Print
صدام الزيدي

وحيد أبو الجول: الكاتب مُلزم بالكتابة يوميًا

3 مايو 2021
حوارات

يرى الشاعر والروائي العراقي، وحيد أبو الجول، أن "القيمة الإبداعية للنصوص التي نكتبها" تعتمد على عدة مقومات، ما إن تتوفر، ينتج عنها عمل إبداعي قيِّم، مقللًا، في هذا السياق، من الاعتقاد بأن جوّا مهيئًا للكتابة والإبداع تُوفِّره عزلة الحجر المنزلي، في ظروف كوفيد ـ 19، الوباء الذي داهم العالم، وما زال، منذ أكثر من عام.
صدرت لوحيد أبو الجول، إضافة إلى "غرق طفيف"، وهي مجموعة شعرية أولى، خمس روايات: "منتصف مائل"؛ "نهار يوم أحد"؛ "عنق الغراب"؛ "ثمرة الإله"؛ "أبيض رمادي أسود" (والأخيرة صدرت حديثًا، عن دار أبجد للنشر ـ العراق).
يشدد أبو الجول في هذا الحوار على أن "الكاتب ملزم بأن يستمر في الكتابة كل يوم، حتى لو كانت بضع كلمات، كي لا يجفّ نهر مخيلته"، مشيرًا إلى أن شغفه في سرد التفاصيل الدقيقة، يستهويه كثيرًا.
كما أشار إلى أنه في شتاء 1984 أحرق نصوص البدايات في تنور الطين الخاص بالمنزل، وهو ليس آسفًا على ما فعله، إذ كان يراها نصوصًا غير مقبولة إبداعيًا، ثم أخذته عزلة شبه كاملة، قبل أن تخرج إلى النور روايته الأولى "منتصف مائل" في عام 1986. ويعترف بأنه مدين لفيسبوك بكثير من المودة، إذ يرتاده بشكل يومي، برغم أنه ليس مكانًا للنصوص الجيدة، كما يقول.
عاد أبو الجول إلى الحياة، بعد محاولة انتحار فاشلة في أبريل/ نيسان 1986، ليتجه، بعدها، للقراءة والكتابة، كملاذ أخير، انطلاقًا من "شعور داخلي" بأن: "مساحة الخراب ستتسع، وسيفقد الجمال بريقه، وستحال أغلب الأشياء إلى حجارة، حجارة تتكلم"، على حد تعبيره.

بعض روايات وحيد أبو الجول


يوميات كورونا
(*) لنبدأ الحديث من يوميات كورونا التي طالت ولم تنته بعد؛ كيف تقضي يومياتها؟ 
أقضي يومي الذي يشبه أي يوم آخر، بين القراءة والكتابة والجلوس مع العائلة لوقت غير محدد، وإنجاز بعض المهام البيتية التي يتوجب عليّ القيام بها، بالإضافة إلى متابعة ما ينشره أغلب الأصدقاء على صفحات فيسبوك، وبالتأكيد النوم لبضع ساعات.


(*) الحجر الاحترازي (البقاء في البيت)، هل هو مفيد للكاتب، وينبغي استثماره إبداعيًا، أم أن روح الشاعر (الكاتب عمومًا) تظل دومًا راغبة في التحليق والارتحال، وترفض القيد بكل أشكاله؟ 
على الكاتب أن يستمر في الكتابة كل يوم، حتى لو كانت بضع كلمات، كي لا يجفّ نهر مخيلته. أما الكتابة الإبداعية فلا أظن بأن الظروف المحيطة بالكاتب، ومنها الحظر الاحترازي (البقاء في البيت)، على سبيل المثال، لها صلة بهذا الشيء، لأن القيمة الإبداعية تعتمد على مقومات أخرى ما إن توفرت، نتج عنها عمل إبداعي قيِّم.


(*) المشهد الثقافي العراقي، الآن، ما هي أحواله؟ 
لستُ مطلعًا على كل النتاجات، وكذلك لستُ متخصصًا في النقد الأدبي، إلا أنني كقارئ يقع بين يدي الجيد من وقت لآخر، وهو قليل، ويقع، أيضًا، ما هو دون المستوى، لكن ثمة تجارب شعرية وروائية وقصصية لها حضور جيد في الوسط الأدبي العراقي.


شغف "التفاصيل الدقيقة"
(*) ما أسباب حظوة الرواية لديك (صدرت لك خمس روايات حتى الآن، مقابل مجموعة شعرية واحدة)؟ نعرف أنك بدأت مع الرواية، ومع ذلك، أنت تكتب قصيدة النثر، بتمكن. 
كتبت النص الروائي بعد كتابتي للنص الشعري بفترة طويلة، وما زلت أكتبه إلى الآن. لكن كتابة الرواية كان الهاجس الذي يدبّ داخل رأسي قبل أن أكتب النص الشعري وأثناء كتابته. إنها تستهويني كثيرًا، وشغفي هو في سرد التفاصيل الدقيقة التي لا يمكن تناولها في النص الشعري، الذي من أهم ميزاته التكثيف، وهذا ما جعلني أنغمس في كتابة النص الروائي، ولأسباب أخرى فكرية وجمالية.


(*) كيف تتابع منجز قصيدة النثر العراقية، والعربية، الآن؟ 
بصراحة، لا يمكن أن أقيِّم ما يُكتب الآن من نصوص نثرية بموضوعية معرفية، لأنني لم أطلع على نتاج الجميع، ولستُ متخصصًا في النقد. ولكن، من خلال قراءتي المتواضعة أقول بأن قصيدة النثر لها ضوابط جمالية معينة، وليس مجرد رصف كلمات.


الإبداع ووسائط الاتصال
(*) وسائط الاتصال، ما إيجابياتها، من واقع تجربتك الشخصية ومثاقفاتك، على هذه المنصات؟
من إيجابيات وسائل التواصل الاجتماعي أنها أتاحت للجميع مساحة لحرية التعبير، المساحة التي كنا نفتقدها نحن العرب بالتحديد، بغض النظر عن شكل التواجد وتجانسه داخل هذه المساحة.


(*) وما سلبياتها، في رأيك؟ ثمة حالة من النشر بلا ضوابط، نقرأ النص الجميل والراقي والهادف، وفي المقابل: نقرأ نصوصًا ركيكة ومشلولة ومبعثرة...
بخصوص السلبيات من ناحية ما نحن في صدده، وهو الكتابة (النص الشعري): في الحقيقة، الشعر الجيد لا يُقرأ هنا على هذه المنصات، وإن وجد، فهو قليل جدًا، وهذا القليل هو أشبه برجل غريب في بلد لا يفقه لغة أهلها.


"منتصف مائل"..
(*) عشت معتزلًا الناس لسنوات، خرجت منها بفكرة كتابة أول عمل روائي قصير بعنوان "منتصف مائل" لم يكن من نصيب النار (بعد أن أحرقت نتاج البدايات الأولى في تنور الطين المنزلي)، بل طبع في كتاب.. ما الذي تتذكره من أجواء تلك العزلة، وماذا كان يقول لك حدسك بشأن المستقبل القريب والبعيد؟ 
نعم، لقد اعتزلت الجميع لسنوات طويلة. اخترت عزلتي عن الناس، وأغلب مظاهر الحياة، لأسباب روحية. أغلقت على نفسي كثيرًا من المنافذ، التي كانت تصلني بالعالم الخارجي، لكي أدرك ماهية الوجود ومعرفة من أكون، من خلال معرفة الله، وهذا الكون المرئي واللامرئي أيضًا. أحببت تلك العزلة التي اخترتها لنفسي، والتي هدأت شيئًا فشيئًا واطمأنّت لسير خطواتي، صوب الغاية التي نتج عنها كتابة أول عمل، وهو رواية قصيرة: "منتصف مائل"، التي طبعتها بعد تشجيع من صديقة متخصصة في النقد الأدبي تعرفت عليها من خلال صفحات فيسبوك. لديّ شعور يقول بأن مساحة الخراب ستتسع، وسيفقد الجمال بريقه، وستحال أغلب الأشياء إلى حجارة، حجارة تتكلم.


(*) بعد روايتك الأولى "منتصف مائل"، كنت خارجًا، لتوك، من عزلة شبه كاملة، لتنغمس في القراءة والكتابة. هذا الانغماس نتج عنه صدور مجموعة نصوص بعنوان "غرق طفيف"، ثم، تواترت أربع روايات "نهار يوم أحد"؛ "عنق الغراب"؛ "ثمرة الإله"؛ "أبيض رمادي أسود" (والأخيرة هي أحدث ما صدر لك في الرواية). كيف تقرأ الروايات الخمس، منذ الأولى حتى الأخيرة، من زاوية شخصية؟ ما الذي استجدّ في الأسلوب والمضمون؟
ثمة اختلاف ملحوظ على ما أظن بين أول عمل روائي كتبته: رواية "منتصف مائل"، وآخر عمل: رواية "أبيض رمادي أسود". وهذا الاختلاف الإيجابي جاء من خلال الاستفادة من نصائح الأصدقاء والقراء الذين ألتقي بهم صدفةً في الشارع، أو المقهى الذي أرتاده، وكذلك آراء بعض الكتاب والنقاد المتخصصين.



أغلب شخصيات الروايات التي كتبتها لا وجود عينيًا لها في الواقع، إنما هي أسماء لشخوص يدفعون بعربة الأحداث والوصول بها إلى النهاية، تحت ضوابط معينة.


(*) هل يمكننا أن نقول عن رواياتك المنجزة حتى الآن إنها روايات "الذات الإنسانية"، إذ هي محور أساس في رواياتك؟ 
نعم، الذات الإنسانية هي محور أعمالي الروائية المنجزة، بالرغم من أنني أهتم كثيرًا بتفاصيل الأشياء التي تحيط بالشخوص إلى أبعد نقطة قرب السراب. المدينة التي أعيش فيها هي مكان أغلب الأحداث، التي تعكس صورة الظلم والجوع، وتناقضات الحياة، ومرارة العيش تحت سوط الحكومات. كذلك الضياع الناتج من تعاقب الحروب.


(*) فشلت في نيل شهادة تخرج من معهد المعلمين، وبالتالي انتهت علاقتك بالدراسة في أغسطس/آب، 1987. بعدها، التحقت بالخدمة العسكرية.. ماذا كانت عقدتك مع الدراسة تحديدًا؟ 
أنا متمرد على المنهج، النظام الدراسي. هذا الأمر جعلني لا أدخل قاعة الدرس، وإن دخلت، فيكون تحت التهديد بالفصل. لم أكن أصغي لما يقوله الأستاذ، أو أهتم لصفحات الكتب المقررة، أيام الدراسة في معهد المعلمين، وسنوات الدراسة الإعدادية.


(*) توقفت عن الكتابة لسنوات (في ظروف الحرب العراقية- الإيرانية). كيف عشت هذه الفترة الفاصلة، وصولًا إلى خروج أول رواية لك إلى النور؟ 
لم تكن الحرب هي سبب توقفي عن الكتابة، بل إحساس هيمن عليّ، في ذلك الوقت، بأنني لن أكون كاتبًا في يوم ما، وأن الكتابة مجرد حلم سكن رأسي كبقية الأحلام الأخرى، التي لا يمكن أن تتحقق، لذا تركت همّ الكتابة على جنب، وانشغلت، بعد تسريحي من الجيش، بأمور المعيشة، لكي أوفر للعائلة لقمة العيش، بعد أن تعذّر على أبي العمل، بسبب مرضه الشديد.



اشتغلت عاملًا في كراج لغسل السيارات لفترة طويلة، ومن ثم في محل للنجارة، وبقيت على هذه الحال سنوات طويلة. وكلما مضى الوقت، قلّ تواصلي مع الآخرين، وبضمنهم الأقارب والأصدقاء، حتى الذين كانوا مقرّبين مني. وبعد إنشاء حساب على فيسبوك، في عام 2013، كانت هذه هي المحاولة الأولى، في النظر إلى العالم، عبر ثقب أزرق افتراضيّ. كتبت بعض المقاطع النثرية القصيرة على يومياتي، وكانت هذه الخطوة الأولى بالعودة إلى الكتابة، لكنها كانت خطوة غير جادة في بادئ الأمر. وفي ساعة خارجة عن الشعور انهمرت، لساعتين، في كتابة قصة طويلة من دون تخطيط مسبق، تركت اللاوعي يتدفق على الورق، وكان ذاك الجزء الأول من رواية "منتصف مائل". وبعد مراجعة ما كتبته وتشذيب أطرافه، كتبت الجزء الثاني، ثم الثالث، بجديّة لم أعهدها لديّ من قبل، والذي حفزني على الاستمرار بإتمام الرواية هو تشجيع صديقة لي.


"غيمة فوق رأس اللغة"..
(*) لنعد إلى البدايات: في شتاء عام 1984، كل نتاجك من الكتابة كان من نصيب النار (رميته في تنور الطين، بلا أسف) حدثنا عن النصوص المحروقة/ تلك التباشير الموؤدة؟
 أتذكر جيدًا ذلك اللهب الذي كان يأكل ما أكتب. نعم، أتذكره جيدًا، وأتذكر الصوت الذي يصدر من ذلك الاحتراق، لكنني للأسف لا أتذكر ما كنت أدونه على الورق، لا أتذكر كم غيمة كانت فوق رأس اللغة في ذاك الوقت، وكم عمق البحار التي كنت أغرق فيها.


(*) في نهاية شهر أبريل/ نيسان، 1986، قمت بمحاولة انتحار فاشلة، ما الذي دفعك لذلك، وكيف نجوت؟
في عام 1986، تفاقمت مشاكلي النفسية، وكبرت أمامي، الأمر الذي جعلني أذهب لمراجعة طبيب متخصص بالأمراض النفسية، والمداومة على علاج، يقلل من حدة حالة الاكتئاب، الذي عانيت منه، ولكن، لم يجد معي أي نفع، وصارت الحياة أمامي أشبه بكابوس، لا يمكن الخروج منه إلا بالموت. وفي مساء يوم إثنين من نهاية شهر نيسان في العام ذاته، ألقيت بجسدي من سطح مبنى الأقسام الداخلية، الذي يبلغ علوّه أكثر من عشرة أمتار، على ما أظن. نجوت من تلك المحاولة، نعم، لكن الشعور بأنني أعيش داخل كابوس ما زال يلازمني.