Print
بوعلام رمضاني

مدني عامر: الكتابةُ بالنسبةِ للإعلامي أمانةٌ ومسؤولية

21 نوفمبر 2021
حوارات


صُنْعُ الحَدث ليسَ في مُتناول كلِّ النَّاس، بوجهٍ عام، والإعلاميين والكُتَّابِ بِوجهٍ خاصٍ. لتحقيقِ ذلكَ، يَجِب بذل 99% من العَرَقِ، و1% من الذَّكاءِ، على حد تعبير برنارد شو. وحتَّى وإن بالغَ الكاتبُ البريطاني الشهير، في تَقديري، فإنَّ المُثابرة والعِناد والاجتهاد الثلاثي الذِّي لا يُبرر مفهوم العرق، أمرٌ لا يَختلِفُ حوله اثنان، ويُفسِّرُ صِحَّة مَقولة "حينما نُريد نستطيع".
مدني عامر، الذي كانَ راعيَ غَنمٍ في عمر الزهور، ثابَرَ واجتهد بعِنادٍ، فأرادَ واستطاع أن يُصبِحَ نموذجَ نجاحٍ مُذهِلٍ في تخصُّصٍ لا يَكتُبُ فيهِ النجاحُ والدوامُ إلاَّ للكبارِ المَهووسينَ بالعملِ والمُبتَكِرينَ للأفكارِ باعتبارها الثَّروة الأبديَّةِ الصانعةِ بدورِها للتَّقدُّمِ بكافةِ أصنافه وتجليّاته.
في هذا الحوار، يُثبِت مدني عامر، الذِّي مَا زال يَصنَعُ الفارقَ في خريفِ العمرِ، كما صَنعه في ربيعه، أنه إعلامي متميّز عملًا وفكرًا وإنجازات، وأنه في صدَدِ التَّحول إلى مُبدعٍ جديدٍ يحسنُ الكِتابة كما يُحسِنُ الكلام والإقناع والإِبهار في مجالسٍ خاصة وعامة.

مدني عامر (يسار) مع الزميل بوعلام رمضاني


(*) كنتَ نجمًا تلفزيونيًّا في الجزائر، وأَحدِ مُؤسسي تجربة أرَّخَت لمرحلة سياسية غير مسبوقة، قبل أن تَحُطَّ الرِّحال في بريطانيا ثم في الإمارات. كيفَ يُقدم مدني عامر نفسه لقُرَّاءٍ لمْ يُسعفهم الحظ لمتابعة مشواره المهني الاستثنائي، الذِّي يُتوَّج اليوم بتحوّله إلى كاتبٍ على غير عادةِ مُعظَمِ رُفقاءَ الدَّرب في الجزائر، وفي العالم العربي، بوجه عام؟
مدني عامر هو نتاجٌ من صدفٍ وأقدارٍ تقاطعت دُروبها في محطات. مِن راعي أغنامٍ وفلاحٍ في سِنِّ السادسة، وحتى الفرصة (الصدفة) التي غيَّرت مجرى حياته كليًا، ورسمت له طريقًا جديدًا، وإنْ لم يَكن مضمونَ النتائجِ في حينه، إلا أنَّ مُجرد وضعٍ خطواته الأولى عليه كان جميلًا ومُبهجًا. ذلك القدر تمثَّلَ في دُخولي مَدرسةً لتعليمِ الكبارِ رسَّخَت نتائِجُها تحوُّلًا جذريًا في حياتي، من حيثُ التّطلع والتّوجهاتِ والأولوياتِ، بما فيها التخصص الدراسي في الجامعة، حيث اخترت دراسةَ القانون الدولي الذي يسَّر لي الوصول إلى التلفزيون بحكم قُربِ التَّخصُّص من عالمِ الإعلامِ بروافده المُختلفة.
وأمَّا عن التجربةِ في الجزائر، فقد كُنتُ شريكًا فيها لفريقٍ أنيقٍ مُتعدِّدِ المعارفِ والمهاراتِ، مُطلّع على مُختلف التجارب العالمية، سواء من خلال المتابعة للنموذج الفرنسي الذي كان استقباله مُتاحًا، أو عن طريق دورات التكوين الكبرى التي كان يَحظى بها صحافيو التلفزيون الجزائري في مؤسسات إعلامية عالمية كبرى، في أميركا وكندا وبريطانيا وإيطاليا، وغيرها.
وقد أمكَنَ لذلكَ الفريقِ تَطويرَ طُرقِ العملِ والأداءِ، سواء في الأخبارِ، أو البرامجِ، بِمُحتوى تَقاطَعت مَضامينَه بين اهتمامات الناس، ومع الإرهاصاتِ الأولى لعمليَّة التَّحول الكبرى التي شهدتها البلاد نهايةَ الثمانينياتِ ومطلعَ التسعينياتِ. وبذلك ترسّخت تجربةٌ إعلاميةٌ بخصائصَ ومُواصفاتٍ عالميَّةٍ كانت جِسرًا للعبورِ إلى تجاربَ أُخرى في حياتي بدءًا من (إم بي سي) في لندن، وإلى أبو ظبي، ثم دبي، وبعدها إلى قطر، ضمن فِرقِ إشرافٍ على إطلاق مشاريع إعلامية. ثم أخيرًا، ومرة أخرى، الإمارات، كمستشار ومدير مشاريع. وكانت عصارة تلك التجارب مُجتمعةً مُحفِّزًا ومادة لكتابي (إعلام الأزمات وأزمات إعلام)، الذي يَضعُ خُلاصَةَ تجربَةٍ وخاماتٍ معرفية في خِدمةِ أصحابِ التَّخصص من الأكاديميين والإعلاميين.



(*) كيف وجدتَ نفسك في الإعلامِ وأنتَ الذّي درست الحقوق، وما الذي أهَّلك إلى أنْ تُصبحَ أحدَ أبرز الصحافيين الجزائريين في أوروبا والعالم العربي، علما أنكَ قلت لي ونحن نُحضِّر حِوارنا أنَّك لمْ تدخل المدرسة الابتدائية، وبدأتَ الدراسة في سن الخامسة عشرة، بعد أن كنتَ راعي غنم؟
وُجودي في التلفزيون جاء أيضًا بالصُّدفة، حيث كنتُ أَتهيَّأُ للالتحاق بسلكِ المُلحقين الدبلوماسيين في مُسابقَةٍ كانت على الأبواب، حين جاءت الزيارة إلى التلفزيون مع صديقٍ، والالتقاء مع فريق الأخبار، وبالسيد إبراهيم بلبحري، الذي كان حينها مديرًا للأخبار. وكان الانبهار بعالم الأضواء والنجوم، وحين تمَّ التعبير عن الرغبة خَضَعتُ لاختبارات جدية وجادة باللغتين العربية والفرنسية. وبعد حوالي أسبوعين من ذلك، أُبْلِغت أنني نجحت، وأنَّ عليَّ الالتحاق بالعمل فورًا.
وبعد الالتحاق، بدأَتْ معاركَ إثباتِ الوجودِ والذات مِهنيًّا، حيث أنَّ معيارَ التّميزِ في التلفزيونِ هو ما يُقدِّمُه كلَّ فردٍ، ومَا يُميِّزُ خصائصَ ما يُقدِّم. وفي ذلك تنافسنا في ما بيننا، وأثبَتْنا ذَواتَنا قبلَ أنْ نخوضَ معركةَ التنافس مع الغير. وفي معركة إثبات الذَّاتِ تميَّزَ أعضاءُ الفريقِ بطرقِ عملٍ مُتعدِّدة طَبعت بتنوعها الساحة، ورسَخت بعض الأسماء بنوعيَّةِ أداءٍ.
وأمَّا في العالم العربي، فقد خرجْتُ من ساحة الأداء الشخصي إلى الإشراف على أداءِ عملِ فريقٍ، وفي ذلكَ أيضًا تمَّ خلقُ أجواءٍ للتّنافُس المهني بين أعضاء الفريق الواحد، حتى يُمْكن إطلاقِ كل الطاقات وتوظيفها بشكل عقلاني، تطلُّعًا لمنتجٍ بمواصفاتٍ يُرضي المشاهدَ المستهدف، ويُنافِسَ مع الغيرِ، في ظلِّ تعدُّد المنابرِ والشاشاتِ.



(*) اليوم أنتَ في الجزائر، وأرجو أنْ لا أُحرِجكَ حينمَا أسألُك: لماذا عُدتَ إلى الجزائرِ في الوقتِ الذّي أخبرني فيهِ أحدُ الصحافيين اللامعين في صحيفة مُعربة أنه ينوي الهجرة رغم تقدمه في السن، لانسدادِ الأفق خلافًا لحديثِ السلطة عن جزائرَ جديدة؟
أولًا.. الهجرة لم تكن أبدًا خيارًا بالنسبة لي، بل كانت قرارًا حتَّمته ظروفٌ طارئة واستثنائية، فقد كنتُ سعيدًا في عملي وراضيًا بوضعي الاجتماعي مع تطلُّعٍ قائمٍ دائمٍ إلى التطور والارتقاء، سواء لنا كأفراد، أو كبلد.




وحتى بعد أن فَرضَ ذلك الظرف قرار الهجرة، فإِنَّ هاجسَ العودةِ ظلَّ قائمًا، وقد جرَّبتُ ذلك عام 2014، مع إصدار الجزائر لقانون السمعي البصري، حيثُ جئتُ حاملًا لمشروعٍ بَلوَرَتْه مجموعَةٌ من المُحترفين من أبناء التلفزيون السابقين الذي اضطروا للخروج هم أيضًا.
جئت أحمِل مشروع قناة إخبارية برأس مال معرفي وتراكمِ خبرةٍ، عَرضْتُ هويتها وخَطها على وزيرين للإعلام في مرحلتين مختلفتين بشرطٍ واحدٍ هو التأسُّس كقناةٍ وفقَ القانونِ الجزائري، ولكن الجواب كان طبعًا لا، وأنَّ المطلوبَ هو التّأسُّسَ كقناةٍ أجنبيّةٍ، وهذا رغمَ نشرِ قانونِ السمعي البصري في الجريدة الرسمية، والذي كان يُفترض سَريانه من تاريخ نشره في 24 شباط/ فبراير 2014.. وهو ما لم يَحدث إلى اليوم.. وحينَها قَفَلْتُ راجعًا مرَّةً أُخرى إلى الخليج.
وفي المرة الأخيرة في 2020، وبعد التَّحوُّلاتِ التِّي أَحدَثَها الحراك، توقَّعْتُ أنْ يَتّسِعَ المجالُ ويُفتَحُ للمبادَراتِ وللمُنافسة بتأطيرٍ للعملِ وفقَ القانون الجزائري، ولكنَّ الأمرَ ظلَّ كما هو عليه، وبالتَّالي، فإنَّ الخياراتِ انحصرت في خيارِ العيش في الوطن لا غير، وإنْ كانت عروضُ العملِ الاستشاري ومشاريع العمل تظَلُّ مفتوحةً كخياراتٍ تحتاجُ إلى قراراتٍ مني، ولذلك فإنَّ موقِفَ الإعلامي الذي أشرْتَ إلى نيتَهُ في المغادرة قد يكون له أكثرُ من مبرر، من البحثِ عن فُرصَةِ عمل إلى فرصة أُخرى للعيشِ في بيئاتٍ ما زالت تُتيحُ الفرصةَ والمُنافسة.



(*) فهمتُ من خلال هوِّيتِك الفيسبوكية أنَّكَ تَعملُ مُستشارًا إعلاميًّا في هيئةٍ عربية دُولية.. هل لكَ أنْ تُحدِّثنا عنها، وكيف وصلتَ إلى مُستوى هذه المُهمَّة، عِلمًا أنَّكَ كنتَ صحافيًا تلفزيونيًا لأعوام؟ وأطرح السؤال مُتصوِّرًا إياك تتكوَّنُ مُستغِلًا سياقَ هِجرةٍ وظّفتَها لِكي تُولدُ مِهنيًّا للمرّة الثانية.. أليسَ كذلك؟
نعم.. آخِرَ مَنصِبٍ كنتُ فيه حتى نيسان/ أبريل 2020 هو مستشار ومدير مشروع في شبكة أبو ظبي للإعلام، ومنصبَ المستشار حيويٌّ في ما يتعلق بتواجُدِ وحُضورِ أيِّ مؤسسة إعلامية في مشهدها الوطني، أو الإقليمي، وحتّى العالمي، والمستشارُ هو قوَّةُ اقتراحٍ وخامةٍ معرفيَّةٍ تَستعينُ بها المؤسساتِ في سَعيها للتَّجدُّد والتَّمدُّد وِفقَ مُخطَّطاتٍ مدروسةٍ لتكريسِ الدَّورِ وإثباتِ الحضورِ، بما يرفَعُ القُدرات الذاتية للمؤسسات على المنافسة والانتشارِ.
أمَّا كيفَ وصَلت، فإِنَّه يَجدُر بالشَّخصِ الذِّي يُريد أنْ يَكونَ جُزءًا فِي عَمَليَّةِ تَطويرٍ أنْ يُطبِّقُ ذلك على نفسه أوَّلًا ودائمًا، بحيثُ يكونَ مُسايِرًا لكلِّ التَّطوراتِ التِّي تَعرِفُهَا المِهنة، سواءً من حيثُ المَعارِفِ والتَّطبيقاتِ، أو في جانبِ التَّطويرِ بالأفكارِ والابتكارِ الذِّي يَسمَحُ بالتَّجدُّدِ الدَّائِمِ في المشهَدِ السَّائِدِ، وَيَعتَمِدُ فِي ذلك على الدِّراساتِ والدَّوَراتِ التَّطبيقيَّةِ في المعاهِدِ والمُؤسسات المُتخصِّصَةِ، بِمَا يُتيحُ تجدِيدَ المَعارِفِ، وتَطويرِ المهاراتِ والأداءِ.
وفي الأخيرِ، فإنَّ تِلْكَ المعارف والمهاراتِ تُصبِحُ مَفاتِيحه لإطلاقِ أفْكارِه وتَصوُّراتِهِ المَبْنية على مرْجَعيَّاتٍ مَعرِفيَّة، وتذهَبُ بالتفكيرِ إلى مِساحاتٍ خارجَ المألوفِ والسَّائدِ، وبالتالي صناعةَ الاختلافِ والتميز.



(*) قلتَ في مُقابلةٍ تِلفزيونية معَ قَنَاةِ "الشُّروق" مؤخرًا إنَّ أجملَ تجرُبةٍ مِهنيَّةٍ في حيَاتِكَ هي التجربة الجزائرية، رغمَ أنّك عِشتَ تجَارُبَ أُخرى في الخارج. ألا تعتقدُ أنّ حُكمك ذاتيٌّ وعاطفيُّ المنحى بالدرجة الأولى، أم هو غير ذلك لأنك ساهمتَ في تأسيسِ حلمٍ أُجْهِضَ لاحقًا في منتصف الطريق، أو قبله؟
أبدًا، لم يكن حُكمًا عاطفيا، بل تَفسير واقعي وحقيقيّ، لأنَّ المفاتيحَ التِّي دخلتُ بها عوالم الآخرينَ صَنعتُها في التلفزيون الجزائري. مهاراتي وزادي المَعرفي، نجاحاتي كلها، كانت ساحتُها شاشةُ التلفزيون الجزائري، الذي أتاح الفرصَ، وشجَّع على كسرِ القيودِ والأنماطِ التقليدية والجاهزة في التفكير وفي العمل.. حرَّرَ الإرادات، أطلق المبادراتِ، أطلقَ المُنافسة، جمَّل وتجمَّلَ بجهدِ وعملِ الكل.. كان داعمًا وحاميًا للتجربة من الاختطاف، أو الانحراف، وبالتالي كُنَّا له، وكان لنا الحصن الحصين..




أما عند الآخرين، فلا أُنْكِرُ فضلَ المؤسسات التي عمِلْتُ فيها جميعًا عليَّ، حيثُ وفَّرت لي ولمَنْ مَعي كلَّ سُبُل وفُرَصِ التَّجَدُّد والتَّطوُّرِ ذاتيًا وجماعيًا، في ظلِّ حرْصٍ دائمٍ على أن يَظلَّ الفريق في المقدمة، لأنَّ السباق في الإعلام يظلُّ مفتوحًا بألفِ رواقٍ إن لم تكن حاضرًا في أحدهم فاز به الآخرون.. وأما عن إجهاض تجربة التلفزيون الجزائري، فإن (وأدها) كان وأدًا لكثير منا، لأحلامنا التي كنا نتطلع إليها، ونُسارعُ لأن نُجسِّدَها مَشهدًا مُتجدِّدا، قبلَ أن تُغتالَ وتُطفأَ حُلمًا طريًا في العيون..



(*) خلافًا للحديثِ التلفزيوني، لم يهتم أحدٌ تقريبًا بِكتابِكَ الأول من نوعه الذي صدر عن دار ميم للنشر بعنوان "إعلامُ الأزمات وأزماتُ الإعلام". لماذا في رأيك، إذا كنت موافقًا على ملاحظتي؟ وكيف تفسر ذلك؟
أعتقدُ أنَّ الأمرَ لمْ يَكنْ عدمَ اهتمامٍ بقدرِ ما كان عدمَ توفُّرِ الكتابِ نفسه لذوي الاهتمام، بسببِ ظُروفِ كورونا التي كانت إجراءاتِهَا الوِقائية تَحُولُ دونَ تواجُدِ الجُمهورِ في أماكنَ عامَّة، أو مِساحاتٍ مُغلَقة، وهو ما حالَ بالفعلِ دونَ التواصُلِ المُباشِر مع جُمهورِ القرَّاءِ، سواءَ كانُوا عاديين، أو من المتخصصين.
ولكنَّنَا نأملُ خلالَ الأيامِ المقبلة مع السيدة آسيا علي موسى، صاحبةِ دار ميم للنشر التي طبعت الكتاب، تنظيمَ لقاءاتٍ مُباشرة مع الجمهور، وفتحِ ندواتٍ للنقاش في مضامينَ الكتابِ نفسه مع المؤلف، وهو ما سيكونُ جسرًا لعبورِ مضامينَ الكتابِ ومحتوياته إلى جمهور القراء، وهو ما يهدِفُ إليه أيُّ كاتبٍ، أو دارَ نشرٍ، لأنَّ الجمهورَ هو المستهدف أساسًا بالعمل.







(*) زاوجتَ في كتابك، الذي أعتقد أنه يجبُ أن يقرأه كلّ طلبة الإعلام عربيًا وجزائريًا، وأن يُترجم إلى لغات غير المعربين، بينَ أكاديميَّةٍ معرفيةٍ عالية، وثراءٍ معلوماتي طَغَت عليه النزعة الإنجلوساكسونية، وبين تناول نقدي لنماذِجَ جزائرية وعربية وفرنسية وعالمية، تُؤكد مُستوى تأثيرَ التلفزيون خلالَ الأزماتِ الكبرى إيجابيًا وسلبيًا. ما الذّي يَكمُنُ في إشادتِك بالتجارب الأوروبية والعالمية، مذكِّرًا بأسماءِ القنواتِ والصُّحافيين الكبار، وطرقَ التأثير (مثال صورة الطفلة العارية التي ساهمت في توقيفِ الحربِ الأميركية في الفييتنام)، وكنتَ مُحقًا في ذلك. خلافًا لذلكَ، أجملتَ فشلَ التلفزيوناتِ العربية من مَنظورِ الإعلامِ المُتأزِّمِ من دونَ ذكر استثناء قناة "الجزيرة"، التي أحدثت الفارق من منظور مقولة "الوسيلة هي الرسالة"، التي أسَّسَ من خلالها مارشال ماكلوهان نظريته الشهيرة حول تأثير التطور التكنولوجي على مضمون الإعلام، بحكم تحديده النهائي للتأثير الذي تحققه الصورة. أطرحُ السؤال مهنيًا متفهمًا الرقابة الذاتية المفروضة عليك، وأطرحُ السؤال ليس خدمة للجزيرة؟

أولًا، شكرًا على جميل تقديركم لمضمونِ الكتابِ الذي تَقترحونَ أن يَصِلَ محتواه إلى طلبة الإعلام وذوي الاختصاص، وأن يُترجم إلى لغات أُخرى. وأما عن موضوعِ الإشادةِ، فهيَ في الحقيقة ليست إشادة بقدرِ ما هي اعترافٌ بفضلِ ونضالِ الإعلاميين الغربيين في انتزاع أدوات ووسائل حرية التعبير، وتكريس المؤسسات الإعلامية كسلطة مرجعية للمجتمعات وللسياسيين.
كما أن استدعاء نماذج وعينات من تلك النِّضالاتِ الطويلة كانَ للتدليل لأجيال الإعلاميين، وحتى للسياسيين في الوطنِ العربي، وفي الجزائر، بأنَّ الحرية مُمْكنة، وأنَّ وجودَ تلكَ الحُريَّةِ يخدمُ الطَّرفين، سُلطاتٍ ورأيًا عامًا، بما تُمثِّلُه من ثِقلٍ في ميزان قِوى الرَّقابَةِ على عمل السلطات، وهو ما يَحولُ لا محالةَ دونَ الشَّطط والانحراف، وكذا في كَشفِ كلِّ أشكالِ التجاوزات من أي طرف كان. كلّ ذلكَ طبعًا وفقَ قاعدةِ أنَّ الإعلام ليسَ خصمًا ولا حكمًا، وأنَّ وظيفتَه كانت وستَظَلُّ الإعلام بالمعلومة المُدقَّقة والمُحقَّقة وفقط، من دون إدانة ولا اتهام لأي كان، لأن ذلك من صَميمِ عملِ سلطة أُخرى لها الحق في احترام ما تضطلع به من مهام. وإن اعتبرتَ في سؤالكَ الكريم أنَّ عدمَ ذِكرِ بعض القنوات العربية بالاسم قد يكون شكلًا من الرقابة الذاتية، فإنَّ مُنطلق الكتابِ كان التركيز على الخطِّ العام المُشترك، أو المتناقض، بين القنوات، ومدى قُربها أو بُعدها عن المبادئ والضوابط المهنية المشتركة مع الآخرين.
أعرِفُ كلَّ القنوات العربية الكبرى من الداخل، حيثُ تَتَشكَّلُ في أيِّ غُرفةِ أخبارٍ عناصرَ الخطِّ السياسي قبل عناصر الخط التحريري الذي تَتحدَّدُ حدوده ومَدَاهُ على مدى اتساعِ أو ضيق الرؤية السياسية. لذلك قلتُ بأنَّ التَّوجُّهاتِ والمُنطلقاتِ السيَّاسية في الإعلامِ ومُمارستها أحيانًا بشكل مباشر ومفضوح، مُفتقرًا إلى المهاراتِ الصحافية قد قاد إلى صِراعاتٍ وحروبِ تصفيَّةِ حساباتٍ عبر الشاشات بالخطابات السياسية المغلَّفة بعناوين إعلامية.




وقد وصل الأمرُ حدَّ التشويهِ والتشويشِ للمعلوماتِ من خلالِ المغالطةِ والمُناورةِ السياسية، وهو أمرٌ ساهمَ فيه عدمُ وجودِ أيِّ مرجعية مِهنيَّةٍ عُليا في الوطن العربي، يُمكن أن تُنبِّهَ أو تَردَع تلكَ الممارساتِ والتجاوزات. ولذلكَ فقد صنَّفُتُ بعضَ ذلكَ الإعلام ضمنَ أقطابِ صراعٍ تَتَنازعُ في مَا بينهَا قبل أن تكونَ أدواتُ تأثيرٍ مُتغيِّرٍ وِفقَ المراحِلِ وهَندَسة السِّيَاسيين والحسابات.



(*) فهمتُ من خلالِ مُقاربتك أنَّكَ ماكلوهاني النزعة، وتُؤمِنُ بقوَّةِ تأثيرِ الوَسيلة على الرِّسالة، رغمَ أنَّ الكثيرَ منَ المُتَخصِّصين رَأوا أنَّ ماكلوهان قد بالغَ في طرحِهِ، ولَبِسَ ثوب نبيِّ الاتصال. ما رأيُك؟
بالعكس.. أنَا أُدافع عن حيويَّةِ وجَدوَى المُحتَوى الإعلامي في التأثيرِ وفي التَّغيير، بينما يذهبُ ماكلوهان، ورغم فكره المُبكِّر والمُبشِّر بِعصْرِ التكنولوجيات المتعددة، إلى التأكيدِ على أن التكنولوجيا تُمثِّلُ عُنْصُرَ تَحَكُّمٍ في التنظيمِ الاجتماعي وتَسييرِ العلاقات بين عناصر مُكوناته، ولكن أنتَ تَرى، وبالتجرُبَةِ أخي الفاضل، أنَّ التَّحدي اليومَ، وعلى اختلاف وسائطِ وأدواتِ التَّواصُلِ، هو إنتاجُ مُحتوى وَمَضَامينَ جَديدة لـ"رسالة" إعلاميَّةٍ تَستهدفُ شرائحَ وفئاتٍ، سواءَ كانت عامة، أو مُحدَّدة. وبالتّالي، فإِنَّ الوسيلةِ التكنولوجية تَظَلُّ مُجرد حاملٍ لرسالةٍ من دونَ أنْ نُغفِلَ طبعًا دورَهَا الحيوي والأساسي في الانتشار.


(*) ألا تَرى معي أنَّ فارِقَ الواقعِ السيَّاسيِ والثقافي والاجتماعي الأوروبي والعربي في مجال الإعلام يَتعلقُ أساسًا بالحريَّةِ المنعدمة عربيًّا، الأمرُ الذِّي يَفرِضُ عَلينَا القول إنَّ الإشكال سياسيٌّ قبلَ كل شيء؟ بأسلوب آخر، ماذا تَنفَعُ ثقافَةُ تكنولوجيا التلفزيون، أو وسيلةٌ إعلامية أُخرى، إذا كانت الحكومات غيرُ الديمقراطية هِي المُوجِّهَةِ لمضمُونِ تكنولوجيا اتصالٍ تُجاري مَثيلاتِهَا في الغرب؟
ميدانُ الإعلامِ وساحَاتُه وعِماده وأَدَوَاتُه حُريَّة، وتَعرِفُ لا محالة سقفَ الحُريَّة في العالم العربي من محيطه إلى خليجه. ورغمَ بعضَ المُحاوَلاتِ التي يَجري التَّرويجُ لها كَشَكلٍ ونَماذِجَ لمُجْتَمعاتِ الحُريَّاتِ هنا وهناك، فإنَّ الأزماتِ غالبًا ما فَضَحت وتَفْضَحُ حَجْمَ هيمنَةِ السيّاسي على الإعلامي وإدارةِ الإعلامِ بهندَسَةٍ وحساباتٍ.


(*) ما دُمتَ قد أصبحتَ كاتبًا، كمَا فهمتُ من حِوارِكَ مع الزميلِ قادة بن عمار، فما هي مشاريع كتبك اللاحقة؟
الكتابَةُ هيَ أجملُ ما يُمكِنُ أنْ يحدثَ لنَا في الحياةِ، لأنَّنَا نَمنَحُ لحياتِنَا بعضَ "حياةٍ" تَستَمِّرُّ بَعدَنَا في الآخرينَ أفكارًا ومواقفَ وقناعاتٍ. والكتابةُ بالنسبةِ للإعلامي هي أمانةٌ ومسؤولية، كونَه كانَ مُؤتَمَنًا على معلومةٍ، وشاهدًا على مُمارساتٍ في مُختلفِ المستويات لعقودٍ وسنواتٍ. كما أنَّ موقعَ الإعلامي يُتيحُ له أنْ يُسافِر، وأنْ يَلتَقِي، وأنْ يُحاوِرَ، وأنْ يَشهدَ في غُرَفٍ مُحصّنةٍ كيفيَّاتِ صناعَةِ القراراتِ، بل والسِّياسات، ولذلكَ يُصبحُ تَدوينه لذلكَ جزءًا من ذاكرة مجتمعٍ، بل ومن تاريخه.




أما عنِّي أنا، فبعدَ كتاب "إعلامُ الأزماتِ"، فإِنّني أستعِدُّ لنشرِ كتابٍ يَجمَعَ بينَ مَنطِقِ السِّير والمعلومَةِ والخبر، وهو أيضًا يَكشفُ بعضَ التَّفاصيلِ في بعضِ اللقاءاتِ التي أَجريتُهَا مع بعضِ كبارِ زُعماءِ العالم، من مانديلا إلى عرفات، ومن كورت فالدهايم، إلى بيريز ديكويليار، وإلى بطرس غالي، والرئيس الباكستاني برويز مشرف، ومهاتير محمد، وغيرهم، وغيرهم..
وهناك مخطوط ثالث جاهز تقريبًا، وهو يجمَعُ تقريبًا سيرةً ذاتية... ومشروع كتاب رابع ديوان شعر (تصور)..!!!


(*) حاورتَ شخصيَّاتٍ عربية وعالمية كثيرة.. هل يُمكِنُ لكَ أن تُعطينَا سبقًا لما سيأتي ذكره في كتابِك القادم تكريمًا لموقع "ضفة ثالثة"، ولماذا تختار تجربة ما عن أُخرى؟
في اللقاءِ الذي أجريتُه معَ الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، ونائبه علي سالم البيض، الذي كان رئيسًا لدولة الجنوب، غداة توقيع اتفاق الوحدة بينَ الشطرين في 22 أيار/ مايو 1990، سألتُ علي عبد الله صالح على المباشرِ في ذلكَ اللقاء الذي كان يُعدُّ في حينه سبقًا وتفرُّدًا كبيرًا للتلفزيون، سألتُه عن الوحدة، وهل كانت اختيارًا شعبيًّا، أم قرارًا سياسيًا (فوقيًا) بين قياديين، وعن الجهة الضامنة للوحدة. هل هي مؤسسات وِحدويَّة قائمة بذاتها، أم أن الرئيس ونائبه هما الضامنان؟ وما إن انتهيت من طرح السؤال حتى صرخ الرئيس صالح قائلًا "أنتُم تُجرون لقاءً، أمْ مُحاكمة للنوايا والإرادات"، وكان يَهِمُّ بِمغادرة الأستوديو لولا قولي بأن ذلك من قَبيل الحديث، وطمْأنَةُ الشعبِ على وِحدته التي تضمن بقاءها المؤسسات. فاستدرك وبشكل كبير من "الاعتداد" بالذات بأن الدولة هي دولة مؤسسات طبعًا، وليست مجرد إرادات أشخاص، وبأنَّ الدولة باقية ونحن زائلون. وقد أكدت الأحداث لاحقًا أن الوحدة كانت مشروعًا آخر لحروب على السلطة كانت وستظل مستمرة.


(*) أخيرًا.. هل تتحمل مسؤولية قولك إن الجزائر قد فوَّتت تجرُبةً إعلاميَّةً ديمقراطية غير مسبوقة عربيًا على يد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد الذِّي وَصفَهُ خُصومه بالأُميِّ، ورفضك منصب وزير مرتين؟
نعم.. أتحمَّلُ مسؤولية ذلك، وأبْكي على الفُرصَة التي ضيَّعَهَا آخرُونَ على الوطن باغتيال ذلكَ الطُّمُوح، وذلك التَّطلُّع الذي كان جاهزًا بمشروعٍ إعلامي مُهيكل ومُكتمل بمضامينَ ومحتويات تنافسيَّة، بلْ وبمادة مُتفرِّدة في خصائصها لم يَكنْ يَجرُؤ كثيرونَ في التلفزيونات العربية في ذلك الحين على التعاطي معها، سواء كسقفِ حريَّةٍ، أو كأشكالٍ ومعالجاتٍ، بل إنَّ الساحاتِ التي كان يقتحمُهَا ذلكَ الإعلامُ كانت حكرًا على كبار ذلك العالم بمفهوم التميز بالحضور والدور، بل وبالمنافسة على السبقِ والتَّفرُّدِ.
كان في إمكانِ الجزائرِ أن تُؤسِّسَ لإعلامٍ عربي حَداثِيٍّ بشكلٍ مُبكِّرٍ، وأنِ تكونَ أحدَ اللاعبِينَ الأساسيين في ساحاته والميادين، ولكن مَنطِق الاحتواء والتدجينِ عطَّل الدَّورَ، وغيَّب الحُضورَ لسنينَ، وأصبحَ الإعلامُ الجزائري كما تَرى، وكما أَرى اليوم، يتطلَّعُ إلى فرصٍ لمجارَاةِ الآخرينَ، بعدَ أن كان في الأمس في موقعَ الريادةِ. وما زال التَّطلُّعِ مُعطَّلًا رغمَ سُلطةِ السموات المفتوحة، وعصر الإنترنت، ووسائطَ تواصلٍ يَتَخاطَبُ بها في الساعة الواحدة مئات الملايين.
ورغم ذلك، فإنَّ الأملَ يَظَلُّ قائمًا في الأجيالِ لصناعةِ إعلامَ اقتحامٍ كما ساد لأعوام. زمنٌ نتمناه يهطل فينا وفي إعلامنا كل حين. شكرًا لموقع "ضفة ثالثة"، ولكم.