنه سيكون نوعا من الفصام ألّا أكتب عن هذا وهو يغير شيئا من هويتنا جميعًا، من طبيعتنا.

بعض من شرعية إصدار الكتاب في ذلك الوقت هو الرغبة بأن أكون هناك، محاولة التقرب من هناك، محاولة السخرية من المأساة: أساعد الحرب لتعبر، أنا البعيدة، حين ساعدت! كأن الأمر انتهى. حين ساعدنا... كأن وحدتنا عادت!

 

الكتابة والغربة

(*) هل كانت الحرب سببًا بالنسبة اليك لترك سورية واستكمال دراستك في شعبة القانون بجامعة "تولوز" الفرنسيّة والانخراط وجدانيًا داخل مهرجانات شعرية فرنسية؟

لا. تركت سورية سنة 2011. كنت قد حصلت على منحة لإكمال دراستي آنذاك. ولا يوم من تلك الأيام كنت قد فكرت بكتابة الشعر، كنت أكتب خواطر تنطبق مع طبيعتي الحالمة وعلاقتي الحميمة باللغة والخيال. بعد سنتين من إقامتي في فرنسا بدأت بالكتابة بغزارة محاولة مني للعيش في عالم بديل، غير مصدّقة تمامًا ما يجري في العالم العربي، أنتظر الأفضل وأخاف من مشاهدة العنف. الصدمة والانتظار زادا قساوة الغربة الجديدة عليّ، داخل لغة وعالم مختلفين.

 

(*) ما الذي يشعر به الشاعر في أوّل يوم له في فرنسا؟

أول يوم في فرنسا لم أكن فيه شاعرة، وصلت وكان عمري في أول العشرينات، لكن قراءتي النفسية الآن توحي لي بأني وقتها عدت طفلة من جديد، طفلة بمعنى عدم امتلاك وعي المحارب، لأن من مسؤولية كل منا، ولست أول من يقول هذا، أن يبقي على هذا الطفل. لو كنت شاعرة لكنت استوعبت حالة الطفلة التي كنت فيها وسامحتها ورافقتها بشكل جيد حتى لا تقع بنفس المطبات التي وقعت فيها، كنت ساعدتها حتى تتخذ قرارات أكثر شجاعة، كنت دفعتها لتكون أقوى.

أستطيع الإجابة على سؤالك بحكم أني وصلت تولوز بعد ثلاث سنوات من وصولي فرنسا. الاكتشافات كانت تأتي بشكل متدرج، لذلك لم أكن أنتظر شيئًا، وكل ما حدث في حياتي وله علاقة بالشعر حدث تقريبًا بشكل مصادف، لكنه كان يتبع نموي الشعري داخل نصّي، لذا أدين للنص والصدق الذي استطعت التعبير داخله لنموي الفكري ووعيي اللاحق.





(*) عوض التسجيل في كليات الآداب ولجت إلى شعبة القانون لدراسة ماجستير وبعدها تحضير الدكتوراه في القانون، كيف اقتنعت بفكرة دراسة القانون بالنسبة لشاعرة تعيش على حافّة الفجيعة والحلم والخيال؟

السبب لاختياري هو عمليّ جدًا، بسبب المنحة التي حصلت عليها وكانت سبب قدومي إلى فرنسا، وهذا أمر إداري لا نستطيع التحكم فيه. أما لماذا لم أختر هذه الدراسات الأدبية عندما كنت أصغر؟ ربما لأني كنت أصغر، شعريًا وعمريًا، ربما لأنني كنت ممن يقرؤون الروايات (تضحك) ويشاهدون الأفلام بكثرة ويعتقدون بأنها مفردات عالم بديل لا يمكن مشاركته العيش أو لن يكون أبدًا في متناولي. في النهاية كل تجربة، حتى ولو لم "تكلل بالنجاح" تبقى تجربة تجعلنا أكثر فرادة، لأننا نضطر لأن نجد خلاصنا الشخصي عبر معاركنا التي تخصنا وحدنا.

(*) صدرت لك قبل سنة مجموعة شعرية جديدة مُترجمة إلى الفرنسيّة. ما الذي تعنيه الترجمة بالنسبة لشاعرة سورية تجد نفسها في تخوم ثقافة حديثة؟

القارئ الغربي يحتاج طبعًا لترجمة لأعمالك حتى يحكم بنفسه على شعرك. أول مبادرات الترجمات كانت بمساعدة أصدقاء كنت قد تحدثت معهم عن الشعر وقضايا أخرى، الشعر تم تبادله بيننا قبل القصائد المكتوبة والمترجمة والمنشورة، تم تبادله بالنظرات، بالتعليقات، بالاستماع، بتكشّف حب المشاركة لنفس الأشياء، بمشاركة صمت معين تعرف من خلاله بأن هذا الذي قبالتك يخبّئ شيئًا ما يشبه الشعر. أما الكتاب المترجم فوجوده ساعدني حقًا حتى أستطيع أن أعرّف عن نفسي بأني شاعرة. الجهد المبذول فيه للترجمة هو محاولة لا أندم عليها للتواصل مع الآخر عبر الشعر، وذلك لأنني أنا من حاولت ترجمة قصائدي لأول مرة لكن بمراجعة أصدقاء فرنسيين لاحقًا لغرض النشر أو القراءة. وجود نصوص مترجمة لي حقق لي نوعًا من الاستقرار النفسي في حضور اختلال مكاني سببه الاشتياق لسورية وللأهل والتساؤل عن المصير وغيرها. ما قد يقدمه لاحقًا من آفاق هذا لا يتعلق بترجمة عمل واحد.

(*) ماذا تقولين عن كتابك الجديد "لا تموت، لا تطير: يوميّات شاعرة تدرس الحقوق"؟

هو كتاب نثري وشعري. الشعر والنثر يتقاطعان معا في تناول يوميات مسجلة أثناء إقامتي في فرنسا. الشعر حين يوثق اليومي يغدو قريبًا من النثر من ناحية ربط المتخيّل بالحدث، والنثر حين يحاول توثيق لحظات شرود بتسجيله العابر، قد يلامس الشعر. يوميات شاعرة تدرس الحقوق يحاول بشكل عام المقاربة بين عوالم مليئة بالتناقضات، أولًا بين جانب عملي الهدف منه هو الإنجاز، وعالم آخر، نلجأ إليه لأن لدينا رغبة بقراءة ما حولنا بطريقة مغايرة. عوالم يزيد من حدة تناقضها وجودي في بلد جديد، بعادات جديدة وثقافات أخرى، بينما الهوية الأم: (السورية، العربية) تواجه تحولات كبيرة، تغدو فكرة الإنجاز الشخصي أمامها عدمية ومثيرة أحيانًا للسخرية، تغدو الجدوى مفهومًا مصابًا بالخلل ويحث على طرح مزيد من الأسئلة والشكوك بحثًا عن جواب، أو تدفع للمضي قدمًا، رغبة بالحب والحياة رغم كل شيء، ألا يشبه هذا قليلًا الشعر، أو التخييل الشعري؟

 

(*) في هذا الكتاب، تطرق ميس الريم قرفول لأوّل مرّة باب السرد من نافذة الشعر، هل من المُمكن أنْ يكون هذا المُؤلّف مدخلًا للتفكير في كتابة الرواية والانخراط وجدانيًا في عوالمها، أمام الاهتمام المفرط الذي أضحت توليه مؤسّسات ثقافية لهذا الجنس؟

لو كتبت رواية سيكون السبب هو فقط الرغبة في كتابة رواية، لا أريد أن أوجه أفعالي حسب ما توليه المؤسسات الثقافية من أهمية. لو أقدمت على ذلك ربما قد يكون شكلًا من التحدي لتجريب نوع أدبي مختلف. في الأفق الحالي لا أرى أية حكاية، ربما لا يوجد في خيالي الآن سوى قصاصات حكايات مبللة ومرات جافة جدًا، ربما هي قطع شعرية وقعت من حكايات. حين أشعر بالاستقرار أكثر أود أن أجرب أنواعًا أدبية أخرى، سواء رواية أو غيرها، كتبت مرة منذ عدة سنوات: "أن تكتب رواية هذا يعني أن تبني لك بيتًا/ أن تكتب كتاب شعر هذا يعني أن تمدَّ يدًا من نافذة البيت وتنثر بذارًا في التراب المجاور.../ أن ترسم صبية على السطح تعلق الثياب نصف المبلولة على الحبل/ وعينٌ شمس ... وعينٌ غيمة". في كتاب "لا تموت، لا تطير: يوميات شاعرة تدرس الحقوق"، حاولت خلق تشكيل أولي لبيت، أن أجعل من التشظي الشعري أثاثًا لرواية، لبيت، ربما كان غير واضح، لكنه بيت، هذا ما قد تعنيه لي فكرة الكتاب. حين تتبع حدسك الشعري ستكون صادقًا مع نفسك ومع الآخرين. مع هذا، ربما تعرضنا الحياة لضغوطات تجعلنا نراجع قراراتنا، أحاول قدر الإمكان أن أحافظ على توازن ما يقيني من السقوط.