Print
عماد الدين موسى

عبّاد يحيى: الرواية جنس فضفاض يتطوّر بشكل مثير

14 مارس 2021
حوارات

عبَّاد يحيى (مواليد 1988) روائي وباحث وصحافي فلسطيني، حاصل على شهادة الماجستير في علم الاجتماع من جامعة بير زيت. عمل صحافيًا في وسائل إعلام عربية وفلسطينية. وله العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة في مجلات علمية محكمة.
صدرت له الأعمال الروائيّة: "رام الله الشقراء (2012)"، و"القسم 14 (2014)"، و"هاتف عمومي (2015)"، و"جريمة في رام الله (2017)"، و"رام الله (2020)".
بالتزامن مع صدور روايته الجديدة "رام الله"، عن منشورات المتوسط في ميلانو،
هنا حوار معه:





فتنة الرواية في الاتساع والتعدد

(*) "رام الله"، بعد "جريمة في رام الله"، و"رام الله الشقراء"، هل هناك قراءة جامعة يمكن أن نرى الروايات الثلاث في ضوئها؟ هل هو مشروع واحد؟
تتمايز الروايات الثلاث، كما أراها في المنظور الذي تقارب فيه الشخصيات واقعها، ورام الله، كمدينة، هي اجتماع هذا الواقع بكل مكوناته، وهي ذات أثر حاسم على الشخصيات. رام الله هي المشترك، أما مقاربات الروايات الثلاث فمختلفة، نظرًا لاختلاف الشخصيات، ورؤيتها للحياة والعالم، ووجودها فيه.
عند الأخذ بهذا الفرق الحاسم، تصبح القراءة الجامعة بمثابة نظر من زوايا مختلفة إلى رام الله. والتفكير في رام الله من زوايا مختلفة وذهنيات متباينة يمكن أن يكون طريقة أفكر فيها دومًا. لا أبالغ وأصفه بالمشروع، بل طريقة في التفكير والكتابة.



(*) تبدو الرواية تاريخية من سياقها الزمني (أواخر القرن 19 وطوال العشرين وأول عقدين من الـ21)، واعتمادها على مصادر ترد في لائحة في آخرها، هل تعتبرها رواية تاريخية؟
غالبًا، ثمة حمولة في وصف رواية بـ"تاريخية" يتجاوز مجرد التصنيف المرغوب عند التسويق، أو النقد، حمولة تمنح الرواية ثقلًا، أو تضيف عليها عمقًا، أو جديّة، أو تمايزها عن "رواية" وحسب. لا مشكلة لدي مع الوصف التسويقيّ، ولكنني لا أرى أن رواية تعالج سياقًا زمنيًا طويلًا، أو تستفيد من مصادر أرشيفية تحتاج تصنيفًا خاصًا. هي "رواية"، بكل ما في هذا التجنيس من اتساع وشمول، وتعدد في المقاربة والموضوع والبنى السردية. فتنة الرواية في هذا الاتساع والتعدد، في أنها جنس كتابي فضفاض لا يكاد يعرف استقرارًا، ويتطور بشكل مثير.

وقد يكون مفيدًا القول إن التفكير في الحاضر، وانشغالي به، هو ما أفضى بي إلى النظر في أكثر من قرن من سيرة رام الله وأهلها. ثمة تنظيرات ممتعة وغنية عن التعالق بين الماضي، أو ما نسميه تاريخًا، والحاضر، يشغلني منها ما يتعلق بالذاكرة، بوصفها مجالًا دائم التشكل، للحاضر فيه فعالية تضاهي الماضي، أو التاريخ.



رواية "رام الله" انشغال بالناس والمدينة والعلاقة بينهما
(*) في تعليق الناشر على الغلاف، يقول إن الرواية تقترح مقاربة روائية لتحول قرية تحت الحكم العثماني أول القرن العشرين إلى مدينة قد تكون الأهم فلسطينيًا اليوم. هل يمكنكم توضيح عناصر هذه المقاربة، أو مقولتها الرئيسية؟
ربما من مصلحة الناشر وضع إطار لقراءة العمل، أو وضع القارئ في سياق توقّع قبل بدء القراءة، والعبارات على أغلفة الكتب تستخدم لهذا الغرض. وإن أردت الاستثمار في هذه الفكرة، فنعم، هذا ما شغلني في هذه الرواية، اقتراح مقاربة تصف وتفسر روائيًا كيف تحوّلت القرية الصغيرة إلى مدينة هي الأهم فلسطينيًا اليوم، المركز السياسي والثقافي والاقتصادي للفلسطينيين في الضفة. من قرية مشابهة لما يحيط بها من قرى في النصف الثاني في القرن التاسع عشر، تحوّلت رام الله إلى ما هي عليه اليوم، من تابع هامشي إلى مركز له توابع في محيطها الحضري. ثمة تصور رائج هو أن مكانة رام الله مرتبطة بكونها مركز السلطة الفلسطينية، السلطة التي أنشئت في أواسط التسعينيات من القرن العشرين، وهو تصوّر غير دقيق، وصار ذا أثر في فهم غير دقيق لحاضر المدينة، وحتى ماضيها. وبسبب هذا التصور ينظر إلى الحاضر وكأنه ناجم عن صدفة بحتة، أو مخطط مفروض، ويصاغ ماض متخيّل عن رام الله تبعًا للموقف من الحاضر. لذلك تقدم الرواية مقاربة أكثر تركيبًا في التعامل مع هذا الادعاء وتداعياته على مقاربة الراهن والماضي.

رواية رام الله هي نظر طويل في ما انطوت عليه رام الله من عناصر مدينية جعلها تتقدم إلى مكانتها اليوم، في ظل محيط حضري متبدل في فلسطين كلها، شهد انحسارًا مأساويًا وأحيانًا دراميًا، لمكانة مدن وحواضر، وتبدل أوضاعها وعلاقتها مع محيطها في حيز زمني ضيّق، ما أثر بشكل حاسم على مدن وحواضر أخرى، وشغل هذا المشهد المتحرّك باحثين في علم الاجتماع والتاريخ، ولا يزال موضوع بحث رئيس.
تنشغل الرواية بالمدارس والمؤسسات التعليمية التي أنشأتها البعثات التبشيرية، وتحديدًا الكويكرز ("الفرندز")، في رام الله أواخر القرن التاسع عشر، وساهمت في صناعة نخبة في رام الله نسجت علاقات مع نخب القدس ومدن الساحل، يافا تحديدًا، وأدخلت إلى رام الله نمط حياة جديدًا، فيه توجّه نحو بناء المؤسسات، وفيه طابع خدمي ترفيهي لافت ومثير، ساندته هجرة شباب رام الله إلى أميركا في النصف الأول من القرن العشرين، وما وفرته هذه الهجرة من تغير في التفكير ووفرة مالية. التعليم والمؤسسات ساهمت في منح رام الله مكانة بدأت في المرحلة العثمانية، وتعززت في مرحلة الانتداب. وهنا حاولت في الرواية فهم أثر هذه التغييرات في الناس، كفاعلين ومتأثرين. وهذا المسار المتصاعد تبدّى بوضوح خلال النكبة وبعدها، صارت رام الله مركزًا في الضفة، أهّلها لتكون محط أنظار الحكم الأردني المستجد. مسار التقدم واضح، ويتعزز رغم ما يمكن وصف بـ"القطيعة" التي طرأت على مسار النخبة المسيحيّة الأصيلة في رام الله، وهذه أتتبعها بكثير من التفصيل، وتوضيح دور فاعلين جدد من مجتمع اللاجئين الذي صار أغلبية في رام الله ومحيطها، ولكنه استفاد من الممكنات المتوافرة في المكان.
هو انشغال بالناس والمدينة والعلاقة بينهما، ويظهر في نمط الحياة، وتغير العادات، وبناء المؤسسات، والحياة السياسية، وفي الحياة العاطفية التي أراها تظهيرًا لعلاقات المجتمع، وفهم الفرد لنفسه. ويستمر هذا التتبع حتى الاحتلال الإسرائيلي، وصولًا إلى السلطة الفلسطينية، وراهن رام الله.
وفي الرواية، أهتم بشكل خاص بفكرة ووجود "الغريب"، وأقترح أن علاقته مع المكان وأهله وتتبعها تحمل شيئًا من الإجابة عن التحوّل البطيء والطويل من قرية إلى مدينة، وهذا جزء من فهمي للمدينة بشكل عام، لا رام الله وحسب. المدينة كحيّز يتشاركه الغرباء، وتشكّل "غربة" الناس عن بعضها (أو بتعبير أدق من علم الاجتماع: ِAnonymity، أي مجهوليتهم عن بعضهم، أو ما يترجم عادة بـ"الغفلية")، ملمحًا رئيسًا فيه وفي علاقاته. للغريب القادم لرام الله، الذي انتسب مع الزمن لها، ولأبنائها وبناتها المغتربين عنها إلى مدن كوزموبوليتان حول العالم، المصرّين مع الزمن على الحفاظ على العلاقة معها والانتساب إليها، أثر حاسم ولافت ومميز من وجهة نظري في تطورها لتكون ما هي عليه اليوم، والرواية محاولة تفصيلية للتعبير عن ذلك. ويمكن ملاحظة انشغال الرواية بهذا الجانب مع غالبية الشخصيات الرئيسة فيها.
مع كل المتغيرات والتبدلات، ثمة ثابت واضح، هو المسار التصاعدي في أهمية المكان، ورغم ما فعله الاحتلال وواقعه من خنق لرام الله في الثمانينيات والانتفاضة الأولى، ضمن المحاولة المستمرة للقضاء على الملامح المدينية في كل تجمع حضري فلسطيني، إلا أن المدينة تجددت مع السلطة، بصرف النظر عن التقييم السياسي لهذه المرحلة.

لا يغيب عني القول إن التصور في ذهني قد يكون أكثر تحديدًا منه في الرواية التي لها أحكامها ومنطقها ومنطق التلقي لدى القارئ الذي قد يرى، أو يستنتج استنتاجات مختلفة.
حاولت في كل مرحلة التقاط الفواعل الرئيسة في تشكل المدينة ومسارها، أحيانًا بوضوح يتعلق بدور الشخصيات وموقعها من محيطها، وفي أحيان أخرى بشكل رمزي توفر الكتابة الروائية له ممكنات عديدة.
وبلا شك يظل التحدي أن يصل كل هذا للقارئ من خلال حكايات الشخصيات والأماكن التي لها منطقها الخاص.
أعتقد بمركزية البناء الدقيق للرواية والسرد، ولكنني مستسلم لحقيقة أن جزءًا أصيلًا من بهاء الرواية، كفن، هو في تفلّت السرد والشخصيات من هذه الهندسة، وهذا قد يحصل بإدراك من الكاتب، أو من دونه، ثمة ضربات حظ، لها جمالياتها الخاصة والحاسمة وغير المحسوبة.



الرواية هي فهم الروائي للزمن




(*) مع أن الرواية تغطي قرابة قرن وثلاثة عقود زمنيًا، إلا أن الجزء الأكبر منها هو في العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، ما سبب التركيز على هذه الفترة؟

في تلك الفترة، كان التشكل الأول للمكان، وللنخبة ذات الملامح المدينية، الكثير مما تحتاج حبكة الرواية التأسيس له وبناءه حدث في تلك الفترة. وسرديًا، لا بد من بناء الواقع وشخصياته في مرحلة مبكرة من العمل، ليغدو ما يستجد بعدها متسقًا. يمكنني القول إن المرحلة غنية جدًا.
أما لماذا ينفق روائي صفحات طويلة في حدث إطاره الزمني الواقعي قصير، ويعبر عن سنوات عديدة في عدة أسطر؟ هذا مما لا أملك له إجابة قاطعة. يمكنني القول إنه فهم الزمن. الرواية، في تعريف شخصي وخاص جدًا، هي فهم الروائي للزمن وتأثيره على الإنسان. وغالبًا ما أجد إجابات وتحليلًا أكثر دقة في كتابات نقاد عن هذا الجانب من الرواية.
ويخطر لي القول إن هيكل الرواية يعتمد على بيت عائلة النجار ومراحل بنائه، والبناء الأساس الكبير يتبدل، ثم يكاد يستقر في تلك الحقبة، وما يحدث بعدها هي تغييرات عليه، إضافات بعد النكبة، وتبدلات في محيطه بعد النكسة، وصولًا إلى تبدل استخدامه في مرحلة السلطة. لذلك فالهيكل والأساس كان في العقود الأولى من القرن العشرين، وهو ما احتاج تبدلات كبرى في حياة عائلة النجار وأقدارها. والمرحلة تلك غنيّة ومطروقة غالبًا بمنطق الخسارة والحنين، وفي الرواية، ووفق منطقها المخالف للتعاطي السائد مع تلك الفترة، احتاجت الكثير من الكتابة والبحث حتى ينجلي الأفق الذي مكّن ما حدث بعد ذلك من الحدوث.

الفرق بين أن تبني شيئًا من العدم، وأن تجري عليه تعديلات وتلاحظ تأثره بما يتغير، هو الفرق بين هذه العقود الأربعة، وما بعدها من فترات. رام الله ونخبتها انبنت في تلك الفترة وفق فهمي.


(*) مدينة خضعت لعدة احتلالات، وتقلبت بين حكم وآخر، هجرات، ولجوء، وحروب، وتبدلات كبرى، كل هذا تنشغل به الرواية. أي الفترات الزمنية أعقد، أو أصعب، من ناحية الكتابة عنها؟ أو فلنقل أيها شكل تحديًا لك؟
قد تحتاج الإجابة عن هذا السؤال تفكيرًا يتجاوز الرواية إلى التأريخ. هنالك وفرة في المصادر بفضل التطور التقني، وتطور أساليب الأرشفة، وسهولة الوصول إليها بفضل إتاحة أراشيف عديدة عبر الإنترنت. ويضاف إلى ذلك موجة الأرشفة الكاسحة فلسطينيًا. وبلا شك، الفترات الأقدم، وأتحدث هنا عن الإطار الزمني لرواية رام الله، تتوفر على مصادر أكثر وأدق تصنيفًا عنها، خذ مثلًا الصحف، لدينا أراشيف متوفرة لصحف النصف الأول من القرن العشرين، تمكنك من ملاحقة أي حدث، أو شخصية، في مسار تفصيلي يصل أحيانًا إلى أسابيع وأيام. نحن محظوظون لتوفر هذا اليوم، وبسهولة كبيرة. ولكن فترات أقرب زمنيًا إلى الراهن لا تحظى بهذا التوثيق الدقيق، أو توفر المصادر، وسهولة الوصول إليها، ولذلك فالبحث فيها صعب، ويحتاج جهدًا كبيرًا. ولذلك، فمن ناحية تأريخية، هنالك وفرة وغنى في الأراشيف حين يكون الموضوع فلسطينيًا، ويفيد أي باحث، أو روائي، من هذا المنجز الضخم من صحف ومذكرات ويوميات وسير ووثائق لمؤسسات عامة. هذا على مستوى عام.
التحدي هو في علاقة كل هذا بالمسار السردي للعمل، للشخصيات وظروفها الخاصة، وبما أنني منشغل في رؤية المرحلة، أو الحقبة، من خلال ذهنية شخصيات ليست دومًا متسقة مع المقاربة السائدة للفلسطيني وأدواره في تلك الحقبة، أو متسقة مع المرويات الشائعة عن تلك الفترات، يصير تحديًا رؤية الواقع من منظورها والتعامل معه كما تعاملت معه.

وفّر لي البناء السردي قدرة على تتبع مراحل وحقب بشكل أقل تحديًا من حقب أخرى. أجد مثلًا أن مرحلة الاحتلال الإسرائيلي، من السبعينيات، وحتى نشوء السلطة، مرحلة شكلت تحديًا أكبر من العشرينيات مثلًا. في المحصلة، لا أريد أن أتحدث كباحث في التاريخ، فهذا ليس اشتغالي في الرواية. التحدي المستمر هو الوفاء لما أعتقد أنه دور أساسي للرواية، أن تتعرض للسائد، أيديولوجيا، أو تأريخ، أو أفكار عامة عن حقب، وتقدم رؤيتها المختلفة له، وفي الوقت نفسه تظل وفيّة لروح كل حقبة تتعرض لها. و"روح الحقبة" تعبير موجود في البحث التاريخي، وأراه متقاطعًا مع الرواية بصورة جوهرية.



(*) هنالك مواقف وآراء تعبر عنها الشخصيات في مرحلة. لماذا تبرز هذه المواقف؟ هل تقول من خلالها شيئًا، سياسيًا، مثلًا، خاصة في الفترات القريبة، أي بعد نشوء السلطة؟
يشيع اعتبار المواقف السياسية في الرواية وكأنها إشكالية دومًا، لا يوجد لديّ قلق من هذا النوع، ولكن المهم دومًا هو التمييز بين مواقف الشخصيات السياسية ومقولاتها، ومقولة الرواية ككل. ببساطة لا يحتاج موقف سياسي كتابة رواية ليعبر عنه صاحبه، يمكن التعبير بسهولة عن المواقف السياسية. ومن الطبيعي أن تحوي الرواية مواقف سياسية لشخصياتها، فنحن نعرف عن الشخصيات كل شيء، والمواقف السياسية جزء من ذهنية الشخصية، خاصة إن كانت فاعلة في سياقها العام.
إن النظر إلى الحياة والعالم يحمل موقفًا، في أحد أوجهه يمكن وصفه بالسياسي، فما بالك في واقع يتعالق السياسي مع الاجتماعي والنفسي والعاطفي، هذا بديهي. وأعتقد أن الميل للتدقيق في الروايات التي تعالج الراهن من مدخل المواقف السياسية ناجم ببساطة عن إدراك القارئ للواقع السياسي وعيشه تفاصيله، ولذلك يسهل عليه التقاط المفارقات وتفسير الرموز والتفاعل مع الأفكار أكثر مما يحدث عند تفكيره في مرحلة لم يعشها ولا يلمّ بتفاصيلها بشكل واف.

ثمة طغيان للسياسي فلسطينيًا، ويمكن أن يتسيّس كل شيء في النقاش العام. لم أفكر في هذا وأنا أكتب، ولا أجده خاصًا بمرحلة نشوء السلطة، وما بعدها. الترسيمة السياسية في العشرينيات والثلاثينيات مثلًا شغلتني أكثر في الرواية. ثم إننا نتحدث عن مدينة هي مركز السلطة، والقرار السياسي الفلسطيني، بعد أوسلو، بالتالي فتجنب كل هذا، أو إغفاله، هو الإشكالية، وليس الخوض فيه.



(*) هنالك فروق في اللغة بين العتبات، فيه بعد زمني، هل العتبات شخصيات، وبالتالي حاولت تمييز لغة كل منها، أم الأمر متعلق بالزمن، وكيف أثر على الرواية ككل؟
أميل إلى الاعتقاد أن كل راو هو شخصية في النهاية، وأقرأ الروايات بهذا التصور الواضح. ولذلك، فكون العتبات راويات، وبلغة واضحة، وفيها بعد ذاتي نسبي، يعني أنها شخصيات. واشتغلت على جعل لغتها على صلة بالمراحل الزمنية التي وجدت فيها، ومن هنا كان التباين اللغوي. والأمر لا يقف عند هذا الحد، فالأسلوب السردي خاص بكل فترة. أما هل وفّقت في جعله مميزًا؟ فهذا يحكم عليه القارئ.
والزمن ونمط العيش عامل حاسم في تطور اللغة، وهذا ما تتضمنه الرواية لا في لغتها وحسب، بل في حياة الشخصيات وتبدل لهجاتها ودلالة هذا التبدل. لدينا مجتمع فلاحي بسيط على تخوم قديمة مع بداوة، يتحول بفعل التعليم والاختلاط مع مدن الساحل إلى لهجة مختلفة. اللهجة علامة تمييز ودلالة، وتحضرني عدة مواضع في الرواية يبرز فيها هذا الأمر، مع شخصية سالم النجار، وجميل فرّوح، ومع الدكتور عماد العايش، ثم اللغة العتيقة عند المغتربين الذين تحوّل لسانهم إلى الإنكليزية، واحتفظ بعضهم بدارجة آبائهم وأجدادهم، تجري على ألسنتهم في زيارات رام الله في الصيف والأعياد. أما عن أثره على الرواية، فالأسلوب السردي المتباين أنتج اختلافات في اللغة، من مفردات وجملة وسياق دلالي. مع هذا المسار الزمني الطويل، ومع كل تبدلات المدينة وأهلها، يصير تغيّر اللغة حتميًا لا خيارًا فنيًّا.


(*) هنالك كثير من الشخصيات في الرواية، وكثير من الرواة، إن اعتبرنا العتبات رواة متمايزين، الى جانب راوي أجزاء عماد العايش، هل تريد من هذا التعدد قول شيء محدد؟
يمكن القول إن المدى الزمني الواسع للرواية فرض هذا التعدد، نعم. أما ماذا يقول؟ فمن ناحيتي كنت في حاجة إلى هذا التعدد حتى أحيط بالفترات ومتغيراتها، هنالك كثير من القطائع والتحولات والتبدلات، في الوضع الطبيعي، وفي مدى زمني يقترب من قرن ونصف تتداور أجيال عديدة، فما بالك في واقع شهد خمسة أنظمة حكم، وكثير من الحروب، أربع منها غيّرت كل شيء تقريبًا، يضاف إلى ذلك موجات هجرة وتهجير وكوارث. هذا تاريخ متعدد، ويمكن أن يتعدد مع كل فرد عاش شطرًا منه، يتعدد باختلاف النظر إلى العالم. هذا تعدد حتمي.

وحين نتحدث عن نخب، أو فاعلين في محيطهم، فهم أيضًا يتعرضون للعديد من التوجهات، وهم على سجال معها، ولا بد من وضع كل هذه المواقف والتوجهات في تقابل مستمر، السائد والمتمايز عنه، الجمعي والذاتي، الخاص والعام، الداخلي والخاضع لمساومات الخارج... إلخ، وعند الكتابة، يصير كل هذا مما تحرص على إجلائه بصورة تتيح للمعنى الخاص بكل شخصية أن يتبدى للقارئ. ثمة كثرة وتعدد وأصوات من ناحية السرد الرئيس الذي تتولاه العتبات، كما ورد في السؤال السابق، فرضته الرؤية العامة للرواية وبناؤها. وقد اختصرُ كل هذا، وأقول إن ثمة انحيازًا للتعدد، ولكن لا أهمية لهذه الإجابة حين تصدر عن الكاتب نفسه، المهم ما يراه القارئ.



مقاربة روائية
(*) تحظى رام الله باهتمام روائي، ويمكن من خلال قائمة المصادر في آخر رواية رام الله الاطلاع على عدد جيد من الروايات المنشغلة برام الله، لماذا هذا الاهتمام، وهل ترى توجهات محددة ومتباينة في مقاربتها روائيًا، وأين أنت من هذه التوجهات؟
في سرد المصادر والمراجع، عنونتُ هذا الجزء بـ"إقرار بالفضل"، لقد أفدت أيما إفادة من هذه الاشتغالات، وكثير منها صيغ بروح روائية، وإن لم يكن روايات، مثل انشغال مؤسسة رواق في التأريخ المعماري لرام الله، وكذلك بحوث في المجتمع والتاريخ الاجتماعي والسير والمذكرات، أذكر منها اشتغالات سميح حمودة، وليزا تراكي، وسليم تماري، وعصام نصار، وغيرهم، كلها لا تقل متعة عن الأعمال الروائية، إلى جانب جديتها وأهميتها العلمية والمنهجية. وإلى جانب ذلك روايات مشغولة بتأريخ عفوي لحنين لماضي رام الله، ومحاولة حفظه مكتوبًا، مثل شغل ياسمين زهران. ومجموعة سير روائية لكتاب وروائيين، من أهمهم فاروق وادي، الذي يغطي فترة حافلة أيديولوجيًا وسياسيًا هي مرحلة الخمسينيات والستينيات، ومذكرات وسير ناشطين سياسيين في الفترة نفسها. هذا إلى جانب كتب معلمين ومبشرين، من الفرندز تحديدًا، في أواخر القرن 19، وأوائل العشرين، وفرت مادة غنية ونادرة، وغالبًا ساحرة، عن رام الله ومجتمعها. ومع كل هؤلاء، كان الفاعلات والفاعلون في مؤسسات رام الله ومؤسسوها، ومن انشغلوا بصورة واضحة في الكتابة عن رام الله وتوثيقها، مدفوعين بدوافع متباينة تشترك في طابعها الحضاريّ، وأهمهم عزيز شاهين، وابنه نسيب، وخليل أبو ريا، وخليل طوطح، ويوسف قدورة، وإبراهيم نيروز، وغيرهم. هذه هي الأنماط الكتابية التي انشغلتُ بها، ولدي اطلاع تفصيلي عليها، ولولاها لما أمكنني كتابة "رام الله" بصورتها الحالية، وحاولت في الرواية عمل مقاربة روائية، ربما تتقاطع معها ولا تتعارض بالضرورة.



(*) ألا ترى أنها مخاطرة، أو مغامرة، كتابة رواية ونشرها بهذا الحجم (740 صفحة)، قد يقول قارئ من سيقرأ رواية بهذا الحجم اليوم!
ثمة إجابة عملية تتعلق بالتسويق وواقع القراءة، قد تقول إنها مغامرة. نسمع كثيرًا نبرة تشاؤمية حين يتعلق الأمر بالقراءة عربيًا. ولكنني أتبنى موقفًا أراه في مصلحة الكتابة، وهي ألا تأتي إلى كتابة الرواية وأنت محمّل بكل هذه الحسابات، هذا تقييد إضافي من المفيد التخلص منه.



(*) ما الذي يختلف في علاقة الروائي مع المدينة حين يكتب عنها؟
ثمة مستويان للاختلاف يخطران لي، أول يمكن وصفه بالخارجي، متعلق بالتلقي ورد الفعل على الروايات من جهة القراء والناس في المدينة، وكذلك السلطة، بكل معانيها. وهذا مرتبط بالنشر، فأنا أعتقد بالتفريق الحاسم بين الكتابة والنشر. ولدى كل روائي، وأي كاتب وكثير من الناس، نصوص غير منشورة، بالتالي وقع الأثر الناجم عن الكتابة، ولكن أثر النشر لم يقع. ويمكن الحديث طويلًا عن هذا المستوى، تلقي الناس لنصوص عن الأماكن التي يعيشون فيها، أو ينتسبون إليها، ورد فعلهم على النصوص ومؤلفيها، أو تلقي الوسط الثقافي في مدينة للكتابة عنها، أو تلقي السلطة بكل أشكالها للكتابة عن مدينة بما يشمله من الكتابة عن السلطة نفسها. وبلا شك تؤثر كل هذه الردود على علاقة الروائي مع المدينة، فالمدينة هي الموضوع، وهي مجال ردود الفعل هذه، فتصير الرواية جزءًا من السجال العام، بما قد يتجاوز إرادة الروائي، وما سبق له أن تخيّل عن حياة روايته وتلقيها. وبصرف النظر أكان التلقي احتفائيًا، أو ناقدًا، فقد يكون له أثره على علاقة الروائي بالمدينة، ويصير لزامًا عليه التخلص من ثقل هذا الأثر، ليكتب دون انهمام مفرط بالتلقي، وكيف سيكون.

والمستوى الثاني، وهو الأهم باعتقادي، داخلي أو خاص، مرتبط بالكتابة عن المدينة، والكتابة في محصلتها هي طريقة في النظر والفهم. تمتاز الرواية عن أنماط كتابة أخرى، أنها ممارسة تروم الفهم، ولا تدّعيه. لا تأتي للكتابة بعد إدراك حقيقة موضوعك، أو معناه، بل تأتي للكتابة لتدرك حقيقة موضوعك، أو معناه. والكتابة الروائية، حسب فهمي، هي مرحلة متقدمة من التفكير، لأنها قائمة على بناء عالم بعناصر تفصيلية متمايزة (شخصيات وأماكن وأفكار وظروف)، ووضع عناصر هذا العالم في علاقات، جزء كبير منها صراعيّ، وملاحظة كيف تتغير العناصر مع الزمن الذي هو بمثابة مرجل تمور فيه العناصر وعلاقاتها. وإن أول ما تختبره في هذا التشكيل المركب هو فهمك الأولي، الصورة الأولى، الانطباع الأول، والمشاعر الأولى عن المدينة. وإن توفر لدى الروائي هذا الإقبال الخالي من الادعاء، صوب الكتابة، ستتغير كل هذه الفهوم والصور والمشاعر، ستتطور بفضل الكتابة.
ولعل أجلى جزء في كتابة الرواية عن تعدد الفهوم وتعقيدها، وهو الجزء المنطوي على متعة خاصة عند الروائي، حين يفكر في الشخصيات التي يكتبها، بشروطها الاجتماعية وتركيبتها النفسية ومسارات حياتها. شخصيات ما كان له في حياته الواحدة أن يكون في مواضعها مع كل تنوعها وتعددها وتبايناتها. ثم ينظر كيف تنظر الشخصيات إلى عالمها وتتفاعل معه، وإلى الأحداث الرئيسة في الرواية والأزمات التي تجد نفسها فيها. كيف تعيش في المدينة وتراها ضمن عيشها فيها. إن التماهي مع الشخصيات هو الشرط الضمنيّ الذي يعوّل عليه الأدب لدى القارئ ليمارس سحره ويتحقق تأثيره (جماليًا ونفسيًا وفكريًا)، وهذا عند القارئ، فكيف الحال بالكاتب.

ولكل شخصية في الرواية صورتها الخاصة عن المدينة، خاصة إن كانت شخصيات مشغولة، أيضًا، بموقعها من المكان والزمان اللذين تعيش فيهما. أميل دومًا إلى الشخصيات التي تفكر في حياتها، وهذا يعني أنني مقتنع أن هذا "التفكير في الحياة" فعل وممارسة ليست موجودة عند الجميع.
إن الرواية تدعي أنها تشكّل عالمها الخاص، الذي يوضع في مقابلة مع العالم الواقعي الذي يعيشه القارئ، لتفصح عن معان جديدة في الواقع، أو في فهمه ومقاربته على الأقل. هذا الادعاء الكبير لا يدّعيه أي فن آخر، وبقدر حجم الادعاء تكون المشقّة في الكتابة، والحرص على الإحاطة بأكبر قدر من العناصر، وأهمها الشخصيات، واقتراح لعلاقاتها. ونتيجة هذه المقابلة بين العالم الروائي والعالم الواقعي، بين المدينة في الرواية والمدينة في الواقع، هي مدينة ثالثة يعيش فيها الروائي. وقد تتعدد هذه المدن مع القراء، أيضًا. "مدن لا مرئية"، إن استعرنا التعبير من كالفينو، ولكنها حقيقية، ونعيش فيها.