Print
دارين حوماني

الياس لحود: الشعر فعل حرية وتجديد

24 نوفمبر 2021
حوارات

 

يصعب اختزال شعر الياس لحود (1942) بكلمة واحدة، فقد بدأ كلاسيكيًا وعلى دفعات أصبح "ما بعد حداثوي" وشديد التعلق بالثورة على الكلاسيكية. كتب الشعر منذ العاشرة من عمره بالفصحى وبالفرنسية ثم تبعه بالمحكية، وكتبه بنبرة تأملية في بداياته ثم وجد نفسه داخل عالم عربي منقسم فكتب عن العواصم العربية وجروحها وعن القضايا العميقة، ثم سخر من العالم كله في شعر ضاحك كوميدي ليس سوى معاينات عميقة للواقع، و"الكوميديا هي جزء من جدية الكتابة" كما يقول فرانسوا رابليه، فالضحك مثل المخدّر بالنسبة إليه. لم يتأخر صاحب "فكاهيات بلباس الميدان" فقصد بيروت شابًا وأسّس مع عصام العبداللـه وحسن العبداللـه وجوزيف حرب وحبيب صادق وآخرين "جماعة شعراء الجنوب" وكانت لاجتماعهم الأول باكورة شعرية مشتركة "كل الجهات الجنوب". هو من مؤسسي الحداثة الشعرية التي حلّت في المحكية مع ميشال طراد وطلال حيدر والأخوين الرحباني، هي حداثة توازي الانتقال من القصيدة العمودية إلى قصيدة النثر. معجم الياس لحود اللغوي يتسع للطبيعة كلها تارة ثم لهواجس الإنسان والقلق الوجودي تارة أخرى؛ شعر لا يسير على خط واحد بل يتنقل بين اللغات والصور وكأنه يستخرج من ذاكرته بشكل دائم ما يشدنا إلى فضاءات مفتوحة تنادي صمت العالم.

هذا الشاعر لم يهدأ كتابةً وعطاءً منذ طفولته التي لم تخرج من معطفه، فلا يزال على حافة الثمانين يحمل قلب طفل، وفي عينيه وهو ينظر إليك ستجد طفلًا جالسًا فيهما. في عام 1988 أسّس مجلة "كتابات معاصرة" وعنها يقول إنها مجلة الـ"ما بعد حداثة"، وإذا كان جاك دريدا وبول ريكور وجان تولوز قد أمدوا العالم العربي بكثير من نظرياتهم ومصطلحاتهم لكن "لا يجب أن يغيّب الشاعر العربي الآخر وأن لا يأخذ منه إلا ما له علاقة بتطوره وبفعاليته". لالياس لحود أكثر من 15 مجموعة شعرية تم جمعها في 4 مجلدات شعرية عام 2012. ابتعد في حياته عن الجوائز ولم يتقدّم للحصول على أيّ منها، لكنه ومنذ أقل من شهر حاز على جائزة مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في حقل الشعر، وجاء في بيان الجائزة "تم اختيار الياس لحود هذا العام لما تتمتّع به تجربته من ثراء عريض على مدى أكثر من نصف قرن، ولتميّز مشروعه الشّعري من خلال تناوله لمختلِف القضايا الذّاتيّة والوطنيّة والإنسانيّة، بأسلوب شعري متطوّر وتشكيل هندسي بنائي أعطى له حضورًا متميّزًا فى التّجربة الشعرية المعاصرة"، وكأنه بذلك حصل على التقدير الذي يستحق بعد سبعين عامًا من العطاء الشعري والأدبي والصحافي.

عن الجائزة وذكريات من حياته وآرائه في الشعر والحياة كان لنا معه هذا الحوار.

 


(*) نود أن نبدأ من الجائزة، كيف تلقيت ذلك، ماذا كان شعورك بعد عمر أمضيته بعيدًا عن الجوائز؟ هل تشعر أن حصولك على الجائزة تأخر، بمعنى آخر، حصولك على التقدير بعد ثمانين عامًا، منها سبعون في كتابة الشعر؟

تلقيت ذلك بكثير من التأثر والبهجة، وأحسست بالسعادة لي ولعائلتي الصغرى، ولعائلتي الكبرى أي أصدقائي في الوسط الثقافي، ورأيت فيها تحقيق حلم يراود المثقفين والثوريين وانتقالهم من حالة إلى أخرى نحو الكمال. كان نيل الجائزة نوعًا من الصدمة الجميلة وعدم تصديق الحدث الثقافي الذي عاجلني وإلى أي مدى سأكون قديرًا في إدارة هذا الحدث. وعدتُ بذاكرتي إلى شبابي قبل أن تنضج قصيدتي وتحمل لي بهجة الكتابة، متسائلًا عن قيمة ما نشرت منذ أن بدأت كتاباتي تنتمي لعصر الكتابة الجديدة التي مثّلتها.

(*) بالعودة إلى بداياتك، كيف كان جوّ البيت والمكان، وهل هناك عوامل دفعتك إلى الشعر؟

بدايتي كانت بين أب وأم وإخوة وزمن "مرجعيوني" وجنوبي. رغم التجديد الكتابي الذي كان يحدث فأبي توجّ كتاباتي بشعر غزير من أبيات العتابا تجاوزت التسعين بيتًا. وكانت كل كتاباتي تمر أولًا على قلم اشتراه أبي لي ليشجعني على الكتابة وللاقتراب أكثر منها. وكذلك أستطيع أن أقول إن هذا الجو الشعري كان حاضرًا بين البيوت في قريتي التي اكتنزت بشعر نقولا قربان وجورج وفؤاد جرداق وكثيرين. بلدتي جديدة مرجعيون كانت أجمل الكلمات والمفاصل الموسيقية والكتابات المتحرّرة.

(*) كتابك الأول "على دروب الخريف"، تجرأت على نشره قبل أن تبلغ العشرين من عمرك، حدثنا عن هذه التجربة، لماذا استحضرت الخريف في شبابك؟ وقبل دروب الخريف كتبت الشعر بالفرنسية، وبالعربية الفصحى، هل كانت هذه الكتابات فترة مؤقتة؟ ومتى انتقلت إلى اللغة المحكية؟

الحقيقة أن عمري بدأ مع "دروب الخريف" ومع كثير من الكتابات بالعربية الفصحى وبالفرنسية باستثناء الزمن الذي سيلحق به، وكتابتي عن الخريف كانت كتابة جديدة رغم التسميات التي أطلقت في مدة خمس أعوام قبل نشر هذا الكتاب. ربما شعوري بالحزن هو ما حرّكني لأكتب أولى قصائدي عن بلدتي: "تطل على حرج الصنوبر بلدتي وترفع في وجه النسيم سدودا/ وتنكر أن تملي عليك حدودها فتأخذ من قاصي السماء حدودا"، هكذا كانت كتاباتي إلى أن بدأت الكتابة بالمحكية التي لم تسكت ولم تهدأ بعد ذلك.   

(*) اللغة الشعرية التي ابتدأت بها في ديوانك الأول «على دروب الخريف»، تغيّرت بوضوح في ديوانك الثاني «والسدّ بنيناه»، ثم تغيّرت مجددًا في «فكاهيات بلباس الميدان»، وهكذا… والفكاهة التي تقع عليها في «الفكاهيات» تبدو مختلفة عن تلك التي نجدها في المجموعات اللاحقة.. في المسافة بين الديوان الأول والأخير، ما مردّ هذا التغير، أين تشعر بالتحول الحقيقي في تجربتك الشعرية؟

التحول في تجربتي الشعرية ليس تغييرًا فحسب إنما هو تطوير نحو الأفضل والأعمق والأكثر حداثة وما بعد الحداثة، وتطوير هذه الأعمال شعريًا هو تطوير نحو الرؤية الأجمل للأرض والإنسان والفكر.





(*) كنت أحيانًا تكتب الفصحى ثم تقفلها بالمحكية، ما الذي كان يدفعك إلى هذا التزاوج؟

هذا ليس تزاوجًا وإنما هو قول وفعل بالنسبة للعقل العربي عمومًا والأعمال الشعرية على وجه الخصوص، هو تطوير للحداثة وإلى ما بعد الحداثة وإدخال نماذج فكرية كبيرة تتحمل ما سيأتي من عملية التطور.

(*) كنت مقيمًا في الجنوب ثم قصدت بيروت لدراسة الأدب العربي في الجامعة وبقيت فيها رغم الحرب الأهلية، ماذا قدّمت لك بيروت؟

لم أترك الجنوب أبدًا وكنت أحمله دائمًا معي في قلبي وعقلي، كانت بلدتي "جديدة مرجعيون" وسواها من أوطان الشعر دائمًا في داخلي. كما إنني حملتُ إلى المهرجانات الشعرية التي شاركتُ فيها أرضي وجنوبي وبيتي وجميع الجنوبيين أبناءً وإبداعًا. إنها عملية سبك للحرف بعملية أعلى هي الإطلالة على العالم من كواكب مرجعيون العميقة المحبة الساعية إلى الاطمئنان العملي والعلمي والإبداعي. أتيت بيروت منذ شبابي، وكنت ألتقي فيها مع عدد من الكتّاب اللبنانيين والعرب والعالميين وخصوصًا الكتّاب الفرنسيين والإنكليز وكتّاب شمال أفريقيا التي لديها عندي سبق عن جميع الخرائط العربية.

(*) فيما بعد كنت مصرًا على أن تبقى في بيروت من أجل مجلة "كتابات معاصرة" رغم وجود أسرتك في باريس..

بيروت ليست أم الدنيا وإنما هي أمها وأبوها. الذي حدث في الحقيقة هو إصدار هذه المجلة "كتابات معاصرة" والعمل على استمرارها في أوقات قاسية وصعبة خلال الحرب الأهلية في بيروت وتحت وابل قذائف الحرب وكلمات الانقسام. ومن الأجدر أن أقول إن تجربتي في "كتابات معاصرة" مع الأخوة والأصدقاء في لبنان وخارج لبنان كانت جديدة بالفعل وحملت بصمتها لأعوام رغم الحاجة المادية التي سيطرت على بعض الأعداد.


(*) "كتابات معاصرة" لا تزال مستمرة لكن بأنفاس متقطعة، ما الذي يجعل هكذا مجلات ثقافية أدبية تعنى بالأدب تختفي يومًا بعد يوم؟

"كتابات معاصرة" لست أنا الذي حماها، بل فعل الحرية واتساع دائرتها والأخوة الذين يمدونها بما يملكون أحيانًا في لبنان وفي خارج لبنان. ما حدث ويحدث في لبنان هو نموذج متكامل للمحاربة الثقافية العربية واللبنانية باستثناءات قليلة في بلادنا.

(*) متى بدأ الجو الثقافي في بيروت يتراجع برأيك؟

الجو الثقافي في بيروت لم يتراجع، وإنما قصد أمكنة إضافية كان على الدولة أن تحافظ عليها وتربيها من الأعماق وتساعدها على الظهور الفعلي في المعارض والمدارس ونقاط التلاقي.

(*) السؤال حول التراث وحول الحداثة والعلاقة بينهما يشكل الهاجس المحوري لكتابتك، نود أن تحكي لنا عن رؤيتك الحداثوية إلى الشعر والفنون والحياة؟

الحداثة وما بعد الحداثة كانتا ضروريتين لتأصيل نفوس كانت تهرب من الشعر الكلاسيكي وعلينا دائمًا بالتجديد والتطوير في الكتابة، ساعتئذ تكون حرية إضافية على الحرية المفقودة في بلادنا، ولا أقول مفقودة وحسب بل هي محاربة مقصودة للإنسان اللبناني خصوصًا والعربي أحيانًا، وفعل الحرية هو فعل الشعر بكرامته والضروري للأجيال القادمة.



(*) تقول "وما في حدا قدامهن غير الهوا/ وتمثال لعنتر عَبِس/ بالعْ هوا/ لاحسْ هوا/ ماكِلْ هوا مكتّر/ ولابِدْ بالشمسْ/ منقّط على تيابو دبسْ"، عُرف شعرك بالسريالية وبالرسائل الفكاهية، التي تسخر من الأحوال والأشياء وهذا العالم الضارب نحو الاستهلاك والتفاهة، هل يشبهك شعرك، أم هو نقيض لك، هل أنت في الواقع شخص فكاهي أم حزين ولشدة حزنه يستخدم السخرية في شعره؟  وهل شعرك الفكاهي نوع من التمرد السوسيوسياسي على واقع يصعب تغييره؟

شعري الساخر تارة يشبهني وطورًا أشبهه وفي أكثر الأحيان السخرية هي التي تشبه الحداثة، تارة تتكامل معها وتنتشر وتارة أخرى تسير سريعًا نحو التلاشي. نعم أسلوب شعري الساخر هو تمرد على هذا الواقع الذي يصعب تغييره وخصوصًا في لبنان، وهو هكذا برأي الكثير من أصدقائي.

(*) أود أن أعود إلى قصيدتك التي كتبتها عن العواصم العربية منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا، قصيدة يمكن أن يُقال عنها إنها قصيدة كل الأزمنة، "بيروتُ في لُقْمَتي شوْكةٌ ودمشقُ انْقِضاضٌ بجُرْحي وبغدادُ بئرٌ جَريحٌ بصَدْري وبَوّابةٌ في فَمي والقاهِره وعمّانُ سيْفانِ في الخَاصِره... "، كيف ترى المشهد العربي الآن؟

قصيدتي "حواريات الإمتاع والمؤانسة" أنت الآن على مسافة شبر منها. فهي عمل إبداعي تارة يقترب من هذه العاصمة وتارة أخرى يبتعد عن عاصمة أخرى كثيرة الأسماء منها التعرية أو التطور أو الحداثة وما بعد الحداثة في الكتابة العربية، وأنا مع الخط الأخير خصوصًا عندما تتكلم العواصم العربية بالقتل والتضييق والكاريكاتورية.


(*) في "تعليمات عن أشكال الزمن الآتي"، تقول: وصلتنا التشكيلات/ أخذنا علمًا عن أشكال الزمن الآتي:/ القامة نصف كئيبه/ والعينان تسيرانِ بعنفٍ نحو الصُّفره/ والشعر ضريرٌ متعَب/ والوجهُ حليقٌ خافت/ والزندُ الأيمن عضَّ عليه القات..".. هل كان هذا نوعًا من استشراف للعالم القادم السطحي الذي لا عمق فيه؟

هو استشراف لعمق يشع ويتعالى وأتمنى للنفوس الكاملة وصول الحرية والتطور وقتل الحاجة.

(*) ثمانون عامًا أمضيت سبعين عامًا منهم في كتابة الشعر، كيف ترى إلى الشعر في ذلك اليوم من عام 1962 حين نشرت كتابك الأول، وبين الشعر اليوم؟ هل تلاحظ أن ثمة ردة نحو قصيدة الوزن؟

الشعر يتطور شئنا أن أبينا، شاؤوا أم أبوا، ودراسات الشعر هذا تقود إلى أن الشعر لا يتغير مرة واحدة ومراته عديدة، هي بدائل تفاجئنا دائمًا بكل ما هو تطور، كائنًا ما كان هذا التطور.

(*) عن المثاقفة مع الغرب، هل ترى أن تأثر الكثير من الشعراء بالحداثات الغربية وبنتاجها الشعري وإقبالهم على القراءات المترجمة عمل صحي أم يشوه وجهنا العربي في مكان ما؟ 

أرى أن المثاقفة مع الغرب أمر طبيعي بشرط واحد الإكثار من الحرية في قراءته وليست أبدًا العبودية، هي ليست سوى ممر صعب... فلتكن الحرية رأسمال الكتابة وليكن التجديد المظهر الجديد للشعر العربي قولًا وفعلًا.

(*) قلائل الذين يعرفون أنك كنت عازفًا، حدثنا عن الموسيقى في حياتك، وهل كان لها أثرها في شعرك؟

نعم كان للموسيقى أثر، ولكن كل شيء يختلف مع الأيام في الشعر وسواه. الموسيقى أداة تغيير وتبديل وتمنح الشعور بالحرية.