Print
عماد الدين موسى

محمد عبيد الله: "مفاتيح التراث" معجم لتشجيع معرفة حضارتنا

28 مارس 2021
حوارات
محمد عبيد الله (1969) أكاديمي وناقد من الأردن، حصل على شهادة الدكتوراة في اللغة العربية وآدابها من الجامعة الأردنية عام 1998م، وعمل في مجال التعليم الجامعي، وهو اليوم أستاذ اللغة العربية وآدابها، وعميد كلية الآداب والفنون في جامعة فيلادلفيا الأهلية في الأردن.
للدكتور عبيد الله إصدارات نقدية وأدبية وشعرية منذ تسعينيات القرن الماضي، كانت بداياته الشعرية في المرحلة الجامعية الأولى، وشارك آنذاك في تأسيس جماعة أجراس الشعرية عام 1992م، ذات التوجه الحداثي، ونشر ديوانه الأول (مطعونا بالغياب) عام 1993م. وانشغل بعد ذلك في استكمال دراساته العليا، وفي نشر الكتب والبحوث الأدبية والنقدية، وشملت اهتماماته حقولا متنوعة تتصل بالتراث العربي وقضايا اللغة العربية والصناعة المعجمية والسرديات العربية قديمًا وحديثًا.
مؤخرًا، نشرت المؤسسة العربية للدراسات والنشر معجمه الجديد: (مفاتيح التراث: معجم الأديان والمعتقدات والمعارف قبل الإسلام) وهو يمثل حلقة أولى في مجموعة كتب معجمية بهدف تقديم التراث الحضاري والثقافي العربي بطريقة معجمية حديثة تسهل التواصل مع التراث وتشجع على معرفته وتعزز توظيفه في الدراسات والإبداعات العربية المعاصرة.
حول هذا المعجم، وما يثيره من أسئلة وقضايا، كان هذا الحوار:


(*) نبدأ من إصدارك الجديد "مفاتيح التراث، معجم الأديان والمعتقدات والمعارف قبل الإسلام" الصادر أخيرًا عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر؛ هل يمكننا اعتباره بحثًا عن مفاتيح الحياة العقليّة العربيّة قبل الإسلام؟
هذا الإصدار حلقة من حلقات اهتماماتي المعجمية، في مجال التراث الثقافي والحضاري عند العرب، وهو يلتقي في جانب منه باهتمامات المعجم التاريخي المخصص لحقبة واحدة، كما يقدّم إضاءات مكثّفة على الحياة العقلية، أو الوعي العربي قبل الإسلام، من خلال العلاقة الوثيقة بين الكلمات (اللغة)، وما تحمله من دلالات فكرية وإشارات عقلية، وما تسمح به اللغة ذاتها من استنتاجات، وما يمكن أن تملأ به فراغات كثيرة حول تصور العرب لأنفسهم وللكون وللعالم من حولهم.





ومن المعلوم أن المعجم، أي معجم، كتاب كلمات، أو ما في حكمها من المصطلحات والتعبيرات المتضامّة التي تصلح لتكون مداخل معجمية، وفي هذا الكتاب (257) مدخلًا معجميًا تعكس أديان العرب ومعتقداتهم ومعارفهم، انطلقت في تحديدها من مدونة واسعة شملت الشعر الجاهلي والأمثال والنثر القديم، إلى جانب المصادر المعجمية والتاريخية والأدبية المتنوعة. وحاولت تعريفها من منظور معجمي ينطلق من المادة اللغوية والبحث في تأصيلها وتشعباتها المختلفة، مراعيًا في ذلك ما تتطلبه وتسمح به الصناعة المعجمية من إيضاحات وشروحات، وأحسب أنه في عمومه وشموله يقدم مادة وفيرة عن الحياة العقلية قبل الإسلام، بمنهجية علمية وأكاديمية بعيدة عن المبالغة وعن الهوى والتنميط.


(*) لماذا هذا الاشتغال - الحفريات. أهو تجميع معلومات، أم فعلٌ نقدي لعادات وعبادات؛ ولوضعها في سياقها التاريخي العلمي؟
المعاجم في رأيي، ورأي كثيرين، كتب مرجعية يسميها بعضنا (أمهات الكتب)، ذلك أنها تشكل منطلقا لدراسات كثيرة متشعبة، وحتى توضع وتؤلّف تتطلب جهدًا ووقتًا وصبرًا بلا حدود، وهذا المعجم تطلب ما يقرب من عشر سنوات من العمل لساعات طوال، بشكل شبه يومي، ولو كان الأمر جمع معلومات لكان الأمر هينًا ويسيرًا، فالمعلومات ليست متوفرة بهذه البساطة على قارعة الطريق، بل في بطون الكتب وبين السطور، وهناك تضارب واختلاف فيها بين مصدر ومصدر، ولا بد من جمعها وتحليلها وتنخيلها للوصول إلى صورة يطمئن إليها الباحث قبل القارئ.

الملاحظة الأخرى أن المعجم ليس كتابًا إبداعيًا، أو كتابًا نقديًا، وإنما هو كتاب يقدّم المعرفة الدقيقة التي لا لبس فيها، وعادة ما نلجأ إلى المعاجم لنزيل الالتباس والغموض عن بعض الكلمات، أو المصطلحات، أو التسميات، فإذا لم يقم المعجم بهذا من خلال ما يقدّمه من معرفة دقيقة مقنعة، فإنه يكون معجمًا ناقصًا، أو معيبًا، ولقد حاولت في هذا المعجم الإحاطة بأهم الكلمات المفتاحية التي لا بد منها لتفهّم التراث الثقافي والحضاري عند العرب قبل الإسلام. وقبل أن أكتب أية مادة، كنت أقرأ عشرات، وأحيانًا مئات الصفحات المرتبطة بالمدخل، وما في معجمي هو خلاصة أمينة موثّقة أحسب أنها أفادت من جهود المعجميين العرب، ومن عشرات المصادر القديمة والحديثة، وتوصلت في كثير من المداخل إلى حقائق جديدة، وفهم جديد لكثير مما التبس فهمه على المعجميين والباحثين السابقين.


(*) في رأيك، هل أديان العرب ومعتقداتهم، ومعارفهم قبل الإسلام، كانت تؤسس لحياة فكرية، وأنت تعلم أن لا إشارات لمثل هذه الحياة غير ما جاء في الشِعر؟
أديان العرب ومعتقداتهم ومعارفهم هي جزء من تصور الأسلاف والإنسان القديم للكون وللعالم وللعلاقة مع الطبيعة ومع قواها الخفية، وليس المهم في الأديان والأساطير القديمة أنها حق، أو باطل، فهذا حديث تجاوزناه من زمن بعيد، وإنما المهم معانيها ودلالاتها، حيث ترينا جانبًا أصيلًا مبدعًا من كيفية تفاعل الإنسان مع ما حوله، فهي من نوع المعرفة المبنية على الضرورة، وليس الترف، أو ما هو زائد عن الحاجة.
تنبئك الألفاظ المفتاحية للأديان والمعتقدات عن المجهود الكبير الذي بذله الإنسان العربي ليطمئن وليطرد خوفه، وليجلو جانبًا من العتمة التي تحيط به، لم يكن العلم قد تطور كما هو اليوم، ولم تكن الكتابة والقراءة والتقنية قد أخذت حظها من الاستعمال. ولم يكن الدين الحق قد جاء ليجد الإنسان طريقًا ممهدًا نحو الإيمان. ولذلك علينا أن ننظر إلى ذلك الإنسان ونقدره ونفهمه كما كانت أحواله وظروفه، وليس من موقع ترفنا المعرفي والعلمي والديني في الوقت الراهن.

كذلك يمكن الإشارة إلى أن المرحلة الإسلامية التي قلبت حياة العرب ونقلتهم إلى حياة جديدة لم تلغِ في الحقيقة كل ما سبقها، فلقد اعتمدت اللغة نفسها، وأقرت كثيرًا من الأخلاق والتصورات التي تسربت إلى العرب من الحنيفية القديمة، ومن الأديان السماوية الأخرى، والوثنية التي كانت ديانة عموم العرب جاء ذكرها في القرآن الكريم ووقف المفسرون عند معالمها، وحين نعرّف بها فلكي نفهم تلك المرحلة التي توقف الاعتقاد بها منذ مجيء الإسلام. بل لكي نحسن فهم الإسلام، وفهم كثير من تشريعاته وأحكامه، لا بد لنا من فهم الأمور التي نقضها ورفضها، وهذا وغيره يشكل دافعًا لاستمرار الاهتمام بما قبل الإسلام، سواء ما يتعلق بالدين، أو اللغة، أو غير ذلك من مفردات الثقافة والحضارة.


الإفادة من مناهج المعجميات
(*) بحثك، هذا، أنا أعتبره صعبًا، لأنّكَ تقوم بتتبع الكلمات، الألفاظ؛ منها ما جاء في الشِعر، ومنها ما جاء في النثر، وأخذه من المعنى الاجتماعي والأدبي المتداول، إلى المعنى الاصطلاحي الخاص.. على أي منهج اعتمدت؟
تطورت الصناعة المعجمية في مناهجها وطرائقها في الجمع والوضع وتحرير المادة المعجمية، ولا بد أن يراعي المعجمي كل ذلك، ويفيد من مناهج المعجميات بما ينعكس بصورة إيجابية على عمله. وقد اجتهدت في الإفادة من كل ذلك في ترتيب المداخل ترتيبًا هجائيًا سهلًا، وفي التعامل مع المداخل الاصطلاحية تعاملًا يخضع لأسس الصناعة المعجمية، بعيدًا عن طريقة الجذور التي تفيد في المعاجم العامة، وليس في المعاجم الاصطلاحية، أو المتخصّصة. وأكثر ما كان صعبًا يتعلق بترتيب المعلومات المعجمية داخل المادة، بطريقة سلسة للقراءة وللفهم، ذلك أن المعجم يكتب لقارئ سيفيد منه، ولا يريد أن يخوض في الاختلافات والاجتهادات والمعلومات المتضاربة الواردة في المصادر، أو المبنية على الاستنتاج والاستقراء، ولذلك فما أوردته هو خلاصات لأبحاث مطولة تم تكثيفها ومعالجتها لتقدم معرفة واسعة في حيز طباعي محدود، ينسجم مع ميل المعاجم إلى الكثافة، بالرغم من حجمها الكبير عامة.




كذلك أفدت من علم المفردات، وعلم الدلالة، لمعالجة ما تتعرض له الكلمات من تطور، قبل
الإسلام وبعده، وكثيرًا ما كنت أشير إلى الأصل المادي للدلالة قبل أن تنتقل، أو تعمم، أو تخصص، أو تكتسب معنى جديدًا.. كل ذلك له قوانين ومبادئ اضطررت للبحث فيها حتى تنعكس تطبيقيًا على معالجة المواد والتعريف بها، ذلك أن تراثنا المعجمي لا يقدم إجابات مباشرة عن ذلك، ولا بد من الاجتهاد والمقارنة، وتطبيق القوانين الحديثة في علمي المفردات والدلالة، لنتبين جوانب من ذلك كله.
كما أفدت من مبادئ صناعة المعجم التاريخي، وخطر لي أنه قد يكون لبنة في المعجم التاريخي للغة العربية، ذلك أنه يؤرخ لألفاظ حقبة مبكرة غامضة لم تبحث بصورة دقيقة حتى اليوم، وما عملي إلا مساهمة واحدة من مساهمات كثيرة يمكن تقديمها تخص أصول الألفاظ ودلالاتها ومعانيها المتشعبة.


(*) هل كان دافعك، طبعًا غير العلم، هو الغيرة على العقل والحضارة العربية؟
اللسان العربي مفتاح الحضارة والثقافة العربية بأسرها، وإذا كنا عروبيين بالمعنى الجوهري والحقيقي، فينبغي أن نخدم لغتنا ولساننا، في ماضيه وحاضره، ولقد قيل كثير في الحقبة الاستعمارية عن العقلية العربية، واتهمت بالضحالة والسطحية وضعف الخيال والعجز عن النظرة التركيبية، بينما وصفت شعوب أخرى بسعة الخيال، مما يتمثل في الأساطير والطقوس والمعارف الخيالية المرتبطة بالأديان القديمة، ولعل معجمًا مثل معجمنا يرد بشكل علمي على مثل هذه الاتهامات المنبعثة من منطلقات عرقية بائدة، ومن وهم التفوق والاستعلاء، مما له تجليات كثيرة خارج ما نتحدث عنه. عندما نؤرخ تأريخًا معجميًا لهذه الثروة اللغوية التي تدل على التصورات الممتدة وعلى رؤية واسعة تشمل الكون والطبيعة، فإننا نقول بأن ما سمي بالجاهلية ليس جهلًا، وأن إعادة الاعتبار لجانب حيوي من وعينا الأسطوري أمر ينسجم مع احترامنا لذاتنا ولهويتنا.

ولو نظرنا على سبيل المثال في الثقافة الأوروبية والأميركية الحديثة لوجدنا الولع بكل ما يتصل باليونان والرومان، ولوجدنا المعاجم والقواميس المتعددة حول تلك الحضارات القديمة ومفرداتها الأسطورية والدينية، وحول أعلامها وحروبها، في صورة جعلت منها أساسًا يعتد به في التعليم والبحث والتأليف، من دون تناقض مع الحاضر. ولكن عندما يتعلق الأمر بإحياء جوانب من الحضارة العربية، تجد علامات الاستفهام هنا وهناك، وكأن ماضينا بلا قيمة، أو أن هناك من يعده (تابو) لا يراد استرجاعه، أو الإطلالة عليه. هذا المعجم مساهمة بسيطة مني تعبر عن ولهي باللغة العربية، وبالعروبة في أصولها القديمة، ذلك أنني ممن يؤمنون أن حلقات الحضارة لا تنفصل، وأن المستقبل لا يتحقق بالصورة التي نطمح إليها إلا من خلال استيعاب الماضي ومعرفته معرفة علمية أكيدة، بعيدًا عن لغة الشعارات المنفّرة.


(*) هل ثمّة أجزاء أخرى من هذا المشروع ـ المعجم، أو إصدارات أخرى في السياق ذاته؟
نعم، هناك عدة كتب من هذا المشروع، وهي تنتظر حظها من التحرير والمراجعة ليتسنى لي نشرها قريبًا، وتشمل محاور الكتب اللاحقة من هذا المشروع الثقافي عدة معاجم تتصل بحقبة ما قبل الإسلام: معجم مصطلحات اللغة والكتابة والأدب، ومعجم المجتمع والثقافة الشعبـية الذي يضم مداخل حيوية حول: القرابة والنسب والجماعات والزواج، وحول دورة الحياة وثقافة المجتمع، وألفاظ أيام العرب وتقاليد الحرب، وألفاظ الأسواق والبيوع والمكاييل والأوزان والنقود. وأما معجم الحضارة المادية، فيشمل: الأطعمة والأشربة والآنية، والزراعة والبئر والنبات، والصناعة: الأدوات، سلاح العرب. ومعجم الفنون والألعاب والأزياء ويشمل: الرسم والتصوير، النحت والزخرفة والعمارة، الموسيقى والغناء، والألعاب والملاهي، والأزياء والمنسوجات والحلي والزينة والعطور.