Print
محمود عبد الغني

محمد مرشيدي: الصورة جزء من الشظايا الزمنية للذاكرة الإنسانية

5 أبريل 2021
حوارات
نستضيف هنا المصور الفوتوغرافي المغربي، محمد مرشيدي، رئيس جمعية محترف الفن الفوتوغرافي، لتسليط الضوء على الأسئلة الفنية والفكرية لفن التصوير الفوتوغرافي، تاريخه، مكانته في التاريخ، في الأمس، اليوم وغدًا. ومناسبة هدا الحوار هو حلوله ضيفًا على كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، لتأطير ورشة في موضوعة التصوير الفوتوغرافي، لفائدة طلبة الإجازة والماجستير والدكتوراة. وذلك نظرًا لما أصبح لهذا المجال الفني من أهمية في حياة الناس، اليوم، إذ أصبح ممارسة يومية شائعة عند كل فرد، بفضل تقنيات التصوير التي يمكننا منها الهاتف النقال. هنا، كلمات وأفكار فنان فوتوغرافي ممارس ومنخرط في الشأن الثقافي والفني المغربي.

"شباك الصياد" بعدسة محمد مرشيدي 


(*) بصفتك مصورا فوتوغرافيا، ماذا تشكل الصورة لعامة الناس؟ ولماذا يلتقط الناس الصور الفوتوغرافية؟
شكلت الصورة دومًا جزءًا من الشظايا الزمنية المتناثرة للذاكرة الإنسانية، ولحظة مقتبسة من المسار الزمكاني للأفراد والجماعات، حتى قبل ظهور الفوتوغرافيا في نهاية القرن التاسع عشر. وبعد التطور التكنولوجي لوسائل التصوير أصبحت الصورة الفوتوغرافية تشكل نمطًا لغويًا صامتًا يعتمد البصر كقاطرة لإبلاغ الحواس الخمس بمضمون وفحوى الأشياء المصورة.

في أحايين كثيرة، تشكل الصورة نوعًا من خطابات الترغيب، أو الترهيب، وكذلك شكلًا من أنواع  التخليق والتهذيب، أو التحريض. كما تشكل مجرد خطاب بصري تعبيري ينقل جزءًا من حياتنا اليومية، وهذا ما يجيب على الشطر الثاني من سؤالكم، حيث أعتقد أن عملية التقاط الناس للصور الفوتوغرافية هي نزعة إنسانية صرفة مرسخة لديهم لتوثيق زمكانهم، والظروف المحيطة بهم. وقد حصل ذلك حتى قبل ظهور الفوتوغرافيا. إنها نزعة تعود إلى قرون خلت. ويكفي أن نعود إلى قراءة الرسوم والنقوش الحجرية داخل الكهوف والمغارات وكل الأماكن التي عمرها الإنسان البدائي لنطلع على رغبته في تدوين انشغالاته بالصور والرموز البصرية. ومع مطلع الحضارات، تطور التوثيق، وبتوالي اكتشافات وسائل التوثيق الأكثر تطورًا اجتهد الجنس البشري في تخليد وتوثيق معيشه اليومي، وشريط الأحداث المرتبطة بحياته. اليوم، ومع تغيير نمط العيش، وتعاظم حركية الإنسان، وإيقاعات الحياة اليومية، ومع زحف كل هذا التطور التكنولوجي الهائل لوسائل التصوير المتاحة لعامة الناس، تيسرت عمليات التوثيق والإشهاد والتصوير، وأصبح التقاط الصور حاجة ملحة للإثبات لدى العامة من الناس، إلى جانب تخليد الخط الزمكاني في حياتهم اليومية بأدق تفاصيلها، فزادت نزعتهم إلى التعبير عن مجريات شريط حياتهم اليومي، وعن تخليد نفسهم ومحيطهم عبر التقاط الصور.



كل الأجناس التعبيرية صور

"فروسية" بعدسة محمد مرشيدي 


(*) دومًا كان للفوتوغرافيا أدوار كبيرة في القديم. هذا يدفعنا إلى معرفة رأيك عن مكانة الفوتوغرافيا في العالم اليوم؟ وما مكانة الفن الفوتوغرافي بين فنون الصورة الأخرى؟
هذا الطرح في شقه الأول هو سؤال ضخم بضخامة المكانة التي تحتلها الفوتوغرافيا الاحترافية في العالم اليوم. فهي في حد ذاتها عالم مترامي الأطراف، لا حدود له ولا جغرافية تحده. عمومًا، لا أحد يمكنه أن يجادل في حضورها القوي كوسيلة تعبيرية في مجال الاتصال والتواصل، حيث أضحت اليوم هي اللغة البصرية العالمية السلسة والمتداولة، سواء في ميادين العلماء، أو عوالم البسطاء، هي الوسيلة الأنجع لتقريب المسافات بين الجماعات والأفراد، وهي الأداة الأسرع لتصريف المعلومة وتداولها بين عامة الناس.

لا حدود اليوم لجبروت الفوتوغرافيا، إعلاميًا وتواصليًا، وطغيانها على كافة الميادين العلمية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية والسياسية والرياضية، كلغة بصرية تتحدث كل اللهجات، وتخاطب كل المجتمعات، كل هذا بفضل الزحف الرقمي لتكنولوجيا التصوير الفوتوغرافي الذي استطاع أن يؤسس لأسواق دولية عملاقة للفوتوغرافيا وللفوتوغرافيين المحترفين. وقد استطاعت هاته الأسواق أن تتماشى في وقت وجيز ورغبات المحترفين حسب تنامي طلبهم واختصاصاتهم الاحترافية.
أما في ما يخص الشق الثاني من السؤال، فالفن الفوتوغرافي هو بالمناسبة عالم مستقل، ولا يمت بصلة للفوتوغرافيا الاحترافية. فالممارس لفن الفوتوغرافيا لا علاقة له البتة بالفوتوغرافي المحترف، فالأول فوتوغرافي هاو يمارس شغف الإبداع في كل تجلياته، حسب هواه، ارتباطًا بمخزونه المرجعي، المعرفي، الثقافي والفني، وقد يعمل على صوره وهوايته بمهارة وحرفية فائقتين، وقد يخطئ متعمدًا في بحثه الدائم عن أشكال إبداعية ضوئية مثالية. ثم إنه لا يخضع لسوق التكنولوجيا الفوتوغرافية المتطورة. أما الثاني فهو يشتغل تحت الطلب، ويخضع لصيرورة سوق العرض والطلب، ومستجدات التكنولوجيا الفوتوغرافية، وبالتالي فهو يمارس حرفة الفوتوغرافيا، وهامش الخطأ في مهنته شبه منعدم. كما أن حرفته، أو حرفيته، لا تقبل التردد، أو التأويل. إذن، فالفن الفوتوغرافي هو على خط متواز مع فنون الصورة الأخرى. شخصيًا، أعدُّ كل مبدع مصورًا. المسرحي مصور، والسينمائي مصور، والروائي مصور، والشاعر مصور، وكاتب القصة القصيرة مصور. وأكاد أجزم أن النحات هو، أيضًا، مصور. كل الأجناس التعبيرية هي صور، إن لم تكتب بالضوء، أبدعت بالقلم، وأدوات أخرى.
أعتقد أن الإبداع الفوتوغرافي هو جهد مستمر لا يبتعد عن الصورة الشعرية، أو الصورة الروائية، وليس بعيدًا عن بناء المشاهد المسرحية، بكل إكسسواراتها، أو إخراج الرقع البصرية السينمائية المتتالية. فالممارس للفن الفوتوغرافي يستمد صوره الوصفية الأدبية والفنية والاجتماعية من معين كل الإبداعات، وحقول كل هؤلاء المبدعين هو ممارس لفن الفوتوغرافيا، وليس فنانًا فوتوغرافيًا، لأن الفنان الفوتوغرافي هو المسرحي والسينمائي والروائي والشاعر وكاتب القصة القصيرة أيضًا، هو المبدع الثوري، النرجسي والأناني بالضرورة، والمتنكر لكل المدارس.



(*) على ذكر المدارس، هل تنتمي إلى مدرسة التصويرية؟
مدرستي لها امتدادات متعددة، وقد انطلقت مع ظهور الآلة الفوتوغرافية الصغيرة الحجم 35 مم، في بداية عشرينيات القرن العشرين، حيث وفرت آنذاك للمصورين الهواة فرصة اقتحام الحياة اليومية للشارع العام، بكل سهولة، لاقتناص الإيقاعات الزمكانية للناس، لتخليد اليومي بكل تفاصيله ـ حركية الأشخاص ـ طقوس يومية ـ بنايات... إلخ. وهي مدرسة أميركية فرنسية بامتياز كان من أهم روادها إدوارد بوبا، براساي، روبرت دوانو، هنري كارتييه، وآخرون من فرنسا. كما نجد أيضًا روبرت فرانك، ووالكر إفان، وآخرين من أميركا. وهي مدرسة لا تعتمد أساسًا على آلات فوتوغرافية بإمكانيات تكنولوجية متطورة لتغطية اليومي بالشارع العام، بل هي مدرسة تعتمد على مهارة المصور الفوتوغرافي ودهائه في اصطياد اللحظات الهاربة، وتسخير العين الثالثة لالتقاط جزيئات لا مرئية من الشريط الزمكاني ليوميات الشارع العام.
هنالك امتداد آخر لهاته المدرسة، يلغي الارتباط بتكنولوجيا الآلة الفوتوغرافية لإنتاج صور تعبيرية تجريدية عبر التعريض الضوئي، وكان من أبرز رواده الأميركي مان راي.

"طفل يركض" بعدسة محمد مرشيدي 


وضعية الفوتوغرافيا في المغرب
(*) ماذا عن وضعية الفوتوغرافيا الفنية في المغرب اليوم؟
أعتقد أنها في وضعية مقاومة وتحد. وضعية قائمة على مجهودات فردية، وتضحيات شخصية، حبًا في ممارسة الإبداع الفوتوغرافي، وصونًا للفعل الفني الفوتوغرافي المغربي. يمكن أن نتحدث اليوم عن طموح واجتهاد فوتوغرافيين مغاربة، وليس عن وضع الفوتوغرافيا المغربية. وأنا كمتتبع للشأن الفوتوغرافي المغربي أجد أن الفوتوغرافيا الفنية في المغرب اليوم تعيش وضعًا متذبذبًا في ظل الغياب التام لمؤسسات الدعم لهذا الرافد الإبداعي. وفي ظل التشرذم والتيه اللذين تعيشهما جل الجمعيات، باستثناء جمعيتين، أو ثلاث جمعيات.
هذا سؤال وجيه يحيلنا مباشرة إلى قطار الفوتوغرافيا الفنية المغربية الذي انطلق مع نهاية الثمانينيات، وتوقف عند نهاية التسعينيات من القرن الماضي التي كانت بحق فترة بناء صرح فني فوتوغرافي مغربي، نظرًا لما شهدته من تجمع للفوتوغرافيين المغاربة، محترفين وهواة، حول نقاشات نقدية وفكرية لتفكيك مفاهيم التصوير في المغرب، ورصد لجماليات الصورة الفوتوغرافية المغربية، تبعتها معارض وملتقيات وندوات، وقد كان ذلك بفضل التضحيات ونكران الذات لجل فوتوغرافيي تلك الفترة.

حسب مقولة: اليوم يطرد الأمس، جاءت العملة السيئة لتطرد العملة الجيدة. جاء التصوير الرقمي ليطرد التصوير الفني، المتسرع يطرد المتأني، فاختلط الحابل بالنابل، وأصبح اليوم من الصعب أن نتحدث عن وضعية الفوتوغرافيا المغربية. إنها وضعية مخاض حادة، لكنها حبلى بالتفاؤل والتطلع إلى غد أفضل.



(*) أقمتَ معارض فوتوغرافية جماعية وفردية. ما مدى إقبال الجمهور على هذه المعارض؟ هل يقبل المغاربة على المعارض؟
أرى أن الإقبال على المعارض عمومًا هو سلوك حضاري وثقافي ونمط عيش فكري. شخصيًا، ألمس تعطشًا كبيرًا لدى فئة واسعة من المهتمين بفن الفوتوغرافيا. بل هناك من يتحمل عناء السفر لحضور التظاهرات الفنية الفوتوغرافية التي تنظمها جمعيتنا، غير أن الإقبال اليوم يختلف بشكل كبير عن إقبال الزوار في سنوات الثمانينيات والتسعينيات، حيث يكفي إعلان بسيط على أمواج إذاعة الراديو الوحيدة ليتدفق إلى قاعة العرض جمهور عريض، أنيق، مثقف ومتشوق للجديد الفني الفوتوغرافي، أو التشكيلي. وتتحول معه القاعة إلى ورشات غير معلنة للنقاش والتحليل، والخوض في مفاهيم العرض، احتفاء بالعارض، أو العارضين. لكن اليوم، هنالك إقبال حصري للمتتبعين والمهتمين بالمعارض الفوتوغرافية. وبعيدًا عن ذلك الزخم الكمي الزاخر للزائرين من كل الأطياف الثقافية والفنية.



(*) قمت مؤخرا بتنشيط وتأطير ورشة فوتوغرافية في كلية الآداب في الرباط. هل يمكن أن تحدثنا عن هذه التجربة، ومدى تفاعل الطلبة الجامعيين مع عالم الفوتوغرافيا؟
كانت مبادرة جميلة من طرف القطب الثقافي لكلية الآداب في الرباط. وهي دعوة لتنشيط ورشة فوتوغرافية لفائدة طلبة من سلك الإجازة والماجستير والدكتوراة، وجميعهم مهتمون بالشأن الثقافي والفني في المغرب. لقد كان ضروريًا أن أتناول معهم أساسيات التصوير، كمدخل لقراءة الصورة، وتجلياتها البنيوية والجمالية. لم أكن أتصور أني سأكون في حضرة خيرة طلبة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، نظرًا لقامتهم المعرفية، والتجاوب الكبير الذي لاقيته من طرفهم، وكذلك لسلاسة التواصل معهم، إضافة إلى تعطشهم لاكتشاف تقنيات هذا النمط التعبيري البصري، وملامسة ممارسته عن قرب، حسب الضوابط الكلاسيكية لالتقاط الصورة. هذا اللقاء ولد لدينا جميعًا رغبة في الدفع بهذا الحماس للانتقال إلى مراحل تسمو إلى رقي هؤلاء الطلبة لاقتحام مجال الصورة الفوتوغرافية من بابها الواسع تصويرًا، قراءة، تحليلًا ونقدًا.



(*) كيف ينظر الفوتوغرافي إلى نقد الفوتوغرافيا الفنية؟
في رأيي المتواضع، إن إنتاج رقع بصرية فوتوغرافية، من دون متابعة نقدية معمقة وهادفة، تبقى فقط فوتوغرافيا للاستئناس، تنضاف إلى ألبوم صور الذكريات الخاصة بالفوتوغرافي. كل الأجناس التعبيرية تخضع إلى النقد، والتحليل الأفقي والعمودي، لقراءتها وتفكيك محتواها البنيوي والرمزي والجمالي. الفوتوغرافيا ليست استثناء، بل هي الأجدر بالمتابعة النقدية، والتقييم، للكشف عن مكامن قوتها، وتوضيح نقاط ضعفها، وبالتالي وضعها في السياق الحقيقي لمستواها الفكري والاجتماعي والأيديولوجي. فالمعارض، حائطية، أو رقمية، تُقام لتخضع للتحليل والتقييم قبل الفرجة والمجاملة. وهو شيء أصبح اليوم منعدمًا بشكل تام. والأدهى من ذلك أصبحت المعارض الفردية مجرد نزوة، يكفي التمكن من بعض أزرار الآلة الفوتوغرافية، تليها عملية تجميع رزمة من الرقع البصرية، وضرب موعد مع قاعة عرض، في غياب كلي لمتابعة العارض والمعروض.

إن القاطرة الحتمية لوضع فن الفوتوغرافيا في المغرب فوق سكتها الصحيحة، لترسيخ مفاهيمها، هو نقد الفوتوغرافيا، خاصة مع الصعود الصاروخي للتصوير الرقمي لدى محبي التصوير الفوتوغرافي، وممارسي التصوير الفوتوغرافي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهيمنة النقد السطحي والانطباعي المتسرع.
إذن، الفوتوغرافيا في حاجة ماسة إلى نقاد فوتوغرافيين ذوي كفاءة، بعين ثالثة، وبصيرة متقدة واسعة الخيال، يتقنون فن التأويل والقراءات المتعددة، بارعين في اختراق العمل الفوتوغرافي بموضوعتيهم واتزانهم ومخزونهم المعرفي التاريخي والفكري، الثقافي، الأدبي، الأكاديمي، الفني والمفاهيمي. الأمر ليس بالهين، ولا سيما أن نقد الفوتوغرافيا في المغرب خصوصًا شبه منعدم، ومن يتناولون الفوتوغرافيا، أو الصورة إجمالًا، بالتحليل والمتابعة، يعدون على رؤوس الأصابع، وتدخلهم غالبًا ما يتم بشكل محتشم، أو يقتصر على الاستئناس بجماليات أعمال أصدقائهم بين الفينة والأخرى، ولا يخوضون أي تجربة في اقتحام أعمال "الآخر" تجنبًا لدخول متاهات سوء الفهم في تقييم لوحة ما، أو صورة ما، لفوتوغرافي معين.
في هذا الصدد، كنت مصرًا مؤخرًا على العودة إلى فكرة "قراءة الصور" التي تبنتها جمعية محترف الفن الفوتوغرافي منذ نشأتها، وذلك إثر اللقاء الفني الذي جمعني بطلبة القطب الثقافي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، والتي أجدها لبنة ستنبت في بيئتها الطبيعية، بين أحضان طلبة القطب الثقافي في الكلية، وبمعية جمعيتنا، عبر بحوث ميدانية، لقاءات، موائد مستديرة، عروض فوتوغرافية، ودراسات تشريحية لمخزوننا الفوتوغرافي المغربي. ونتوق لخلق هاته اللبنة الثقافية الفنية الفوتوغرافية، لتكون مطمحًا مشروعًا لكل ناقد فوتوغرافي مستقبلي ينطلق من قلب هذا الصرح الأكاديمي.