Print
دارين حوماني

جودت فخر الدين: بمقدور الشعر التعبير عن أعمق المواقف

12 مايو 2021
حوارات
جودت فخر الدين (1953)، شاعر يتكلّم على طريقة انسياب النهر في الصيف، كالحقيقة الصافية التي قلّما نلتقي بها. شاعر يكتب قصيدة حديثة تمتد جذورها في التراث الشعري، وترتفع فروعُها إلى آفاقٍ جديدةٍ عالية. صدر له مؤخرًا ديوانٌ جديد بعنوان "أكثر من عزلة.. أبعد من رحلة" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021)، فيه أجواء متنوعة، بعضها يتعلق بالعزلة القسرية التي فرضها علينا وباء كورونا. بات للشاعر حتى الآن أحد عشر ديوانًا، تُرجم منها إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية. وله أيضًا كتابان في النقد. يقول فخر الدين في إحدى قصائده الجديدة: "مذ التقطَ الكونُ جرثومةَ الوقتِ/ صار مريضًا/ وليس له من علاجٍ ولا من لقاحٍ/ هما الكونُ والوقتُ طفرةُ هذا الوجود/ ترى هل هما توأمان؟/ ومن أي جرثومة؟/ أأصلهما واحد؟/ وهل الأرضُ إلا اختبارٌ وحقلُ؟/ فما يتراءى لنا عَرَضٌ والجراثيم أصْلُ". نحن أمام تأملات وأسئلة وجودية تقلق صاحب "قصائد خائفة" وتبعث فيه الهواجس والشكوك. قصائد فخرالدين رقيقة، محمّلة بالحب والمياه والشجر.. والأسئلة العميقة. عن ديوانه الجديد وعن قضايا أخرى كان لنا معه هذا الحوار:  



(*) يقول فرانز كافكا: "العزلة هي طريقة لاكتشاف أنفسنا"، وتعنون كتابك: "أكثر من عزلة.. أبعد من رحلة"، هل كانت العزلة التي فرضتها جائحة كورونا رحلة في اكتشاف آخر لأنفسنا وللعالم؟

يسعى الكاتب، إجمالًا، إلى بناء عزلته الخاصة. يسعى إلى عزلةٍ هو يختارها، تتيحُ له أنْ يرى إلى نفسه وإلى العالم بمزيدٍ من الحرية والصفاء. أما الوباء فقد فرض علينا عزلةً قسرية. فرض على كلّ ٍمنا أن يبتكر وسائله في المواجهة من جهة، وفي مفاوضة الوقت في العزلة من جهةٍ ثانية. وفي الحالتين يجدُ المرء نفسه مدعوًّا إلى إعادة النظر في كل شيء، إلى التأمل في كل شيء. ومهما تكنْ الصعوبات والمخاطر، يمكن للمرء _ وخصوصًا الكاتب _ أن يجعل من العزلة في الوباء فسحةً للنظر البعيد والقريب، أن يحوّل الورطة إلى فرصة.


(*) هل غيّرت جائحة كورونا مفهومنا للعزلة، ورؤيتنا إلى الآخرين، وإلى الشارع الذي "عاد له وجهُهُ"، وإلى المقهى الذي اعتدْتَ الجلوسَ فيه ... وإلى غير ذلك؟

نعم، هنالك فرْقٌ كبيرٌ بين عزلةٍ اختياريةٍ وعزلةٍ قسرية. خصوصًا عندما تكون الثانية تجربةً أولى من نوعها. فنحن اليوم نعيش مع وباء كورونا تجربةً لا عهدَ لنا بمثلها. كأن الواحد منا يعمل في هذه التجربة على إعادة تكوين نفسه من جديد. إعادة تكوين علاقاته بالآخَرين، وبالأمكنة، وبكل ما اعتاد عليه سابقًا. هذا ما حصل معي. فالشارع صرتُ أراه مختلفًا عما كان عليه. والبيت نفسه، الذي احتضن عزلتي، رحت أكتشفه، وكأنني لم أكن أعرفه سابقًا. أما المقهى الذي اعتدْتُ الجلوسَ فيه على نحْوٍ شبهِ يوميّ من سنين طويلة، فقد انقطعتُ عنه تمامًا منذ بداية انتشار الوباء. أكثر من ذلك، اخترْتُ أن أترك المدينة (بيروت) لأُمضيَ معظم الوقت في منزلنا الريفيّ في قريتي في لبنان الجنوبي. كلّ هذا، أو مثله، من شأنه أن يضعنا في نوع جديد من العزلة، وربما حيال مفهوم جديد للعزلة.





(*) يقول الشاعر والفيلسوف الأميركي رالف إمرسون: "إن أي مكتبة هي نوع من المغارة السحرية الممتلئة بالموتى. ويمكن لهؤلاء الموتى أن ينبعثوا أحياء، يمكن لهم أن يعودوا إلى الحياة عندما نفتح صفحاتهم"، وتقول في ديوانك: "لم أكن لأواجه مكتبتي كالمهاجر الذي عاد لكي يستعيد صداقاته"، هل نظّم هذا الوباء هواءنا وأنفسنا وأعادنا إلى أصدقائنا الحقيقيين بين رفوف المكتبة؟

 الجملة التي استعنْتِ بها في سؤالكِ، وهي المأخوذة من إحدى القصائد في ديواني الجديد، تشير إلى ما كنتُ عليه قبل الوباء. أما في الوباء، فصرْتُ أواجهُ مكتبتي كالمهاجر عاد لكي يستعيد صداقاتِه ... لقد انتبهتُ إلى أنني راكمتُ الكثير من الكتب، التي لم يتسنَّ لي أن أقرأها كلَّها. وكأنّ العزلة جاءتني بالفرصة لأجدّد علاقتي بمكتبتي. هكذا قرأتُ في السنة التي مرّتْ كتُبًا كنتُ أهملتُها، كتُبًا في الأدب والفلسفة والتاريخ ... إلخ.


(*) يوحي العنوان "أكثر من عزلة، أبعد من رحلة" بأن الشاعر جودت فخر الدين أينما ذهب شعريًا، ينطلق من عشقه الأول للقصيدة الموزونة ومن التفعيلة، هل توافق على ذلك؟

نعم، أنا أكتب القصيدة الموزونة. خياري في كتابة الشعر أن يكون الوزنُ عنصرًا من عناصر هذه الكتابة. ولكنني لست متعصّبًا له. والدليل على ذلك أنني كتبتُ قصيدتين بلا وزن. وهما موجودتان في ديواني السابق "حديقة الستين". كتبتُهما بمحض المصادفة. فأنا خياري هو الوزن كما ذكرت. أما الشعر فليس محصورًا، في نظري، بالكلام المنظوم أو الموزون. ولستُ أرى في السجال بين دعاة الوزن ودعاة النثر إلا سجالًا سطحيًا، لا يرقى إلى مستوى ما قاله أسلافُنا في العصر العباسي بشأن العلاقة بين النظم والنثر.

 

جودت فخر الدين:  الضعف في نقدنا الأدبي ناتج عن افتقارنا إلى فكرٍ نقديّ 



الوباء وتأمل الوجود

(*) سبع قصائد عن وباء كورونا: ترى فيه عدوًا شديدَ الوضوح يجتاحنا صادقًا، وتحاول تفسير وجوده "كيف لا تمرض الأرض... كيف لا تكفر الأرض وهي تراقب أبناءها الجاحدين" وتنتهي إلى القول: "وأما الوجود فجرثومة في العدم". هل نحن أمام الأرض الخراب التي عبّر فيها إليوت عن راهن أوروبا وعن واقعه الشخصي بعد الحرب، وهل نحن نسقط أكثر وأعمق كلما مرّ الزمن؟

التهديد الذي جاء به الوباء، للبشرية كلّها، يجعلنا نذهبُ في تأملاتنا إلى أقصى ما يمكن، إلى التأمل في معنى الوجود، بل في أصل الوجود. يجعلنا نبحث عن الخطأ الذي يوقعنا في الخطر، ونسأل: أهو في الطبيعة أم في البشر؟ وكثيرًا ما يصلُ بنا الأمر إلى اعتبار الفساد متأصلًا في البشر، ولا سبيل إلى أيّ إصلاحٍ أو تهذيب، على غرار ما يقوله المعرّي في هذا البيت "وجِبِلّةُ الناسِ الفسادُ فضلَّ من يسْمو بحكمتِهِ إلى تهذيبِها". هكذا يدفعنا اليأس أحيانًا إلى القول إن البشر هم الذين يجتلبون الوباء. وكلّما حاولوا التصدّي لحلّ مشاكلهم أنتجوا مشاكلَ أكبرَ وأكثرَ تعقيدًا.


(*) تقول في إحدى قصائدك "وحين ننام ننام كما الذئبُ/ يُغْمِضُ عيْنًا ويفتحُ عيْنًا/ لأن المنيّةَ جاهزةٌ  كلَّ حين"، هل تعبّر هنا عن موقفٍ من الزمن ... والموت؟

إنه الحذر. الحذر من كلّ شيء. وفي عباراتي التي ذكرتِها في سؤالكِ إشارةٌ إلى بيتٍ لشاعرٍ قديمٍ هو الآتي: "ينامُ بإحدى مقلتيْه ويتّقي/ بأخرى المنايا فهْو يقظانُ هاجعُ". وهو يتحدّث فيه عن الذئب الذي ينام بإحدى مقلتيْه، حذرًا من المخاطر. نعم، إنه الحذر الذي رافقني دائمًا، ممتزجًا بنوعٍ من التوجّس حيال الوقت، الذي أراقبُ مروره وأعدُّهُ بدقائقه وثوانيه. ربما كان في ذلك شعورٌ استثنائيٌّ حيال الموت، أو فكرة الموت. لا أدري ... غير أني أجدُني معجبًا ببعض الشعراء الذين اهتمّوا كثيرًا بموضوع الموت. أذكر منهم أبا العلاء المعرّي وأبا العتاهية.


(*) تقول في قصيدة أخرى: "عندما يتأتى ليَ الشعرُ أحسدُ نفسي/ ويذهبُ عني احتمالُ المرضْ/ وتحضرني الكائناتُ: لأنصحَها وأميّزَ ما بينها/ وأحدّدَ في طيّها جوهرًا أو عرضْ"، وتقول أيضًا: "عندما يتأتى ليَ الشعرُ/ تصبح نافذتي عشراتِ النوافذ"، تعيدنا كلماتك إلى مارتن هيدغر "الحقيقة بوصفها بقعة الموجود المضاءة تحدث حين تنظم شعرًا.. الشعر حكاية كشف الموجود"، هل نحن أمام تأويل العالم ومحاولة كشفه عن طريق الشعر؟

لطالما وجد الفلاسفة في الشعر من الحقائق ما لم يجدوه في الفلسفة نفسها. لا بل هم ميّزوا - منذ الفلسفة اليونانية وخصوصًا أرسطو - بين الحقيقة الشعرية والحقيقة الفلسفية. ولطالما وجد الفلاسفةُ في الشعر ما يقودهم أو يهديهم في أبحاثهم. وهذا ما عبّر عنه هيدغر نفسه في كلام له عن الشاعر هلدرلن. الشعر يقود إلى الفلسفة على نحوٍ غير مباشر. ولما كانت الفلسفة تقصد إلى تأويل العالم وإلى الكشف عن حقائق الوجود، فإن الشعر يفعل ذلك دون قصد. فتجد الفلسفةُ فيه منهلًا لها.


(*) هل يخاف الشاعر جودت فخر الدين من الصمت... ما مدى الخوف من الفراغ الجوّاني العميق الذي يصحبنا عندما لا يتأتّى لنا الشعر؟ هل مررت بهذه الحالة سابقًا؟

يمكنني القول إنّ أجمل اللحظات التي أعيشها هي تلك التي يتأتى ليَ الشعرُ فيها. ويحدث أحيانًا أن تطولَ بي فترةُ الانقطاع عن الكتابة. ولكنني لا أستطيع أن أحدّد بالضبط كيف تتهيأ لي ظروف الكتابة، وإنْ كنتُ أعمل لكي تتهيأ، بالقراءة، أو التأمل، أو التشاغل... أو النسيان. مهما يكنْ، هنالك في لحظات الكتابة الشعرية ما يخفى ولا نفهم كنهه. في فترة العزلة التي ما زلنا نعيشها من أكثر من سنة، كان لي أنْ أكتب على نحْوٍ أغزر منه في أية فترةٍ سابقة.


 

الشعر مواقف

(*) يقول غونتر غراس: "إذا أردنا تغيير الأشياء علينا أن نفتح فمنا"، نراك في الديوان تمرّ على الثورة وتحاول أن تنأى عن الشارع السياسي، ساعيًا إلى عدم تحميل الشعر قضايا المجتمع والشارع، هل على الشعر أن يكون موقفًا من الحياة؟

نعم. الشعر مواقف. بل هو الذي يعبّرُ عن أقوى المواقف وأعمقها. ولكنْ على نحْوٍ يختلف عما نجده في السياسة أو الفلسفة أو التأريخ ... أو غير ذلك. الشعر يحتضن القضايا الإنسانية على أنواعها. ويجسّدُ - بطبيعته - قِيَمَ التغيير والثورة. ولكنّ الشعر يتنكّر لطبيعته إذا تحوّل إلى مجرَّدِ مروّجٍ لمقولاتٍ أو شعاراتٍ سياسية.


(*) في ديوانك تقول: "لم أكنْ أرضى بشيءٍ/ وشكوكي لم تكنْ أيضًا لترضى/ والرضى يفتح بابيْن لأختار/ فلا أختار ... هكذا لم يبْقَ لي إلا شكوكي". وتقول أيضًا: "هزئتُ بكلّ اتجاهٍ/ وأحببتُ كلَّ الجهاتِ التي تتردّدُ مثلي/ ولم أخترعْ بعدُ مركبةً للنجاةْ/ لم أثقْ بالضفاف ولا بالعباب ...". هل يقترب هذا السجال الداخلي من اللاإنتماء على طريقة أبطال كولن ولسن؟

الشكّ في هذه الأيام يأخذنا كلّ مأخذ. وهو في كلّ حال، وفي كلّ ظرف، بابٌ للمعرفة. أو على الأقلّ هو الرغبةُ في المعرفة. ولا أدري ما علاقة ذلك باللاإنتماء عند كولن ولسن أو أبطاله. ولكنني أدرك العلاقة عندي بين الشك والقلق. فالقلق رافقني على الدوام، وأجّج لديَّ الرغبة في البحث عن المعرفة والمنطق والدقّة. هنالك من يرى أنّ هذه الأمور تتعارض مع التوجّه أو المزاج الشعري. أنا لا أرى تعارضًا في ذلك. وإنما أرى أن الشك والقلق شكّلا أُسُسًا ومنطلقاتٍ لتجاربَ فريدةٍ في تراثنا الشعري. هل أذكر المتنبي والمعري على سبيل المثال؟





(*) هل الشعر وثيقة شخصية؟

 الشعر ليس وثيقة. لا يمكنه - بطبيعته - أن يكون وثيقة. وإنْ كان في تعبيره عن التجارب الشخصية للشعراء أصدقَ حتى من الوثائق. التجارب الشخصية تشكّل مادةً أساسيةً للكتابة الشعرية. ولكنّ الشاعر لا يسجّل ما جرى له كما يحصل في كتابة السِيَر الذاتية. ينهلُ الشاعر من تجاربه الشخصية ليخلقَ منها عوالم زاخرةً بالإيحاءات والصُوَر والرموز. هكذا تُحْسن الكتابةُ الشعريةُ فنَّ الربْط أو الدمْج بين الخاص والعام، بين الذاتي والموضوعي.


(*) كيف تنظر إلى تجارب الجيل الجديد "الشعرية غير الموزونة" التي تنطوي على استسهال في كتابة "الشعر"، هل تصنّف ذلك شعرًا؟ وهل تدعو هؤلاء الشعراء إلى الانطلاق من التراث ومن القصيدة الكلاسيكية قبل أي كتابة شعرية أخرى؟

أطّلعُ على ما يتسنّى لي من إصداراتٍ شعريةٍ لدى الأجيال الجديدة أو الشابّة. وكثيرًا ما تستوقفُني كتاباتٌ تنمُّ عن مواهب حقيقية، وعن إمكانات جديرة بالاهتمام. ولكنني ألاحظ أنّ الكثيرين من الكتّاب الوافدين إلى الساحة الشعرية ينقصُهم الاطلاعُ الكافي على التجارب التي سبقتْهم، ولنقُلْ على تراثهم الشعري. وهذا ما أشرْتِ إليه في سؤالك. ليس بالضرورة أن يكتبوا القصيدة العمودية قبل أن ينتقلوا إلى غيرها. ولكنْ، لا يمكنهم أن يأتوا بالجديد دون استيعابٍ لما تحقّق من إنجازات في حقول الشعر. فلكي يتجاوزوا ما تحقّق، عليهم أن يكونوا على معرفةٍ بذاك الذي يريدون تجاوزه. والعلاقة الوثيقة بالتراث تُمِدُّهم بثقافةٍ ضروريةٍ لهم، في المستويات اللغوية والبلاغية والموسيقية والرؤيوية... وغير ذلك. وهذا كلّه يتطلّب جهدًا ومثابرةً وشغفًا. وقد دعا إلى مثل ذلك الشاعر ت. س. إليوت، أحد روّاد الحداثة الشعرية في القرن العشرين، إذْ قال إنّ الشاعر لكي يكون مجدّدًا عليه أن يستوعب تراث لغته، وهذا بحسب إليوت ليس بالأمر اليسير، وإنما لا يُنالُ إلا بجهدٍ عظيم.



النقد والفكر النقديّ

(*) دعا ت. س. إليوت إلى منهج في النقد الأدبي سمّاه "المنهج الاتباعي"، معتبرًا أن النقد ينبغي أن يكون تابعًا للأدب ويعمل على تقويمه، لا على منافسته... واليوم، إذْ يشكو الجميع عندنا من تقهقر النقد، على من تقع المسؤولية في رأيك؟

نعم، لم يشأْ إليوت للنقد أن يكون أدبًا على الأدب. بل أراد له أن يكتفيَ بتفسير الأدب وتحليله وتقويمه. وهذا النهج الاتباعي هو واحدٌ من مناهج نقدية كثيرة وضعها الغربيون خلال القرن الماضي، وحاولنا نحن العرب أن نأخذ بها أو نفيد منها، فلم نجْنِ إلا المزيد من التخبُّط. أنا من القائلين إنّ الحركة الشعرية العربية الحديثة لم تحْظَ بحركةٍ نقدية فاعلة. بل أكثر من ذلك، شهد النقدُ عندنا من منتصف القرن الماضي إلى الآن انكماشًا أو تقهقرًا كما جاء في سؤالك. لقد وجد النقد نفسه متنازَعًا بين اتجاهيْن: الأول يأخذ بمقولات الحداثة التي ردّدها الشعراء ويعمل على تبنّيها وتضخيمها، والثاني يحاول أن يطبّق على النصوص الشعرية العربية مناهجَ غربيةً قلّما أظهر الآخذون بها استيعابًا مُقْنِعًا لها، وقلّما قدّموا مسوّغاتٍ كافيةً لتطبيقها في دراسة نصوص عربية.

مشكلات النقد الأدبي عندنا، وبالأخص مشكلات نقد الشعر، من يتحمّل مسؤوليتها؟ يمكن القول إن المسؤولية تقع على جميع العاملين في حقل الأدب. هذه هي الإجابة السهلة. أما الإجابة التي من شأنها أن تأتي من تعمّقٍ في النظر إلى أبعاد المشكلات، فتجعلنا نقول إنّ الضعف في نقدنا الأدبي ناتج عن افتقارنا إلى فكرٍ نقديّ. وهذا الأمر له ارتباطُهُ الوثيق بمختلف البنى الاجتماعية والسياسية القائمة. كيف لفكرٍ نقديٍّ أن ينموَ ويزدهر في أوضاعٍ لا تحترم الحريات على أنواعها، بل هي محكومةٌ بالمحظورات أو المحرَّمات على أنواعها.



(*) في عام 2013، أي بعد 34 عامًا على ديوانك الأول "أقصّر عن حبّك" (1979)، صدرَ لك "ثلاثون قصيدة للأطفال" وحزتَ عنه في العام 2014 على جائزة الشيخ زايد للكتاب، ما الذي أخذك صوب الأطفال؟

المصادفة هي التي جعلتني أكتبُ قصائدَ موجّهةً إلى الصغار. بل هما مصادفتان: الأولى عندما عملتُ لبضع سنوات في مركزٍ للأبحاث اللغوية والتربوية في بيروت، وطُلب مني خلالها أن أكتب قصائد للأطفال على البحور القصيرة، وذلك لاستخدامها في كتبٍ للتربية الفنية، أو لتعليم الشعر في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة. أما المصادفة الثانية فكانت عندما طلبتْ مني دار الحدائق في بيروت، وهي دارٌ لنشر الكتب الخاصة بأدب الطفل، أن أكتب قصيدةً في كلّ شهر لمجلة "أحمد" أو لمجلة "توتة" اللتين كانتا تصدران عن الدار نفسها. وهكذا تحصّلَ لي عددٌ لا بأس به من القصائد، اخترْتُ منها ثلاثين قصيدةً، عندما قرّرتْ دار الحدائق أن تطبع الكتاب الذي فاز بجائزة الشيخ زايد. لقد كانت تجربةً جميلةً جدًا، وإنْ كانت في أساسها ناتجةً عن تكْليفيْن. وبعد هذا، فالكتابة للصغار مسؤوليةٌ لا تقلّ عن المسؤولية في الكتابة للكبار، بل تفوقُها.