Print
مليحة مسلماني

أمين عودة: الخطاب الصوفي يركز على وحدة الأصل الإنساني(2/2)

23 أبريل 2021
حوارات

بعد سرده، في الجزء الأول من هذا الحوار، لتجربته في دراسة الشعر الصوفي، وغاياته وميزاته ومستويات تأويله، وحول التجارب النسائية في هذا المجال، يستكمل أمين عودة، الأستاذ في قسم اللغة العربية في جامعة آل البيت (الأردن)، حديثه في هذا الجزء الثاني والأخير، حول مواضيع شديدة الأهمية ميزت التجربة الصوفية تاريخيًا، ومن بينها التأويل الإشاري أو العرفاني للقرآن، فيحدثنا عن الاعتبارات التي يستند إليها هذا النوع من التأويل، وعن أهميته في تحقيق تواصل قلبي وجداني مع النص القرآني. 

ثم يتحدث عودة عن الخطاب الصوفي، ومستوياته، وإشكاليات تأويله وفهمه، وإمكانات تطويعه أو تطويره بما يتلاءم والواقع المعاصر، وذلك بهدف الاستمداد من معارفه وأسراره التي لا شك في أنها تسهم في خلق توازن تحتاج إليه المجتمعات بين توجهاتها الروحية وتلك المادية. وهو يختم حديثه عن الرؤية الصوفية لحقيقة الاختلاف، مستحضرًا حكاية شعرية رمزية لجلال الدين الرومي، عن وحدة الأصل الإنساني الذي تجلّى بمختلف الصور والأجناس واللغات والمعتقدات.    



(*) إضافة إلى الشعر الصوفي، اهتمت دراساتكم أيضًا بالتأويل الإشاري أو الرمزي أو العرفاني للقرآن، والذي اختصت به الصوفية، ما عرّضهم إلى انتقادات لاذعة في هذا الصدد، ما هو التأويل الإشاري للقرآن؟ وما هي أهميته؟ بعبارة أخرى ما الذي يضيفه التأويل الإشاري إلى مداخل ومناهج التفسير الأخرى للقرآن؟ 

يخضع مفهوم التأويل الإشاري عند الصوفية لاعتبارات خمسة، أوَّلها: أنَّ الفهم الإشاري نمط من أنماط القراءة التفاعلية، وثانيها: أنَّه استنباط بالحال لا بالقال، وهو استنباط يجاوز ظاهر المعنى الذي سيقت الآية القرآنية للدلالة عليه في العرف اللغوي المُتواطأ عليه، وثالثها: أنَّ هذا الاستنباط متَّصل بعلاقة المتلقّي الصوفي الحريص على تصفية باطنه، وصقل مرآة قلبه بمداومة ذكر الله -عزَّ وجلَّ- ومداومة قراءة القرآن الكريم قراءة تعبُّديّة مستبصرة، ترمي إلى التفاعل والانفعال بتلاوة آياته، بحيث تثير في وجدانه المصفَّى، وفي قلبه المعلَّق بالله تعالى معاني إيحائيَّة توحي بها الآيات المتلوَّة، على نحو يوازي حاله في السلوك الروحي ومنزلته فيه، ورابعها: وهو شرط يشتمل على احتراز وتنبيه، إذ يُحكم على صدق هذه المعاني الإيحائية، وتلكم التأويلات الإشارية، ويُحكم على عدم اندراجها في التأويلات التعسُّفية أو الإسقاطية المذمومة أو السخيفة أو الباطنية المرفوضة، بأن يمكن الجَمْعُ بينها وبين ظاهر الآية، من حيث المماثلة والمشابهة والموازاة بين المعنى الإشاري، والمعنى الظاهري الذي سيقت ألفاظ الآية لأجل إظهاره في أصل الوضع، وخامسها: أنّه لا يصحُّ الكلام في علم الإشارة إلا لمن أتقن أحكام علم التفسير الظاهر. وفي هذا السياق يقول ابن عاشور: أمَّا ما يتكلَّم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معانٍ لا تجري على ألفاظ القرآن ظاهرًا، ولكن بتأويل ونحوه، فينبغي أن تعلموا أنَّهم ما كانوا يدَّعون أنَّ كلامهم في ذلك تفسير للقرآن، بل يعنون أنَّ الآية تصلح للتمثُّل بها في غرض المتكلِّم فيه، وحسبكم في ذلك أنَّهم سمَّوها إشارات، ولم يسمُّوها معاني، فبذلك فارق قولهم قول الباطنية.

 

وأمَّا أهمِّية هذا النمط التأويلي، فتكمن في حثِّ التواصل مع القرآن تواصلًا ذوقيًّا بالحال لا بالقال، وهذا يقتضي من القارئ معايشة النص القرآني والإنصات إليه والإقامة فيه، وكأنَّه يتنزَّل على قلبه هو. إنَّها قراءة كيميائية بمعنى أنَّها تفاعلية تفضي إلى تغيير كيمياء الذات القارئة، وتحيل ظلماتها إلى شعاشع من نور.

"الدراويش في القاهرة"/ ماكوفسكي/ Getty



(*) من بين أبرز كتبكم، ذلك الذي يأخذ القارئ في رحلة شاملة وممتعة في عالم الصوفية، سواء كانت خطابًا أو فلسفة للحب الإلهي وتأويلًا للوجود أو تاريخًا وطرقًا، أعني كتابكم "التصوف شهودًا وحبًا وخطابًا، وأثره في روحنة الإنسانية والتقريب بين الأنا والآخر". اهتممتم في مقدمة هذا الكتاب بالخطاب الصوفي وبإمكانيات تقريبه وتطويره بما يتلاءم مع لغة العصر وروحه، وذلك لما في هذا الخطاب من فلسفة ورؤية للحياة والوجود ومن اهتمام بالأخلاق وبالنفس وتزكيتها؛ كيف يمكن أن يسهم الخطاب الصوفي في نجاة المجتمعات العربية من التردّي الحاصل على مستويات عدة ثقافية واجتماعية وسياسية، وفي نجاة الإنسان بعامة من ثقافة الاستهلاك واللهاث وراء الشهوات المادية، وفي التقريب بين مختلف الثقافات والمعتقدات والديانات؟ 

ينطوي هذا السؤال على مجموعة أسئلة، وسأضع الإجابات في النقاط الآتية: 

1- ينبغي أن يُفهم التصوُّف على أنه ممارسة إنسانية تعبُّدية، تتَّخذ من الدين وسيلة لتحقيق غايتين مهمَّتين، الأولى: أخلاقية. والأخرى: معرفية. أمَّا الأولى فيتجلَّى دورها في العمل على إصلاح المجتمع الإنساني، وتهذيب أخلاقه ورَوْحَنَتِه. وأمَّا الأخرى ففي صلة العبد بربِّه، وهي صلة تعبُّد ومحبَّة، يُرجى - من بلوغ مداها الأقصى- تحقيق المعرفة بالله تعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله. ولعلَّ هذه الأخيرة هي التي تحفظ على الدين روحه ومضمونه المؤثِّر، فلا تتحوَّل عباداته وشرائعه إلى عادات أو ممارسات رتيبة مستثقلة، عوضًا عن الأصل الذي ينبغي أن يكون متجدِّدًا ومريحًا، كما عبَّر عنه النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم- في قوله لبلال - رضي الله عنه- في النداء للصلاة: "قم يا بلال، فأرحنا بالصلاة".

2- إدراك أنَّ الخطاب الصوفي، الذي هو ثمرة سلوك وتعبُّد، خطاب يعبِّر عن وعي الروح بموضوعها بلغة العقل والمنطق والوجدان، وهذا يكاد يشبه نقل لجَّة البحر، وصبِّها في قدح. ومع ذلك، فلدى العقل قدرة على التعبير بلغته ومنطقه عن وعي الروح هذا، لكنَّه يظلُّ، في غير قليل منه، تعبيرًا ناقصًا ومرتبكًا ومشوَّشًا، وهذا ما يؤدي، في الأغلب، إلى خلق حالة من التوتُّر والحذر، وعدم القدرة على تحقيق النجاح المرجوِّ في التواصل مع الخطاب الصوفي وتلقّيه. بل قد يصل الأمر بالمتلقِّي إلى اختزال الخطاب برمَّته، والتخلُّص من الإرباك والتشويش وعسر الفهم ومعاناته، بإصدار أحكام الزندقة والتكفير وما يواليها. ويغلب الظنُّ أنَّ إدراك هذا الأمر، بمعزل عن الأحكام الجاهزة والمسبَّقة، قد يرفع من مستوى وعي المتلقّي في التواصل مع المعارف الصوفية ذات المنحى الإشكالي، ولعلَّه يكون دافعًا - من بَعْدُ- إلى البحث في منطق الخطاب الصوفي الداخلي، وفي لغته وطرائقه التعبيرية المخصوصة.

3- إنَّ تحقيق المقترحين السابقين منوط بتوسيع رقعة تداول الخطاب الصوفي في صيغه المتعدِّدة: الشعرية والنثرية والاصطلاحية وقضاياه المعرفية والفلسفية. وقد تقع المهمَّة الأكبر في ذلك على عاتق الجامعات والمؤسَّسات الأكاديمية والهيئات العلمية والثقافية والإعلامية، التي ينبغي أن تنهض بدور كبير في تهيئة ظروف مادِّية ومعنوية، تضطلع بعبء استيلاد فضاء علمي جادٍ، يملؤه أكاديميُّون متخصِّصون في مجال تحليل الخطاب الصوفي. ويمكن دعم هذا الفضاء بأشياخ الطرق الصوفية ذوي الخبرة العملية والمعرفية. غير أنَّ ما يدعو للأسف أنَّ هذه المؤسَّسات تسهم في تهميش الخطاب الصوفي وإقصائه، بدلًا من وضعه في سياق تداولي يتيح لوعي المتلقّي استيعابه ومدارسته ومحاورته في مراحل تكوينه المعرفي المبكِّر، ولا أقلَّ من أن يكون في المرحلة الجامعية الأولى؛ ليمتصَّ الوعي منطق الخطاب الصوفي الداخلي شيئًا فشيئًا، ويستكشف طرائقه التعبيرية ورموزه ومصطلحاته ولغته وموضوعاته. ولا شكَّ في أنَّ التواصل مع الخطاب الصوفي على هذا النحو سيفضي إلى تشكيل آفاق استجابة تَأْلَفُ الخطاب ومكوِّناته، وتحاورهما محاورة سلمية وعلمية، لا محاورة عدائية مضمرة سلفًا.

4- عقد المؤتمرات والندوات المتخصِّصة في تحليل الخطاب الصوفي، والعمل على وضع مقترحات و"استراتيجيات" خطابية تدنيه من الفهم والإفهام وسعة التداول. والاستفادة من تجارب الجامعات والمؤسَّسات الأكاديمية في مختلف الأقطار العربية، التي لها عناية بالخطاب الصوفي وقضاياه المعرفية، أو أية مؤسَّسات أو جهات أخرى، لها خبرة في هذا المجال، والعمل على إصدار مجلَّات متخصِّصة في المضمار نفسه، وَرَقِيَّة أو إلكترونية.

5- محاولة تقريب المفاهيم الصوفية الإشكالية، لا سيَّما مفهوم وحدة الوجود وبيان صلته بطبيعة الوجود المادِّي، وتجانس الأضداد واجتماعها، عبر التواصل مع مكتشفات علوم الفيزياء الذرية الحديثة. فإذا كان التصوُّف - بتوسُّط وعي الروح-  يتحدَّث عن حدوس عرفانية، ومذاقات شهودية، تصف صِيَغًا أخرى للوجود المادِّي، غير تلك الصيغ التي يقرأها العقل ويقرُّها ولا يتزحزح عن إثباتها وتمثُّلها، فإن ما توصَّلت إليه العلوم الفيزيائية الحديثة، ولا سيَّما الفيزياء الكمومية، تمضي قدمًا لتعانق الحدس الصوفي، وتثبت صحَّة شهوده لذلك الجانب الآخر من الوجود، وهو الجانب الباطني الخفي الذي يخضع لقوانين غير تلك القوانين التي يتجلَّى بها للحواسِّ في صيغة ما يسمَّى بالمادَّة الظاهرة. وتنعى على العقل قصوره عن تمثُّل هذا الجانب الخفي، واقتصاره على تمثُّل وجهٍ واحد من وجوه المادَّة وقوانينها وهو الوجه الظاهر لها.

6- إعادة قراءة المصطلحات الصوفية وفهم محتواها ودلالاتها بدقَّة، وإعادة تنظيمها وتبويبها على نحو يُراعى فيه تدرُّج المفاهيم العرفانية التي تنطوي عليها وفق مراحل السلوك الصوفي نفسه، التي تتعيَّن في البدايات والأواسط والنهايات. وضمُّ المصطلحات المتجانسة دلاليًّا إلى نظائرها في حقل واحد، وهكذا دواليك في سائرها. وتدوينها بلغة معاصرة، تيسِّر على المتلقّي التواصل معها واستيعابها، وتداولها من بَعْدُ، والتوصُّل بها إلى إدراك مرامي الخطاب الصوفي ودلالاته إدراكًا سليمًا.

وخلاصة القول: إنَّ ما يكتنزه التصوُّف في بعض مستوياته التي تتمثَّل في: شهود حقيقتي الكون والإنسان وعلاقتهما بالله تعالى ظاهرًا وباطنًا، وشهود الحبِّ الكامن في كلِّ ذرة من ذرات الوجود، والسعي إلى تقريب خطاب التصوف من الفهم والإفهام وسعة التداول، لحريٌّ أن يشارك كلُّ هذا مشاركة طيِّبة في كبح جموح الإنسانية نحو التوغُّل في الجانب المادِّي، وفي توهُّم أنَّ العقل وحده كفيل بقيادة الإنسانية إلى مقاربة حقيقتها وحقيقة وجودها فضلًا عن مقاربة حقيقة الكون والغاية منه، وعلاقته بخالقه، عزَّ وجلَّ. ويسع التصوُّف أيضًا أن يفتح آفاقًا رحيبة للتعارف والحوار بين الأنا والآخر في الشرق والغرب، وأن يحدَّ من نزق الإيديولوجيَّات وضيق أفق المعتقدات، التي يصنعها الإنسان وفق هواه وتصوُّراته هو، حابسًا نفسه وعقله بين جدرانها المعتمة، ظانًّا أنَّها تمثِّل الحقَّ المطلق، وأنَّ غيرها لا ينطوي إلا على الأمْت والضلال. ويسعه أيضًا أن يحرِّر الروح من عقال النفس وأنانيَّتها المفرطة وحُجُبها الكثيفة. ولعلَّه - بعبارة أخرى- يكون قادرًا على تطوير النزعة الروحية في الإنسان والكون بأسره؛ لتسير جنبًا إلى جنب مع التطوُّر العقلي والمادِّي، موجِّهًا إيّاهما وجهة تُرضي الخالق والمخلوق.


الاشتراك في الإنسانية

(*) تبعا للسؤال السابق، كيف يمكن أن تسهم رؤية التصوف لحقيقة الاختلاف، باعتباره حقيقة إلهية، في التصالح مع هذه الحقيقة وفي تنشئه أجيال أكثر قدرة على تقبل الآخر بغض النظر عن معتقده وهويته؟ كيف يمكن لمسلم اليوم أن يعيش معتقده وطقوس دينه، في مجتمعات شديدة التنوع الثقافي والديني؟  

سأستدخل في إجابتي حكاية شعرية رمزية أبدعها مخيال مولانا جلال الدين الرومي، يشخِّص فيها ببصيرة ثاقبة وروح ملهمة، حقيقة النزاع الوهمي الذي تقع في حبائله عقول أصحاب الفِرَق والمذاهب والأديان، على نحوٍ يجعل كلَّ واحد منهم يرى في وهمه أنَّه على صواب، وأنَّ سواه على خطأ، ويصرُّ على تحقيق مراده دون مراد الآخر، فينتهي الأمر إلى الفُرْقة والنزاع، وقد غاب عن هؤلاء أنَّهم ينحدرون من طينة واحدة، وأنَّهم يشتركون في الإنسانية، وأنّ مطلبهم واحد، وأنّ تنوُّع الطرائق في الوصول إلى مطلبهم - في غياب الوعي بالمُشْتَرَك الإنساني الجامع- هو الذي أوقعهم في الفرقة ووهم اختلاف المطالب وتعدُّدها. ولا شكَّ في أنَّ مثل هؤلاء لا يتوفَّرون على المعرفة الكافية للخروج من سيئات الخلاف إلى حسناته، ولا على ملكة الاستبصار المدرَّبة الخبيرة لتسعفهم في رؤية الوحدة الإنسانية الكامنة في التنوّع البشري، والحكمة من تعدُّد الأنظار واختلافها الذي ينبغي أن يكون اختلاف رحمة لا اختلاف نقمة. 

يقول مولانا جلال الدين الرومي في حكاية نزاع أربعة أشخاص على العنب، تنازعوا فيما بينهم؛ لأنّ كلَّ واحد منهم كان يعرف اسم العنب بلغته هو، ولا يعرفه بلغة الآخر:

أعطى رجل درهمًا لأربعة أشخاص. قال أحدهم: لنشترِ به "أنكور"

قال آخر وكان عربيًّا: أنا أريد عنبًا، ليس " أنكور" أيّها المحتال

وكان الثالث تركيًّا فقال: هذا لي، وأنا لا أريد عنبًا، بل أريد "أوزوم"

وكان الرابع روميا فقال: أتركو هذا القيل، فأنا أريد "أستافيل"

وانتهى النزاع بذلك النَّفر إلى المشاجرة؛ ذلك أنَّهم كانوا غافلين عن أسرار الأسماء

وتضاربوا بالأيدي من البَلَهِ. كانوا شديدي الجهل، خاوين من المعرفة

ولو كان هناك صاحب سرٍّ عزيز عارف بالأسماء لوفَّق بينهم

ولكان قد قال: إنَّني بهذا الدرهم الواحد سوف أحقِّق رغباتِكم جميعًا

ولو أودعتموني قلوبكم بلا نفاق، لقام درهمكم الوحيد هذا بعدد من الأعمال.

ولصار درهمكم الوحيد هذا أربعة. والمراد أنَّ أربعة من الأعداء، من الممكن أن يتوحَّدوا بالاتِّفاق.

فإنَّ قول كلِّ واحد منكم على حدة يبعث على الحرب والفراق، وقولي أنا يوحِّد بينكم.

من ثَمَّ، فاسكتوا أنتم، وامضوا إلى حال سبيلكم، حتّى أُصبح أنا عند النقاش لسانكم.

وكلامكم، وإن كان يبدو على نمط واحد، إلّا أنّ في أثره النزاعَ والسخط. 




فلم يكن العارف في هذه الحكاية عارفًا إلّا لأنَّه امتلك أُفقًا معرفيًّا أوسع من غيره وأعمق، أقْدَرَهُ على استشراف الحقيقة الماثلة في أنَّ وحدة الإنسانية المتأصِّلة في البشرية جمعاء، أَوْلى بالنظر والعناية من مظاهرها المتجلِّية في ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم ومعتقداتهم وأنظارهم الفكريّة؛ إذ ليست هذه المجالي سوى فرع على الأصل الإنسانيّ الواحد، وأنَّ المُراد منها التنوُّع الإيجابي الخلّاق الذي ينهض بهذا الأصل، ويسمو به نحو التعارف الأممي والكمال الإنساني.

إنَّ الفروع البشريّة المتعدِّدة الأنظار، وأصلها الإنسانيّ الواحد، إنْ هي إلّا مظهر من مظاهر التعدُّد الخَلْقيّ والتنوُّع الكونيّ، في إطار وحدة الخالق. وهذا ما وقف عليه العارف ووقف عنده، وجعل المتخاصمين، على الرغم من تعارض رؤاهم التي رمز لها باختلاف ألسنتهم، يُقْصِرون عن باطلهم، ويَنْزِعون عن جهالتهم، ويبصرون رشدهم، ويخرجون من أفق الخلاف إلى أفق الوفاق.

ولم يكن بمقدور جلال الدين الرومي أن يستشرف الأفق الإنساني الثاوي في البشر، وأن يبدع خطابًا شعريًّا ذا صبغة إنسانية وعالمية، لولا أنَّ القرآن الكريم نفسه يمثِّل دستورًا إنسانيًّا عامًّا، يخاطب الثقلَيْن، باعتبار وحدة الخالق وتنوُّع الخَلْق في إطار وحدة العبودية لله، تعالى. ومن أمثلة ما جاء في القرآن الكريم في هذا السياق قوله، تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾. وقوله، تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. وقوله، تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾. وقوله، تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. وسواها من آيات.

وسيلمس المتأمِّل في خطاب جلال الدين الرومي، أنّه تحرَّر من أسر النظر الأحادي، وتخلَّص من هيمنة الرؤية التي لا ترى الحقَّ إلّا في ما تعتقد، ولم يكن ذلك ليتأتّى له لولا أن رأى برهان ربِّه ماثلًا في العودة إلى أصول الدين النقية، لا إلى فروعه التي تلبَّست بتعصُّب أهلها لآرائهم التي لم تجاوز أفهامهم هم. ويتلخَّص مفهوم العودة إلى أصول الدين في ممارسة شعائره ممارسة حيَّة الظاهر والباطن، تفضي إلى تخلُّق الممارس تخلُّقًا ذوقيًّا فعليًّا بمراد الشارع، لا تخلُّقًا علميًّا وممارسة ظاهرية؛ عندئذٍ يدرك المراد بقلبه وروحه لا بعقله وجسده فحسب. يقول الحقُّ، عزَّ وجلَّ: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾. ويقول، تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾. وقد قيل: "من ذاق عرف" والمعرفة –ههنا- معرفة حقٍّ ويقين لا معرفة ظنٍّ وتخمين؛ لأنَّها تستند إلى التجربة الذوقية الحية بين العارف والمعروف، أو بين العبد ونصوص الوحي الدينية والأخلاقية والمعرفية.

فهل يسع الخطاب الصوفي أن ينهض بمهمَّة تقديم الإسلام في منزعه الإنساني العالمي، دينًا توحيديًّا يتعبَّد الخالق وحده، وأخلاقًا كونية تنشد كمال البشرية وسعادتها في الحال والمآل، وتجربة روحية تحترم خيار الآخر، وتؤمن بأنَّ الحقيقة واحدة، وأنَّ الطُّرُق إلى تحصيلها متعدِّدة، في وقت بات فيه العالم أشبه بقرية صغيرة؟!

على أنَّ الحديث في هذا الشأن يطول، وثمَّة رؤًى للشيخ الأكبر ابن العربي في هذا المضمار، يضيق المقام عن الخوض فيها.