Print
تغريد عبد العال

جميل ملاعب: الفن سؤال وجواب

26 ديسمبر 2021
حوارات



في مقهى الروسا، حيث يجلس كل يوم، كان الفنان اللبناني جميل ملاعب في انتظاري. عرفته من هدوئه وصورته المعروفة، وبدأ يسألني عن الفنانين العالميين واللبنانيين الذين أعرفهم. لا يمكن الادعاء بمعرفة فن لبنان الحديث من دون الاطلاع على أعمال ملاعب. فهو صاحب بصمة وأسلوب فني في المحترف الفني اللبناني الحديث. تعلم الفنون في الجامعة اللبنانية، وكان من معلميه شفيق عبود، وبول غيراغوسيان، وعارف الريس. عاش في الجزائر لعام واحد، ثم درس بعدها في نيويورك، وعاش هناك، ونال شهادة الدكتوراة. عاد بعدها إلى لبنان عام 1989، ليبدأ بتدريس الفن في الجامعة اللبنانية والجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت. مؤخرًا، أقام ملاعب معرضًا في غاليري جانين ربيز في الروشة تحت عنوان "لبنان: الجمال والثقافة". هنا حوار معه حول معرضه الأخير، وأعماله الفنية، ونظرته إلى الفن:

 

(جميل ملاعب) 

 




(*) كانت هنالك نقاط تحول كثيرة، ومحطات كثيرة، في حياتك الفنية. ما هي المحطة الأهم التي غيرت من نظرتك للفن؟

لم أكن جديًا في البداية أنني أريد أن أكون فنانًا. كنت أريد أن أعيش فقط. كنت أعيش من إنتاج الضيعة، والرسم كان هواية غير جدية. وعندما دخلت الجامعة لأدرس الفنون، قالوا لي: كيف ستعيش؟
كنت دائمًا أتساءل كيف سأستمر؟ واستمريت، وكانت أهم قفزات حياتي عندما عرضت في متحف سرسق في عام 1966. وأخذت جائزة في النحت مع سلوى روضة شقير، وميشيل بصبوص، وفنانين كبار. القفزة الثانية حين دخلت إلى الجامعة اللبنانية، وتعرفت على معهد الفنون الجميلة، وكان فيه أروع الأساتذة والفنانين اللبنانيين، شفيق عبود، وعارف الريس، وبول غيراغوسيان، ورفيق شرف، وغيرهم. والقفزة الثالثة كانت الجزائر التي درست فيها بمنحة من الحكومة الجزائرية، لمدة سنة، واشتغلت هناك على المناظر الطبيعية. هذه المجموعة عرضتها هناك عام 1972، ثم في لبنان في دار الفن والأدب، في أول معرض لي بإدارة جميل ربيص. عرضت إلى الآن ثلاثين معرضًا شخصيًا، ونشرت تسعة كتب حول مواضيع مختلفة عن الحرب اللبنانية، وعن أعمالي المختلفة.


(*) تأثرت بأعمال فنانين لبنانيين، وكانوا أساتذة لك في الفن، كبول غيراغوسيان، وعارف الريس، وشفيق عبود. كيف أثروا فيك، وفي أسلوبك الفني الذي تفرد في ما بعد وصارت له لغة خاصة؟
ليس لي الحق أن أحدّد كيف أثروا بي، أو تفردت عنهم، لكن توقي هو أن أعبّر عن نفسي، وعن الحياة التي أعيشها، وكذلك الثقافة والرحلات التي أقوم بها، والأشياء التي رأيتها من خلال زياراتي لمتاحف العالم، في نيويورك وباريس وموسكو ومكسيكو والصين والهند ومصر وسورية واليونان. هذه الأمكنة التي أثرت بي، وأيضًا، التراث اللبناني الذي يجمع كثيرًا من المؤثرات القادمة من الشرق، ومن بلاد فارس، ومن العراق، وتركيا، ومن كل المحيط. هي مجموعة ثقافات وأصوات مختلفة وتشكيل مختلف.


(*) في فنك ما يختلف مع مقولة "الفن للفن"، وخاصة ذلك الانتماء لبيئة ثقافية، وأحيانًا بالواقع السياسي. ما هي نظرتك الخاصة لذلك؟ وهل يستطيع الفن أن ينقذ هذا الواقع؟
سؤالك ربما يحتاج إلى كتاب للإجابة، لكن نعم الفن فن، لو كان تجريدًا، أو واقعًا سياسيًا، أو غير سياسي، الفن في حاجة لأن يكون ذو مستوى فني. صليبا الدويهي مقبول، وعارف الريس مقبول، حتى لو عمل على لوحة لا تحمل فكرة، أو رؤية ما. الفكرة هي اللوحة، الهندسة، الألوان والتجريد. المستوى الفني هو الأهم في الفن. فإذا عبرت عن فلاح بطريقة هزيلة فنيًا، لا أخدمه، ولا أخدم الفن. الأهم أن يخرج الفن بطريقة فنية جديدة، وإلا فليس له قيمة.


(*) يقول كلود مونيه: أتمنى أن أرسم بالطريقة التي يغني فيها الطير.. وكأن الفن لغة..
كل فن هو لغة، بالتأكيد. الألوان في داخلها أصوات.. الألوان والأصوات تشبه بعضها كثيرًا، واللون يحكي...


(*) في المعرض، حضور للتاريخ. وكأن اللوحات هي منمنمات، أو فسيفساء، كانت على أبواب المعابد والكنائس. هل هي محاولة لرؤية المكان بتاريخه عبر هذه اللوحات؟
أنا لا أنقل التراث. أحاول أن أرى التراث بطريقتي الخاصة، من خلال تجربتي الخاصة. وبالتأكيد سيخرج شيء ما مختلف. كل يوم ترين الشارع مختلفًا، والقمر مختلفًا، هنالك شيء ما يدور في هذا الكون. لا شيء يبقى كما هو، حتى جسمنا يتغير...


(*) عندما تحدثنا في الهاتف، قلت لي شيئًا جميلًا، بأننا تفصيل من هذا الكون، وكأن فنك يقدم تفاصيل صغيرة جدًا من المكان. حاولت الاقتراب من اللوحة حتى أراها جيدًا. لقد عرضتها أمامنا وكأنها خريطة كبيرة. كم يشبه الفن الخرائط؟
هنالك تحد في المساحة، أن تمسكي لوحة كبيرة وتحافظي على التوازن الفني من دون ابتذال وتكرار أو ضجر. ليس سهلًا أن تكون هناك مساحة مترين، أو متر ونصف، لأقول فيها شيئًا ذا معنى، وله رسالة. لا أقول هذه التجربة نجحت أم لا، لأني أريد مرآة لأرى نفسي. وهذه اللوحة هي مرآتي، والناس التي تراها وتسعد بها كأنها تراني أنا.




(جميل ملاعب)


(*) كأننا نرى جميل ملاعب في اللوحة...
حتى الذي يكتب عني، هو يكتب عن نفسه، وعني أيضًا.. كلنا جميعًا نتساءل عن وجودنا ومستقبلنا وحاضرنا، ودائمًا هنالك علامة استفهام كبيرة..


(*) يعني الفن هو سؤال؟

هو سؤال وجواب في الوقت نفسه، إذا لم يكن هنالك جواب ستصبح هنالك حيرة في اللوحة..


(*) لكن ربما هو جواب يفتح آفاقًا أخرى..
جواب تستطيعين أنت أن تتساءليه، أو تسألي عنه..


(*) حدثتني عن حبك لقصائد محمود درويش. هل تستلهم لوحاتك من الشعر، أو الأدب؟
يأتي ذلك بطريقة طبيعية جدًا. صوت عبد الوهاب، مثلًا، يدخل في الألوان بشكل جميل جدًا. كذلك صوت فيروز وأغانيها، وأشعار محمود درويش. في نيويورك، حين كنت أسمعه وأنا أرسم، وكذلك قصائد محمد الماغوط، وقصائد أدونيس وقصائد صديقي طلال حيدر. كل هؤلاء أنا مسؤول عنهم، لأني أحب شعرهم. كتبت في نيويورك أشعارًا بالإنكليزية، ولكن لم أنشرها. كانت تجربة عفوية، وأتمنى أن أنشرها في يوم ما.


(*) معظم الفنانين في العالم كانت لديهم تجربة في الكتابة..
ليس هنالك فارق كبير بين الشعر والرسم والموسيقى، الشعر يشمل كل شيء حتى الرسم..




(جميل ملاعب)


(*) كأحد الفنانين البارزين في لبنان، ماذا تقول للفنانين الشباب؟

لقد علمت في الجامعة اللبنانية خمسة وثلاثين عامًا، هنالك شباب يعملون بشغف وجديون. الفن اللبناني مميز، فيه صفاء وألوان جميلة...


(*) في كل معرض تقوم به يكون هناك مكان ما.. لماذا؟

تعودت أن أربط أعمالي بسفر ما، أذهب إلى بلاد وأرسم فيها. سافرت إلى مصر، وإلى نيويورك، ورسمت فيهما. رسمت في الصين على سور الصين، وإلى الجزائر حيث عرضت الأعمال التي هي عبارة عن مشاهد في رحلاتي.


(*) هل المكان هو مؤثر، أم لغة؟
المكان هو لغة، أنت ترسمين جامعًا في الجزائر، هذا الجامع يحمل تراثًا هندسيًا عظيمًا، بالإضافة للخلفية والسماء والناس. كل هؤلاء يصنعون اللوحة. في مصر، رسمت الأهرامات، و(أبو الهول). ورسمت في صعيد مصر الفلاحين. كل هؤلاء يضيفون أشياء جديدة لا أعرفها. ورسمت سور الصين والناس الذين يصعدون إليه. ورسمت في اليونان حديقة كازانتزاكيس، الكاتب اليوناني الذي أحببت حديقته جدًا، وعملت على مجموعة كاملة عن حديقته، وزرت متحفه، وعملت على مقالة مع صور لرحلتي إلى اليونان. الطبيعة والرحلة والسفر هي المحفز لي، السفر يغذي الفنان التشكيلي.
أذكر أنه لدى سفري الى المكسيك تعرفت إلى أعمال دييغو ريفييرا، الذي هو فنان كبير..


(*) وفريدا كالو؟
فريدا كالو كانت حياتها مأساة. ربما ذلك أعطاها شهرة ما، لكن الفنان الكبير هو ريفييرا. أنا مع الفيلم الذي ترجم حياتها. أهمية الفيلم أنه يتحدث عن إنسانة وفنانة عانت كثيرًا.. وهنالك تعاطف معها كامرأة. لكن الفن المكسيكي في أعمال الفنانين الكبار مميز جدًا عالميًا.


(*) معظم الفن العربي جذوره تأتي من الفن الغربي، هل توافق على ذلك؟
جميل سؤالك. لكنني في معرضي لا أعود إلى مرجع خاص يشبه فنانًا ما، أنا أشبه ألفي فنان.. معظمهم من بلادنا. يهمني أن أتأثر، لكن ليس بشكل ملحوظ إلى درجة أن أشبه فنانًا ما.




تعبت على تجربتي كثيرًا حتى أضيف شيئًا ما للفن العربي، وهذا شيء سهل جدًا. عندما ترسمين الأشياء التي تحبينها ستصبحين مميزة. لو رسمت أهل الضيعة، أو أي ضيعة في سورية، أو في مصر، فهذا مميز. الأشياء الأساسية تخرج من الأرض، ومن الإنسان، في تفاعله مع الفصول والأيام والمعاناة والحروب والصراعات، ويكفي أن ينتبه إليها الإنسان ليكون مميزًا.


(*) هكذا يرتبط الفنان بالفن العربي.
الفن العربي ليس عربيًا، هو قادم من الفن الفرعوني، والسومري، والفارسي، والبيزنطي، والتركي. كلهم يشكلون الفن العربي. ويشكلون التراث والعادات والثقافة والآلات التي نستعملها.


(*) في هذا المعرض الأخير، لم تكن هنالك ألوان كثيرة في اللوحات.
كان هناك في الخشبيات.. لكن اللوحة تعتمد على الرسم. أنا فنان بالأصل تجريدي، وأرسم بألوان قوية، لكن في هذا المعرض، اعتمدت على الرسم، وعلى الخط مع اللون.. ولكن كثرة الألوان ستلغي الرسم.. كان هنالك تقشف في الألوان، حتى أعطي قوة للرسم، وللوحة ككل. اللون يقسم اللوحة ويجزئها، وهذه وجهة نظري، وهنالك من يحبون اللوحة بطريقة أخرى.


(*) متى تقرر أن تذهب إلى التجريد؟
أهم شيء في الفن هو التجريد، الفنان الذي لا يرسم تجريدًا هو فنان غير كامل.


(*) هل نبدأ من المدارس الكلاسيكية لنصل إلى التجريد؟ أم نستطيع البدء منه؟
اللوحة التجريدية تحتاج إلى تأليف قوي. وهي جسم واحد لا يتجزأ، وهي خطيرة جدًا. الهندسة كالبناية، وكجسم الإنسان. عليك أن تفهم الهندسة والأبعاد والمسافات والكثافة اللونية والجهات. عندما نصل إلى اللوحة التجريدية يعني أننا اكتملنا.