Print
إدريس الخضراوي

حسن الطالب: كومبانيون يرى أن النظرية الأدبية نسبيةٌ! (2/2)

25 فبراير 2021
حوارات

بَعدَ مَجموعةٍ مِن المؤلفاتِ المؤثرةِ التي تجيب عن عدد من المشكلاتِ والأسئلةِ المطروحةِ حول الدراساتِ الأدبية والنقد ونظرية الأدبِ، وعدد من المحاضراتِ الموسوعية عن مونتين وبروست وسارتر في الكوليج دو فرانس: أرقى مؤسسة أكاديمية فرنسية، برز اسم أنطوان كومبانيون، الأستاذ بجامعة السّوربون وبجامعة كولومبيا بالولايات المتحدة، كواحد من أهمّ وألمع منظري الأدب في السنوات الأخيرة. فرغم التّلمذة على كبار النقّاد والدارسين في النصفِ الثاني من القرنِ العشرين وفي طليعتهم رومان جاكبسون، رولان بارت وجوليا كريستيفا التي أشرفت على أطروحته، يبدو كومبانيون منظرًا قادمًا من بعيد، أنصت بعمق إلى أفلاطون وأرسطو، وتقصّى مونتين وروسو، بنفس القدر الذي استكشف فيه أدب كبار كتابِ الحداثةِ ومناهضيها إذا استعرنا عنوان كتابه (مناهضو الحداثة، 2005). تصدر أعماله عن قدرة هائلة على التركيبِ والمزجِ بين الثقافة الفرنسية والثقافة الأنجلو أميركية، كما تكشف عن تصور مختلفٍ للدراسات الأدبية يقوم على أنّ العلاقة بين النظرية والتاريخ يتعيّن أن تكون مؤسّسة على التلاقح، وبالتالي فلا غنى عنهما للدراسات الأدبية كي تتطورَ ويتجدّد الاهتمامُ بها، وذلك بِخلافِ التصوراتِ الكلاسيكية التي قامت على الفصلِ بينهما، وميزت بين الشكلِ والمضمونِ. وبالنظرِ إلى الأهمية الكبيرة التي تكتسيها المدونة النقدية لهذا الناقد المفكّر الذي يَتموقعُ نهجه النقدي في منطقة تعدّ في الوقت الرّاهن من أكثر المناطق إثارة للأسئلة، وبحكم القيمة التي تمثلها افتراضاته النقدية في مواجهة إشكاليات النقد الأدبي بصورة عامة، والنقد الأدبي العربي المعاصر بصورة خاصّة، سَنحاولُ الاقتراب من جهوده في حقل النظرية الأدبية في هذا الحوار مع المترجم المغربي، الدكتور حسن الطالب، أستاذ النظرية الأدبية والأدب المقارن بكلية الآداب بجامعة ابن زهر ـ أغادير. ويعدّ حسن الطالب مترجم العديد من المؤلفات المحورية في ميدان النظرية والنقد مثل: ما التاريخ الأدبي؟ وظاهرة الأدب لـ كليمان موزان، وإشرافه على ترجمة كتاب موسوعي في نظرية الأدب هو "نظرية الأدب" الذي أشرف عليه دووي فوكيما، ومارك أنجونو، وجون بيسيير، وإيفا كوشنر، والصادر عن منشورات PUF عام 1989، ويظلّ إلى حد الآن مرجعًا جامعًا وشموليًا في جميع القضايا التي تتصل بالأدب ونظريته، والطالب في طليعة الباحثين المهتمين بالنظرية الأدبية في العالم العربي، بصورة عامة، وبأنطوان كومبانيون، بشكل خاص، وقد ترجم له كتابين مهمين: شيطان النظرية (Le Démon de la théorie) ولم يصلح الأدب؟ (?La littérature, pour quoi faire) يصدران قريبًا عن دار الكتاب الجديد المتحدة.
هنا الجزء الثاني، والأخير، من هذا الحوار:


أنطوان كومبانيون في جلسة تصوير في باريس (8/ 10/ 2015/Getty)

النظرية أمام المرآة
(*) بخلاف البنيويين الذين يفكّرون في النظرية، بوصفها ناجزة، أو مكتملة، يبدو كومبانيون وكأنّه يشدّد على أهمية ما تمّ استبعاده خلال الحقبة البنيوية أي نسبية التصورات عن الأدب. لا تستحقّ النظرية الأدبية اسمها إلا عندما تكون نقدية، وبالتالي تخوض معركة ضدّ نفسها، وضدّ الحسّ المشترك. هل لكم أن توضّحوا هذا المفهوم عن النظرية؟
ما قلته صحيح تمامًا. فكومبانيون يرى أن كتابه قراءة نقدية في تاريخ النظرية هو من أوجب الواجبات على المؤرخ النقدي، والمسألة أشبه ما تكون بجعل النظرية ترى نفسها أمام المرآة. وهي هنا كالمرأة التي تبحث في وجهها عن مكامن الجمال والقوة، ومكامن القبح، فتملأ الخدوش، وتخفي الندوب، وبالتالي لن تقوم للنظرية قائمة ما لم تراجع نفسها، وجهازها النظري والمصطلحي، ولا سيما الدور الذي لعبه الحس المشترك في تكريس تصورات عن الأدب، خاطئة معظم الأحيان، أو ليست محل إجماع، ومن ثمة توصّل كومبَّانيون إلى حقيقة، وهي أن تاريخ النَّظَريةِ يُمكنُ أن يُقرأ تاريخًا لنضال ومعركة مُستَمِرٍّة في وجه الحِسِّ المشْترَكِ؛ وهو حسٌّ يُشبِّهُه المؤلّفُ بالوَحْشِ ذي الرُّؤوسِ المتُعدِّدَةِ، ذلك الوحْشُ الخرافيُّ مما يُتيحُ، في نظَرهِ، اعتبارَ النَّظَريةِ نوعًا من الخَيالِ، فهي، كما يقولُ، تُشبِهُ الخيالَ من نواحٍ مُتَعددةٍ، والناسُ لا يؤمنونَ بوُجودِها حقًّا، بل هي مجرد وهم (يوتوبيا)، تمامًا مثلما يؤمنونَ بالتنين الذي ينفث النار من فمه. إنّ ما يميّزُ النّظريةَ هو منظومةُ المفاهيمِ المتمَاسِكةِ، والنَّسَقُ الشُّمُوليُّ الذي تحاولُ بنَاءه، ويؤدي إلى ديناميةٍ تُغيِّرُ السَّائدَ والنّمَطيَّ مِن الأفكَارِ (idées reçus). ومعلوم أن الحِسُّ المشتركُ راكَمَ رؤى وأفكارًا بشأنِ الأدَبِ ليست بالضَّرورةِ صَحيحةً ولا خاطئةً، ولكنَّها أسْهَمَت في تكريسِ نظرةٍ اختزاليّةٍ ومنمَّطةٍ بشأْنِ الأدَبِ. فهل أفلَحَتِ النَّظريةُ الأدَبيّةُ في تحقيقِ هدَفِها المتَمَثِّلِ في التَّصدِّي لضُروبِ الحِسِّ المشْتَرَكِ في الأدَبِ؟ لكن ما المقْصُودُ بالحِسِّ المشْترك عند كومْبانْيُونْ؟ إنه مجمُوعُ التَّصوراتِ المسبَقةُ والنَّمَطيّةُ التي نُسِجَتْ بشأْنِ الأدَبِ، ويمكنُ أن لا تعْدُو كوْنَها مجرَّدَ أوهَامٍ ترسَّخَتْ، أو عشَّشـَت، في أذهانِ القُرّاءِ، إما بحُكْمِ العَادَة، أو العُرفِ، أو التَّقْليدِ، وهم يقرؤون أمّهاتِ الأعمَالِ الأدبيّةِ ("دونْ كيخوته"، "بحْثًا عنِ الزّمَنِ المَفْقُودِ"، "غَارغَانتْيَا"، "مَدَامْ بوفَارِي".. إلخ).

وليس ثمّةَ زمَنٌ يخْلُو مِنْ أفكارِ الحِسِّ المشْتَركِ، يأْتي علَى رأْسِهِا التّساؤلُ عمَّا هُوَ الأدَبُ؟ وما طَبيعَتُهُ؟ وما وظيفتُهُ؟ ومَنْ هُوَ المؤلِّفُ؟ وما العالَمُ في علاقتِه بالأدبِ؟ ما القَارئُ؟ وما الأُسلوبُ؟ وما التّاريخُ والقيمَةُ والحِقْبَةُ؟ إنها مَفاهيمُ مُؤْرِقةٌ يتجَدَّدُ النقاشُ بِشَأْنِهَا في كُلِّ عَصْرِ وحينٍ، وتختلِفُ الأجوبَةُ المقَدَّمةُ لها باخْتِلافِ المرجِعيَّاتِ النَّقديّةِ والجمَاليةِ والفلْسَفيّةِ، ذلكَ أنَّ أخَصَّ خصَائِصِ النَّظريةِ أنها نسبيةٌ في ارتباطِها بلحْظةٍ تاريخيَّةٍ، وموسُومةٌ بهواجِسِ الحقبةِ التَّاريخيةِ التي تولدُ فيهَا، وبنسبِيَّةِ الإجَاباتِ التي تقدِّمُهَا، على الرُّغم من طمُوحِها إلى الإحاطَةِ بكُلِّ جوانبِ موْضوعِها، بل وامتدادِ هذا الطمُوحِ ليَشْملَ ما هو خَارِجَ مَوْضوعِها، مما يحوِّلها هي، نفسُها، إلى نوعٍ من الأيديولوجيا، بسبب ادعائها الشُّموليِّ والمطْلَقِ والتَّعميميِّ في تقديمِ الأجوبَةِ الجَاهِزةِ والمنمّطة التي يُعدُّ الحِسُّ المشتركُ أنصع صورةٍ عنه. إنَّ مَظاهِرَ الاختلافِ والتَّبايُنِ في التَّجارِبِ الأدبيَّةِ هو ما يَشُلُّ مِن قُدْرةِ النَّظَريةِ على صِياغَةِ كاملَةٍ لموْضُوعِها، ومن ثمَّةَ فإنَّ اصْطِدامَ النَّظريةِ بتعدُّدِ الوَقائعِ واختلافِها يحوِّلها إلى مُجرَّد محاولاتٍ، فهي إذا رصَدَت جَانبًا واحدًا من الوقائعِ غابَتْ عنها جوانب أخرى عديدَة. ذلك أنَّ الإجَابَةَ التي تقدِّمُها النَّظريةُ عن كلِّ واحِدٍ منها يحُدُّ - كما يؤكدُ المؤلِّفُ - من الاختياراتِ المتاحَةِ أمامَ الباحثِ كيْ يُجيبَ عن الأسئلةِ الأُخْرى. مِن ذلك، مثلًا، أنه إذا شدَّدَ أكثر على دوْرِ المؤلِّف، فيُرجَّحُ أن يكونَ اهتِمامهُ بمستوى اللُّغة أقَلَّ؛ في حين إذا شدَّدَ على الأدَبيةِ فيُحتَملُ أن يُقلِّلَ مِن دَوْرِ القَارئِ؛ بينما إذا شدَّدَ على الدَّوْرِ الحَاسِمِ للتَّاريخِ، فقَدْ يقلَّلُ من دوْرِ العَبقَريَّةِ، وهكذا.



(*) رغم أن التأمل النظري في الأدب قديم جدًا: نظرية المحاكاة، النقد العربي القديم، فإن كومبانيون يشدد على أن النظرية الأدبية حديثة ومرتبطة بالرومانسية الألمانية إذا ما نظر إليها من زاوية مجالها، وهو: الدراسات الأدبية، والنقد الأدبي، وتاريخ الأدب؟
نعم، معروف أن أغلب المنظرين يرون في الحركة الرومانسية محطة مفصلية في تجديد النظرة إلى الأدب ووظيفته، ولا سيما ما أثارته هذه الحركة من قضايا جديدة في تاريخ الأدب. والشيء نفسه ينطبق على الإرهاصات الأولى للأدب المقارن الذي كان للحركة الرومانسية دور كبير في انطلاقة بداياته (وهذا ما حاول آخر كتاب صدر عام 2016 لمؤلفه بيانكو فرانكو، (الأدب المقارن: تاريخه مجالاته، مناهجه، أرمان كولان (الفصل الأول)). وطبعًا، فحتى التاريخ الأدبي الفرنسي، ومن ثم النظرية الأدبية الفرنسية الحديثة، بل بما في ذلك الفلسفة الفرنسية، يمكن قراءة كل ذلك على أنه إعادة إنتاج للإرث الرومانسي الألماني.

وقد لعبت الترجمة دورًا كبيرًا في تأثر الفرنسيين بالثقافة الألمانية في معظم جوانبها، وما على المهتم إلا أن يعود للكتاب القيم لأنطوان بيرمان "امتحان الغريب: الثقافة والترجمة في ألمانيا الرومانسية" (باريس، غاليمار، 1982) (وبالمناسبة أعددنا له ترجمة ستصدر قريبًا).

النسخة الفرنسية من كتاب "نظرية الأدب" ستصدر قريبًا بترجمة الدكتور حسن الطالب 


(*) يميز كومبانيون بين نظرية الأدب théorie de la littérature والنظرية الأدبية théorie littéraire. نظرية الأدب تشكل جزءًا من الأدب العام والمقارن، إنها تعنى بالتفكير في شروط الأدب، والنقد الأدبي وتاريخ الأدب، بينما النظرية الأدبية تعنى بنقد الأيديولوجيا، بما في ذلك إيديولوجيا النظرية الأدبية. كيف تنظرون إلى هذا التمييز؟
هو تمييز صحيح عند كومبانيون، تمييز يذكرنا بالتمييز بين تاريخ الأدب، والتاريخ الأدبي، فالأخير يهتم بالسياق العام للأدب، في حين يحصر الأول اهتمامه في تطور "الشيء" الأدبي (أجناس، مفاهيم الأدب... إلخ). كذلك نظرية الأدب تهتم بالأسس المعرفية للأدب (إبستمولوجيته، أنواعه، مشكلاته)، بينما تستدعي النظرية الأدبية سياق تشكل النظرية في فضاء محدد، وهو مثل التمييز بين التركيبُ في مقابل التَّحليلِ، لوحةُ الأدَبِ في مُقابِل الدَّرْسِ الفيلُولوجِيّ (philologique)، مثل كتابِ الوَجيزُ في "تاريخِ الأدَبِ الفَرنْسِي" للانْسُون الصَّادِر عام 1895، في مُقابِلِ "مجَلةُ تاريخ فَرنْسَا الأدَبيِّ" المؤسَّسَة عام 1894. وتُدرَكُ نظريَّةُ الأدَبِ في نظر كومبانيون بوصْفِهَا فرعًا مِنْ فُروعِ الأدَبِ العامِّ والمقَارَنِ، مثل وَجِيزِ رينيه وِيليكْ، وأسْتَنْ وارينْ الذي يحمِل العنوان الإنكليزي Theory of literature. فهي تدُلُّ على التفكير في شُروطِ الأدَبِ والنَّقْدِ الأدَبيِّ والتَّاريخِ الأدَبيِّ. إنها نقْدُ النَّقْدِ، أو النقْدُ الواصِفُ، وفضلًا عن ذلك نجد أن النَّظرية الأدبِيَّة أكثَر نُزوعًا إلى الاعْترَاضِ، وتُقدِّم نفْسَهَا، عِلاوةً علَى ذلِكَ، بوصْفِها نقدًا للأيديولوجيا، بما في ذلِكَ نَقدُهَا لأيديولوجْيا نَظريَّةِ الأدَبِ. فهي التي تقول إنَّ المرءَ يحْمِلُ معهُ، دومًا، نظريةً ما، وإذا اعتقَدَ أنهُ لا يحْملُهَا، فهذا يعني أنهُ رهينُ النَّظَريةِ المُهيمِنةِ عَلى المكَانِ واللحْظَةِ. وللأسَفِ، فإنّ هذا التَّمْييزَ الواضحَ في اللُّغةِ الإنكليزيةِ (نظريةُ الأدَبِ فِي مُقابِل النَّظَريةِ الأدَبيةِ) قد طُمِسَ في اللُّغةِ الفَرنسيّة. فقد تُرْجِم كتابُ ويليك ووارينْ نظَرية ُالأدَب Theory of literature إلى اللُّغة الفَرْنسيةِ تحْتَ عُنوان النّظريةُ الأدَبيّة La théorie littéraire عام 1971، في حين نُشِرت مُختاراتُ الشَّكلانيين الرُّوس التي ترجمَهَا تزفيتانْ تودوروفْ سنَواتٍ قبل ذلِكَ لدى النّاشِرِ نفْسِه بعنوان نَظريّةُ الأدَبِ La théorie de la littérature (1966). وللأسف، فإن عدم التمييز بين المفهومين خلق تشويشًا في تحديد موضوع نظرية الأدب، واستمرار استعمالهما مسمى لشيء واحد. وهو ما انعكس كذلك على الترجمة إلى العربية التي لا تشير مقدمات ترجمات الكتب المترجمة في هذا الموضوع تحديدًا إلى مشكل التمييز بين نظرية الأدب والنظرية الأدبية.



إشكالية الحداثة
(*) إضافة إلى النظرية الأدبية، تمثل الحداثة (la modernité) أحد الأسئلة الأساس التي اهتم بها كومبانيون. وله فيها كتابان مهمان: (مفارقات الحداثة الخمسles cinq paradoxes de la modernité 1990)، و (مناهضو الحداثة les antimodernes 2005). ما هو التصور الذي يطرحه كبديل للمذاهب التي تدّعي أنها قادرة على تفسير الفن؟
كما هو معروف، حرر كومبانيون كتابين في إشكالية الحداثة. الأول هو "مفارقات الحداثة الخمس" (1990)، والثاني "مناهضو الحداثة: من جوزيف لومتر إلى رولان بارت"، وهما كتابان قيمان جدًا في مساره النقدي. وإذا تأملنا هذين الكتابين يتضح لنا التصور الخاص للحداثة عند كومبانيون، الذي ينطلق من فكرة التعارض بين التراث والحداثة، الذي شاع وانتشر بين كثيرين، فقد ألف الناس اعتبار أن الحديث هو كل شيء مناقض للقديم (التقليد)، واعتبار التقليد (التراث) كل شيء يصمد أمام الحداثة. وبالتالي، فإن له "سلطة" و"ديمومة" (أفكار، عقليات، حس مشترك..)، من خلال الوفاء إلى أصل محدد، كما ألف الناس أن يعدوا الحديث مرتبطًا بكل جديد سرعان ما يصبح هو نفسه قديمًا، أو تراثًا متجاوَزًا، وما يقترحه كومبانيون هو مراجعة هذا التمييز، ومن ثم فقد طرح سؤالًا جوهريًا حول كيفية وصف هذا التقليد المتناقض والغريب، الذي يتضح مثلًا في حضور الجديد في القديم وحضور القديم في الجديد، والذي كان قد عبر عنه الفيلسوف نيتشه في مقولة "العود الأبدي" (l’Eternel retour)، متى مثلًا يبدأ الجديد ليقطع مع القديم؟ وكيف يبنى الجديد على القديم (التراث)، وكيف يمكن الحديث عن بارت الذي يبدو حداثيًا، مع أنه حسب المؤلف من كبار مناهضي الحداثة؟ ومن يصف الجديد بأنه جديد، أو القديم بأنه قديم، وكيف؟ وهل الغلو في الحداثة لدى بارت (على الأقل في تصوره لطبيعة اللغة والكتابة) جعله تقليديًا أكثر مما ينبغي؟ ألم يهتم بارت بميشليه، وراسين، مثلًا، إلى حد تقديسهما؟ ألم يكن هو صاحب القولة المشهورة "معاصرنا راسين" (في كتابه عن راسين Sur Racine). إن في كل جديد تقليدًا، وفي كل تقليد جديدًا يتجاوز عصره بسنوات، أو أجيال. هذا ما دفع المؤلف إلى رصد خمس مفارقات في الحداثة في عصرنا، من خلال البحث عن الوجه الخفي، المهم في نظره، الذي يتوارى خلف كل حداثة، أو جديد. وهذه المفارقات الخمس هي وهم الجديد (superstition du nouveau) ودين الغد،(religion du futur) ، والهوس التنظيري (manie théoricienne) ؛ والدعوة إلى الثقافة الجماهيرية (culture de masse)؛ وأخيرًا هوس الإنكار (manie de reniement). ويمكن اعتبار كتابه "مناهضو الحداثة" مراجعة لبعض مواقفه التي أثارها في هذا الكتاب، بل وتوسيعًا وتطويرًا لها في الوقت نفسه.

وهنا ينبغي أن أشير إلى نقطة مهمة، وهي أن هذين الكتابين القيمين يتفاعلان ضمنًا، أو صراحة، مع إشكالية الحديث والقديم في تاريخ أدبنا العربي، ويمكن لكثير من الأفكار التي وردت فيهما أن تكون بالفعل منطلقًا لإعادة رسم هذه العلاقة، خصوصًا أن الأدب العربي عرف أشكالًا من هذه الظواهر (عمود الشعر ـ الطبع: في النظم والنثر، وما أثير بشأنهما من جدل في علاقتهما بالمعيار ـ الشعر القديم / الشعر الحديث؛ الأصالة والمعاصرة... إلخ). ونتمنى أن تكون ترجمتنا لهذين الكتابين بداية موفقة لإثارة هذا النقاش بين المهتمين بإعادة كتابة تاريخ الأدب العربي من منظور العلاقة بين القديم والجديد، والتقليد والحداثة.



الأدب يهذِّب ويمتع ويمنحنا الإحساس بالحياة
(*) شهد الأدب في العقد الأخير من القرن العشرين تزايد الارتياب والشك في استطاعته، وفيما إذا كان لا يزال قادرًا على أن يقدّم شيئًا ذا أهمية بالنسبة للإنسان قياسًا بالعصور القديمة. لكنّ أنطوان كومبانيون يبقى من أشدّ المدافعين عن الأدب وجدواه، كما يدل على ذلك درسه الافتتاحي في الكوليج دو فرانس. هل لكم أن تقرّبوا القارئ من نقاط القوة في هذه المرافعة الأدبية المتوهجة؟
الحقيقة أن أنطوان كومبانيون يراهن في هذه المحاضرة على قيمةٍ للأدب تتجاوز المحسوس والمادي إلى الروحي، فالأدب في نظره يهذِّب ويمتع ويمنحنا الإحساس بالحياة. ألم يؤكد إميل زولا أنَّ أمهات الأعمال الروائية المعاصرة تقول الشيء الكثير عن الإنسان والطبيعة أكثر مما تقوله لنا أخطر كتب الفلسفة والتاريخ والنقد شأنًا؟ أوَلَم يؤكد بروست كذلك في مقدمة روايته بَحثًا عَن الزَّمَنِ المفقود أنَّ الحياة الحقيقيةَ، تلك الحياة المكتشفة والمضيئة، في نهاية المطاف، ومِن ثَمَّ تلك الحياة الوحيدة المعيشة حقيقةً، هي الأدب؟ ولتوضيح ذلك، فضل كومبانيون نافذة التاريخ الأدبي، ونَظَرِيَّةُ الأدَب، لتشخيص دور الأدب وفهمه في فضائنا العمومي والخاص. فبعد أن عرج الباحث على بعض المقاربات الوضعية في مقاربة الأدب، بدءًا من القرن التاسع عشر، والجدالات التي قامت بين أنصار الاتجاه الوضعي (سانت بوف، وبرونتيير، ولانسون)، وبين الاتجاهات الحداثية التي أرادت انتزاع الأدب من سياقه الاجتماعي والتاريخي، فضَّل مباشرةً الاحتماء بكبار الكُتّاب الذين مارسوا الأدب بوصفهم مبدعينَ لامسوا حقيقة الأدبي وعايشوه من خلال تجاربهم وابتداعهم للغة الكتابة الأدبية الراقية التي تُخلِّد جمال الأدب وسحره، وهي تجارب أدركت عمق وظيفته وخطره بوصفه آليَّةً بَنّاءةً ومخرِّبةً في الوقت نفسه، لأن للأدب من سعة الدلالة وامتدادها وإمكانات حدس الأشياء، ما يجعل القارئ يجد فيه مراده من تأويله فلسفيًّا، أو أيديولوجيًّا، أو لسانيًّا، أو موضوعاتيًّا... إلخ. وقوة الأدب إنما تكمن في سلطته التعبيرية التي تخترق الحواجز وتنطوي على مرونةٍ كبيرةٍ في تحويل الواقع إلى ممكنٍ، والممكن إلى واقعٍ. لذلك، أرى بأن هذا الكتاب يُعَدُّ تجربةً فريدةً في بلورة تفكيرٍ جدِّيٍّ وفلسفيٍّ في حقيقة الأدب ودوره في المجتمعات البشرية، بقدر ما هو تحليلٌ مدعومٌ بالأمثلة الحية لأعمال كُتّابٍ وأدباءَ عالميينَ جعلوا الأدب شغلهم الشاغل، وحاولوا استكناه حقيقته، وتكريسه مجالًا لا لطلب المتعة واللذة فحسب، بل ليكونَ أداةً من أدوات المعرفة التي تغير مسار الحياة، وتمنحها مذاقًا خاصًّا وفريدًا، تعجز حقولٌ معرفيةٌ أخرى عن محاكاتها، أو مجاراتها بحكم ما يتمتع به الأدب من سمةٍ بلاغيةٍ وشاعريةٍ تخرق حجب اللغة والواقع في آنٍ.



حاجة الدَّرْسِ النَّقْدِيِّ الأدَبيِّ العَرَبيِّ
الحَدِيثِ إلى بِنَاءِ نظَريَّةٍ مُضادَّة
(*) لا شك في أن كتاب "شيطان النظرية" يعدّ من أهمّ الأعمال التي ظهرت في بداية القرن الواحد والعشرين حول موضوع نظرية الأدب. ما الذي يمكن أن يضيفه كومبانيون للنقد الأدبي العربي المعاصر في هذه المرحلة الانتقالية التي يشهد فيها النقد العربي المعاصر نوعًا من التحول؟
لا أخفيك أنني في تقديمي وترجمتي لهذا الكتاب طرحت على نفسي هذا السؤال بالضبط. وألفت النظر فقط إلى أن هذا الكتاب أثارَ عند ظهُورهِ جدَلًا واسعًا في فرنْسا، وكُتبَتْ عنه تعليقاتٌ عديدَةٌ يَكْفِي القَارئ أن يلْتَمِسَ بعضها على الشَّبكَةِ العنكبوتيّةِ بأَن يَنقُرَ على مُحرِّكِ البحْثِ "غوغل" بعْدَ كتَابةِ عنْوانهِ، أو اسْمِ مؤلِّفهِ. كما أنه وجَدَ طريقَهُ إلى عِدّةِ لغاتٍ، فقد ترجمتْهُ كارولْ كوزْمانْ (Carol Cosman) إلى الإنكليزية، وصدَرَ عن منْشُوراتِ جامعَةِ برينْستونْ عام 2004، وترجمَهُ مُورَاوْ كليونِيسْ Mourمo Cleonice وسانتياغو كونْسيولُو Santiago Consuelo إلى البرتغاليةِ عام 2014، وترجم إلى الإسبّانيّةِ على يدِ مانْويلْ أرَانْزْ (Manuel Arranz)، ضِمْنَ منْشوراتِ أكانتيلاذو عام 2015. ومن بين الأسئلة التي طرحتها هي: ما عسى أن تضيفَ هذه الترجمة إلى ثقَافتِنا العَربيَّةِ، بعد مُرور أزيَدَ من عِشْرينَ سنةٍ على صُدورِ الكتاب؟ وهل لا يزَال كِتَابًا راهنيًّا تُمْليهِ الحَاجَةُ في ثقَافَةٍ أدَبيَّةٍ ونَقْديةٍ تبحَثُ لها عن هُويةٍ ومَوْطئِ قَدمٍ في سوقِ الرأسمالِ الرمزيِّ، حَسْبَ مُصَطلَح بيِيرْ بورْديُو. قد لا نبالغُ إذا قُلْنَا إنَّ ثقَافتَنا الأدَبيّةَ والنَّقديةَ، في أيَّامِنا، هي إلى الاجْترارِ والتَّقليد والتبَعيةِ أقربَ مِنها إلى الإسِهَامِ المعْرفيِّ والتّنظيرِ الأدَبي والنّقْدي علَى المسْتَوى الكوْنيِّ. فقد كنْتُ، وأنا أُترجِمُ فُصولَ هذَا الكتَابِ، أحِسُّ بنوْعٍ من الغُبْنِ من أمرين اثنينِ: أولهما أنَّكَ لا تجد اسمًا عربيّا (أو حتى مِنَ العالَم الثَّالِث) في هذا الكتَابِ باستثناء إشَارةٍ طفيفَةٍ إلى المفكِّر والنّاقدِ العَالمي ذي الأصولِ الفَلسطينيَّة، إدوارْدْ سَعيد. فكأَن النَّظريةَ والتَّنظيرَ شَأنٌ وعبقريّةٌ مقصورةٌ على الغَرْبِ وحدهُ، أوروبيّا كانَ أم أميركيًّا، وهو أمرٌ قد يبدو بَدِيهيّا في غيَابٍ شِبْهِ كليٍّ للإسْهامِ العَربيِّ في هذا الموْضُوعِ في القَديم والحدِيثِ. لكن حتّى إذا افترَضْنا جدَلًا أن العَربَ لم يُسهِمُوا في هذا الموضُوعِ الذي تناولَه المؤلِّف بشيءٍ يستحقّ الذِّكرَ، فهل لم يَكُنْ لهُم مُنْجزٌ نَظَريٌ وتطبيقيٌّ في فنّ الشِّعر والنَّثر في القديمِ؟ ألم يُدبِّجوا آلاف الصَّفحَاتِ في شَأْنِ صِناعتَي الشِّعر والنثر؟ (فصل المؤلِّف)، ألم يُعرِّفوا الأدَبَ أبدًا (تعريفُ ابن خلدون المشْهُورُ)؟ ألم يكتُبوا عن الأسلُوبِ والبديع والنَّظْمِ (فصْل الأسلُوب)؟... إلخ، أسئلةٌ عديدةٌ تنْطبِق ليسَ على هذا الكتَابِ وحدهُ، بل على الكَثْرَةِ مما يكتُبُهُ الغربيُّونَ مِن كُتُبٍ تتَّصلُ بمجَالاتٍ أخرى، كالفكرِ، والفلسَفَةِ، وغيرهِما. فهل نلتَمَسُ العُذر للباحِثِ في أنه لم يطَّلِعْ على نظرياتِ الأدَبِ في ثقافَاتٍ أخرى، ومنها الثَّقافَةُ العربيةُ. لكن ألم يتمَنَّ في مُقدِّمتهِ للتَّرجَمةِ العربيةِ أن تُسْهِمَ ترجمَةُ كتابهِ هذا في مقارنة النظريَّاتِ الأدبيةِ المطوَّرَةِ في العالَمِ العَربي؟ بِوضْعِ النَّظَريةِ الأدبيَّة، وتدْريسِ الأدَبِ، في بعْضِ جامِعاتنا (المغربية على الأقلِّ، بحُكْم الانتماءِ، ولعلّهُ أن ينطبِقَ على مُعظَم جامِعاتِنا العَربيّةِ) وفوْضَى المفاهِيمِ والمقَاربَاتِ والمنَاهِجِ، القَديمِ منها والحَديثِ، على حدٍّ سواء. فلا جدالَ أنه لا يزالُ بين ظُهرانينَا من يدْرُسُ الأدَبَ بالمنْهَجِ التّاريخيِّ الوضْعِيِّ اللانسُونيِّ، وربما قَبِلَ بالمنهَجِ التّذوُّقي الانطباعيِّ، أو بمنهَجِ المحاكَاةِ والتَّعبيرِ، ولا تزال تجِدُ من يسْتَخدِمُ المناهجَ البنيويةَ والشَّكلانية استعمالًا فجًّا يَضيعُ معَهُ جمالُ النَّص الأدَبي، طلَبًا أو ادعاءً للموضوعيَّة والعِلْمِية التي يعتقِدُ أنها تُتاحُ بإحصاءِ الصِّيغِ والكلِمَاتِ مثلًا، بالبَحْثِ عن نَسقٍ لغويٍّ يثْوِي خلْفَ الأدبِ. كما لا نزالُ نجدُ مَن يمْضِي إلى أبْعَدِ حدٍّ، مع البنيويّة التّكوينية، أو النَّقد الموضُوعاتي، وجمَاليّةِ التَّلقِّي، يختَبرهُما على نُصُوصٍ من أدَبِنَا العَربي القَديم والحدِيثِ غير عابئٍ بالمراجَعَاتِ التي طرأَت عليْها، أو نجدُ حتى مَن ينْصاعُ، بقوّة، اليوْمَ مع "مُوضَة" النَّقْدِ الثَّقافي والنقْدِ ما بعد الكُولونْيالي، أو غيْرهِما... وهذا كلُّه مَشْروعٌ لا غُبارَ عليْهِ، وليْسَ ينبَغي لنا أن نُنْكِرَ على النُّقادِ والدارسينَ لجوءهَم إلى هذا المنْهَجِ، أو ذاكَ، لأنَّ المنطِق العلْميَّ المعاصِرَ يُعلِّمُنا أن كُلَّ شيءٍ نِسْبي، لكن يكفِي المتَخصِّصَ أن يقوم بعمليّة بسيطةٍ، وإن كانت أشبهَ بالصَّعْبَةِ، أو حتى المستَحيلَة، ويمكنُ صوغُها على شكْلِ سؤالٍ: ماذا لو تُرجم مُعظَم ما أُنْجزَ في النّقد العَربي الحدِيثِ إلى أصولِه مرةً أُخْرى؟ مؤكّدٌ أنّ من يَصْنَعُ ذلك، مع افتِراضِ قُدرتِه، سَيقِفُ على حقِيقَةٍ واحدَة هي هذا الخلْطُ والتضارُبُ في التطبيقات المخْتلفَة للمنْهَج الواحِدِ، ولا أقولُ للمنَاهِج المختَلِفةِ، أي إنّنا أمامَ ضُروبٍ من المقَارباتِ التاريخيّة، ومن "البنيويّات"، و"السَّردياتِ"، و"التلقِّيات الجمَاليَّةِ".

من ثَمّ لا غرابةَ إذا وجَدنا نُسخًا عديدةً مِن لانسون، وجاكبسون، وبلانْشُو، وسْبِتْزَرْ، وبارت، وتودوروفْ، ودريدَا، وجنيت، على سَبيلِ المثالِ لا الحَصْرِ. بيد أنَّ هذَا الوضْعَ لا ينبغي أن يدْفَعَ بالمشْتَغلين بالدِّراساتِ الأدبيّةِ في عالمنَا العَربي إلى الاستِسْلامِ، أو إلى اليَأْسِ. فلا جِدَالَ، أيْضًا، أنَّ ثمَّةَ دراسَات أدبيّةٌ عربيّةُ تُضاهِي من حيثُ جِدّتها وعُمْقُها ما يَصدُر في الغَرْب من دراسات، كما أنه لا جِدالَ في وجودِ تَطْبيقَاتٍ نَموذَجِيَّةً، رؤيةً ومنهجًا، لنظريَّاتٍ غَرْبيَّةٍ في نَظَريَّةِ الأدَبِ، وفي المنَاهِجِ النَّقْديَّةِ، حصَلَ حوْلها إجماعٌ، أو شبه إجماعٍ، على جِدّتها وعُمْقِها، وتمثُّلها للمَفَاهيمِ الغربيّةِ في مجَالِ النّقْدِ الأدَبي، كمَا أنّ ثمةَ نُقّادًا عربًا كبَارًا، من المتأخِّرين خاصة، لا ينْكِرُ إسهَامَهُم إلا مكابرٌ عنيدٌ، منهم مَنْ أغنى المكتبَةَ العربيةَ بالدِّراسَاتِ الجَادَّةِ، وأثَّر في أجيَالٍ من البَاحِثينَ والقُرّاءِ، على حَدٍّ سَوَاء. إنَّ أسبابَ نزُولِ هذا الكَلامِ أنَّ نقْدَنا الأدَبِيَّ العَربيَّ الحَديثَ في أمَسِّ الحَاجَةِ إلى استِخْلاصِ الدُّروسِ، مِنْ مِثْلِ هذَا الكتَابِ، وفي مُقَدِّمتِهِ حَاجتُهُ إلى المراجعَات المسْتَمرَّةِ ونقْدِ النَّقْدِ الذي يقدِّمُ عنْهُ هذا الكتَابُ نموذَجًا فريدًا ومُتَميّزًا في تلَقِّي النَّظرياتِ الأدَبيةِ، مع ما يُصَاحبُها من جدَالاتٍ مُختَلِفةٍ متَّصلَةٍ بالثّقافَةِ الأدبيّةِ ومُتعلِّقاتها الأخْرَى، مِنْ قَبيلِ تلَقِّيهِ ودرَاستِه وتَدْريسِهِ، وتقييمِهِ، فَضْلًا عَنْ عَلاقتِه بالمؤسَّساتِ السِّياسيَّةِ والاجتِمَاعيّةِ والدِّينيَّةِ، على اختِلَافِها، ولذلك يمكنُ لي أن نُلخِّصَ هذه الدُّروسَ التي عنّتْ لنا بعْدَ الانتِهَاءِ مِن ترْجَمَةِ "شيْطانِ النَّظريَّة"، وفي مقدمتها حَاجَةُ الدَّرْسِ النَّقْدِيِّ الأدَبيِّ العَرَبيِّ الحَدِيثِ إلى بِنَاءِ نظَريَّةٍ مُضادَّة؛ لأنَّ النّظريَّةَ لا تُقرأ إلا في ضَوْءِ نظريَّةٍ مُضادَّةٍ لها، على حَدِّ تَعْبيرِ المؤلِّفِ. إنَّها الجدليةُ التي تمنَحُ للنظريةِ طابَعَها الخَاصّ، وهي هنا لا تخْتلِفُ عن العلُوم الاجتماعيةِ في تَجدِيدِ بنَاءِ موْضُوعِها. هنالك، أيضًا، ما يتصل بإيقاظ الحِسِّ النّقْدِي لدَى القارئ، ومدِّهِ بوَعْيٍ نظَريٍّ بشَأْنِ التّعاطي مع الأدَبِ، وأنه لا توجَدُ وصْفَاتٌ نظريةٌ، ولا منْهجيّةٌ جاهزةٌ، كما لا يوجدُ تلَقٍّ جَاهزٌ ومُنمَّطٌ. فكلُّ جهازٍ نظريٍّ يحتكمُ إلى آلياتٍ وشروطٍ خاصّة بهِ، وإلى سيرورة ديناميةٍ. من ثم، فالكتابُ يدعُو إلى خلْخَلةِ يَقِينياتِ القارئِ، وتعليمِهِ فَنَّ التَّهذيبِ، إذ يؤكِدُ المؤلِّفُ أن النَّظريةَ الأدَبيَّةَ تعلِّمُنا أوّلًا فنَّ التّهْذِيبِ وشَحْذِ الحِسِّ النقديَّ، ومعرفةَ أنّ النظريةَ مَدْرَسَةٌ في النسبيةِ، لا التَّعدُّديةِ، وأنَّ الاختيَارَ والانتقاء بين موادِّها أمرٌ حتميٌّ لا منَاصَّ منهُ، فلا يوجدُ ناقدٌ يدَّعي معرفةً شاملةً بكلِّ قضَايا النَّظريةِ، ولا يمكنُه أن يُقنِعَ القارئَ بالتَّصوُّرِ الشُّمُوليِّ والاستِقْصَائيِّ لكلِّ مجاهِلها وسرادِيبِها، ومن ثمَّ فهو مضطرٌّ إلى أن ينْتقِيَ ويختارَ منها ما يراهُ مناسبًا كي يُفيدَ القَارئَ ببعْضِ جَوانبِها ليس غَيْر. ثم أخيرًا حاجتُنا إلى ما يسمِّيهِ د. سعيد يقطين "ثورةٍ ثقَافيةٍ" في تاريخِنا المعاصرِ، ومن ثمة تحوُّلات حقيقيَّة على صعيدِ القيمِ الثَّقافيةِ تجعلُنا قادرينَ على استقبال ما يزخرُ به عصرُنا الحالي من نظرياتٍ أدبيةٍ، أو غير أدبية (علمية)، لكنَّها متَّصلةٌ في كل الأحْوالِ بـ"العلم المعيار"، أو السَّائدِ، باصْطلاحِ مُؤرِّخِ العُلومِ المشْهُورِ، تومَاسْ كُونْ. ومن دونِ ذلكَ، ستَظلُّ مُجتمَعاتُنا على هامِشِ العَصْرِ، أو على خَارجِه. صَحيحٌ أنه بوُسْعِها أن تُساجِلَهُ، أو تنْشَغِلَ بالتَّفكيرِ في ذَاتِها، وهي تضَعُ نفْسَها في مُواجَهَتِهِ، أو في صرَاعٍ معه، لكنَّها لن تُدْركَ أبدًا طبيعةَ النَّسَقِ الذي يُحركُهُ، أو تمتلِكَ القُدْرةَ على الفِعْلِ فيهِ. ولذَلِكَ، فهي تبْقَى أبدًا على هَامِشِهِ. وإذا كان هَذا شأْن المجتمَعاتِ، فإنه لا يختلِفُ عن حالِ تلقِّي النَّظرياتِ الأدَبيَّةِ، الذي حاوَل منذ عصْرِ النَّهضَةِ أن يساجِلَ النَّظريات الغربية وينْقُدَها، أو يتَمثَّلَها، أو يُجرِّبها، أو يكتفي باستنْساخِها، من دون أن يتمخَّضَ عن ذلك كلِّهِ نظريةٌ أدبيةٌ عربيةٌ صميمَةٌ، أو حتى بوَادِر يُستخْلَصُ منها بعضًا من مَلامِحٍ عن تلْكَ النَّظَريةِ.