Print
عزيز العرباوي

صلاح بوسريف: الشاعر المُعاصِـر مُلزم بالتحرُّك بكل أراضي المعرفة

7 يونيو 2021
حوارات
صلاح بوسريف، شاعر وكاتب مغربي، من مواليد مدينة الدار البيضاء 1958، درس التاريخ القديم في كلية الآداب، جامعة بغداد. حاصل على شهادة الدكتوراة في الأدب العربي في موضوع "حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر" في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز في فاس. عضو مؤسس لبيت الشعر في المغرب، ورئيس تحرير سابق لمجلة "البيت". عضو الهيئة العالمية للشعر. عضو سابق فيهيئة تحرير مجلة "الشعراء" الفلسطينية. رئيس سابق لفرع الدار البيضاء لاتحاد كتاب المغرب. مسؤول الملحق الثقافي في جريدة "المساء" المغربية. كاتب رأي في عدد من الجرائد والمواقع الإلكترونية المغربية والعربية. مدير مسؤول لمجلة "الثقافة المغربية"، التي تصدر عن وزارة الثقافة. حاصل على جائزة المغرب للكتاب في الشعر 2017. من أعماله الشعرية: "فاكهة الليل"، و"على إثر سماء"، و"شجر النوم"، و"نتوءات زرقاء"، و"شهوات العاشق"، و"آخر الموتى"، و"حامل المرآة"، و"شرفة يتيمة" في ثلاثة أجزاء (ج1 خبز العائلة ــ ج2 حجر الفلاسفة ــ ج3 لا يقين في الغابة)، و"إبر عمياء لا تخيط إلا الريح"، و"يليه معراج الشراب"، و"بلد لا أين له" (مختارات شعرية)، و"رفات جلجامش" (كشـ ـ بلـ ـ كا ـ مش)، و"الرجل الذي سينبت شجرة جديدة"، و"ياااا هذا تكلم لأراك". إضافة إلى أعمال نقدية وفكرية أخرى، منها: "بين الحداثة والتقليد"، و"رهانات الحداثة"، و"أفق لأشكال محتملة"، و"فخاخ المعنى"، و"المغايرة والاختلاف في الشعر المغربي المعاصر"، و"مضايق الشعر: مقدمات لما بعد القصيدة"، و"الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر"، و"نداء الشعر"، و"حداثة الكتابة في الشعر المغربي المعاصر"، و"الشعر وأفق الكتابة"، و"قلق الحافة"، و"حوارات في الشعر والمعرفة"، و"المثقف المغربي بين رهان السلطة ورهانات المعرفة"، و"الإسلام المتشظي"، و"آلهة تنوب عن الله".
هنا حوار معه:




(*) كيف يفضل الشاعر والناقد صلاح بوسريف أن يقدّم نفسه للقراء؟

يبدو أن ما قُلتَه في السؤال يكفي، فهو كل ما يمكن أن أقدم به نفسي، لأنني خارج الشِّـعر والكتابة، قد أكون بلا معنى، وبلا جدوى في الحياة. فصفة الشَّـاعر هي تسمية، بالمعنى الهايدغري، والتسمية، هي تأكيد للوجود بما نتَسَمَّى به. إذا أزلْـتَ عني هذه التسمية، ستجد نفسَك غير مُلْزَم بإجراء هذا الحوار معي، لأنني سأكون مثل كل الناس الذين تُقابِلُهم في حياتك اليومية، أو "السُّوقَة" كما سماهم الجاحظ.



(*) تكتب الشعر والنقد والمقال الصحافي والثقافي، إضافة إلى كونك المدير المسؤول عن مجلة "الثقافة المغربية". كيف توفق بين مهمتك الصحافية، وبين الكتابة والإبداع؟
عَطْفًا على ما سبق، فالشَّـاعر اليوم، وأعني الشَّـاعر الحديث، أو المُعاصِـر، تحديدًا، أصبح مُلْـزَمًا بالتَّحرُّك في كل أراضي المعرفة. الشِّـعْر وحدهُ، لا يُتِـيحُ المعرفةَ بالشِّـعر، ثم إن الشّـعر، اليوم، في سياق ما أَعدُّه كِـتَابةً، أو عملًا شعريًا، هو انتقال بين معارف شتَّى، وهو انفتاح على كل أجناس وأنواع الكتابات الإبداعية، قديمها وحديثها. وهذا يجعل الشاعر، مثلما يخوض في أسئلة الشِّـعر، ويعمل على التأسيس لمشروعه الشِّـعري الخاص، بقدر ما يعمل على وعي الشُّـروط الاجتماعية والسياسية التي تُحيط به، وما يجري في الواقع من مُتغيِّرات، لأن رؤيته، إذا ما كانت خارج هذا الوعي، ستكون مُضَـبَّبَة، يَشُوبُها كثير من الالتباس والتَّشَوُّش. فالشُّـعراء الذين نقرأهم اليوم باهتمام، واستطاعوا أن يستمروا معنا في وجودنا، هم من خاضوا الشِّـعر بهذا المعنى المعرفي الشامل، لا بمعنى الشَّـاعر المُنْزَوِي في الشِّـعر. ولا تنس أن اللغة حين نحبسها في الشِّـعر وحده، تتقلَّـص وتنكمش، لا تتوسَّع في صورها وتراكيبها، وفي علاقات الدوال بالمداليل، التي نتخطَّى بها ما هو سائد ومألوف في علاقة الإنسان باللغة، من جهة، وفي ترويض الخيال على المُخاطَرَة والمُغامرة.




هذا ما يجعلني منفتحًا على السياسة، كمثقف، لا كسياسي، وعلى الإعلام، أو ما تعتبره عملًا صحافيًا، وعلى كل ما له علاقة بالمجتمع، وبالحياة العامة، وبالكتابة التي هي تمرين دائم على اللغة، وهذا كله يتمُّ، دائمًا، في سياق سوسيوثقافي، وحتى أنثروبولوجي. الشاعر الذي يكون خارج المجتمع، هو، حتمًا، خارج اللغة، وخارج الشِّـعر والخيال، لأن اللغة خصوصًا، تحيا بوضعها في ماء الحياة التي نحياها، لكن، بلغة الشِّعر، لا بلغة التداول العام للكلام، أو الكلام المطروح في الطريق.



(*) من أعمالك الشعرية: فاكهة الليل (1994)، على إثر سماء (1997)، شجر النوم (2000)، نتوءات زرقاء (2002)، حامل المرأة (2006)، شهوات العاشق (2006) وغيرها. ما هو أفضل أعمالك بينهاا؟ وكيف تقيّم الشعر العربي اليوم؟
هذه مهمة الناقد، ومن يكون خارج هذه الأعمال. أما الشَّـاعر، فهو، دائمًا، ينظر إلى ما كتبه بنوع من الطمأنينة النسبية، رغم أنَّ هنالك درجة من الارتياب تبقى قائمة، عنده، نحو ما يكتبه. فلو اقتنَعْتُ أن هذه الأعمال وغيرها جيدة، مثل "شرفة يتيمة"، وهي ثلاثية، و"حامل المرآة"، و"رفات جلجامش…"، و"ياااا هذا تكلم لأراك"، وهي أعمال ذات طابع ملحمي، وتنتمي إلى ما أعتبره كتابة، أو أعمالًا شعرية، ما كنتُ لأستمر في الكتابة والنشر. فنحن نكتب لأننا نكون في وضع ارتياب، وأن ما أردنا قوله لم نقله بعد، وكأن ما نكتبه هو كتاب واحد، نُوَزِّعُه على فصول ومراحل، أو نجعله مثل الجرعات.




لعل تأخُّـرِي، زمنيًا، في نشر عملي الشِّـعري الأول "فاكهة الليل" كان أحد أسباب تفادي نشر كثير مما كنت كتبتُه من نصوص لا تستحق أن تكون ضمن هذه الأعمال، لأنها كانت نوعًا من التمرُّن على كتابة الشِّـعر وفهمه، أو الدخول في أسراره. قد أعدُّ كل عمل هو طريق نحو الآخر، فهناك نوع من الصيرورة في التجربة الشعرية، كما انتبه إلى ذلك عدد من النقاد والباحثين، وما وصلتْ إليه في نصِّها الملحمي المُركَّـب، هو تعبير عن هذه الصيرورة، التي يمكن، تجاوزًا، أن نسميها تطوُّرًا. إذن، من الصعب علي أن أعد هذا العمل، من دون ذاك، هو الأقرب إلى نفسي من الآخر، لأنني سأكون مثل من يُقَـطِّع أوصاله، لِيُسَمِّي نفسَه بأحدها، من دون غيره.
أما الشِّـعر العربي اليوم، فهو شعر لم يخرج، في عمومه من "القصيدة"، أعني من قديم الشِّـعر ومن ماضيه، أي من الغنائية والإنشادية، التي جاءتنا من شعر الماضين، وكأننا لم نكتب، ولم نتأثر بالكتابة، التي هي أكبر ثورة قام بها العقل البشري، على الإطلاق، وبقينا نائمين في عسل ماضٍ، اعتبرناه هو كل الشِّـعر، أو مصدر الشِّـعرية، وهذا خلل في رؤيتنا للشِّـعر، بما في ذلك شعر الحداثة عند أدونيس نفسه، الذي بقي إنشاديًا، رغم ما فعله في "الكتاب.. أمس المكان الآن" من توزيعات خطية على الصفحة، وحاول أن يجعل من الصفحة دالًا كتابيًا. النص في ذاته، بقي شفاهيًا، إنشاديًا في بنائه، وفي لغته، وفي جوهره الشِّـعري، وهذا ما لم يتخلص منه أدونيس، وغيره من الشُّـعراء الذين ينتمون إلى جيل من الشُّـعراء تخدروا من "القصيدة"، ولم يتخلَّصوا من هذا المفهوم، حتى وهم يتحدثون عن "الكتابة"، وهذه مفارقة تفضح أعطاب الحداثة في وعينا الشِّعري المعاصر، ويجعلها مرتبطة بالتقليد، أو الاتِّباع.




قليلة هي التجارب التي وَعَتْ هذا الشرط، شرط الكتابة، وتَخلَّـصت من هيمنة الشفاهة، وأتاحت لدوال الشِّـعر أن تتوسع، وهو ما أربك علاقة الشِّـعر بالقارئ، وجعل الشِّـعر اليوم، يكون في شبه عزلة، لأنه يتشكَّل وفق وعي جمالي جديد ومغاير. هذه وضعية الانتقال في كل أشكال التعبير الإبداعي، الانقلاب فيها يحتاج إلى تشكل وعي جديد يُدرِك ما يجري في هذا الشِّـعر المُغاير والمختلف.



عن الشعر وحاجتنا إليه
(*) الشعر العربي اليوم يعيش أسوأ حالاته، حسب ما تُشيرون إليه، وحسب العديد من وجهات النظر؟ كيف تنظر إلى وضعه هذا من زاوية الشاعر والناقد؟ وهل يمكننا القول إن الشعر قد أرجع هيبته بعد ما يسمى بالربيع العربي؟
لا أرى أي علاقة بين الشِّـعر، وما تُسمِّيه بـ"الربيع العربي". فأنت تضع الشِّـعر في سياق لا يليق به، لأن الشِّـعر هو دائمًا أفق للتغيير الجمالي، وللتأثير في روح وعقل وخيال ووجدان الإنسان، فهو يُعيد خلق الوجود من منظور جمالي مغاير، وبالتالي، فهو يُعيد خلق الإنسان الذي يتمرد على نفسه وذاته، قبل أن يتمرَّد على الواقع، لأن التمرد على النفس، هو تمرُّد على الواقع. ولعل الآية كانت سابقة لوعي هذا "[لا يُغيِّر الله ما بقوم، حتَّى يُغَيِّروا ما بأنفسهم]".
من يقرأ الشِّـعر العربي في عمومه، سيجد أنه كان دائما أُفُـقًا للتغيير، ليس بالمعنى السياسي، أو الأيديولوجي، لأن الشِّـعر هو طريق، والطُّرُق لا نفتحها إلا لتأخذنا إلى المجهول الذي نرغب في بلوغه واكتشافه، وهذا هو الشِّـعر، لا معلوم فيه، فهو يقودنا إلى الخطر والهاوية، لذلك الناس يهربون منه، لأنه يُـنْهِكُـهُم. انظر إلى "ملحمة جلجامش"، و"الإلياذة"، و"الأوديسا"، و"الإنياذة"، وغيرها، فهي أعمال تأخذك إلى مجهول الوجود، وتترك المعلوم لمن يعيش الزمن الميقاتي، الذي نحسبه بالثواني والساعات والأيام والليالي. الشِّـعر مُنافٍ للتاريخ، كما يقول أوكتافيو باث، وفي هذا التنافي تتأسس رؤيته للكون والوجود، وحتَّى العدم.




كيف تريد من شعر يُكْـتَبُ بهذا الوعي أن يصل إليه الجميع، فالناس يبحثون عن المُتاح والمفهوم، وما يعطيهم نفسه دُفْـعَـة واحدة، الرواية التي تُكْـتَب اليوم هي رواية غير خالدة، ولا يمكنها أن تكون كلاسيكية، لأنها رواية زمنها ينتهي بمجرد الانتهاء من قراءتها، فهي رواية تنساق وراء العصر، وإيقاع العصر أخَذَها الإعلام، لذلك انتشرت أكثر من الشعر، لأنها سايرت القارئ، والشِّـعر يسير بعكس القارئ، لأنه يرغب في أن يكون القارئ خلاَّقًا بدوره، مثل الشاعر. وهذا هو ما جرَّ على الشِّـعر ما يعرفه من انحسار وتهميش.



(*) هل نحن حقيقة في حاجة إلى الشعر؟ أم أن الشعر أصبح اليوم ترفًا ثقافيًا وأدبيًا لا قيمة له؟
الحاجة إلى الشِّـعر هي نفسُها الحاجة إلى الوجود. كثيرون يعتبرون الشِّـعْرَ هو "الكلام الموزون المقفى الذي يدل على معنى"، أو هو الكلام الجميل الذي فيه موسيقى ونغم، أو يربطون الشِّـعر بموضوعات مُحَدَّدة تدخل في سياق الأغراض الشِّـعرية التي ارتبطتْ بـ"القصيدة"، وهذا فهم مغلوط، وفهم مدرسي سطحي وقاصر عن التَّغَـلْـغُل في المعنى الحقيقي للشِّـعر. الشِّـعر هو تعبير بشري عن وجود الإنسان في الأرض، هو تعبير عن المصير الذي اختاره الإنسان، في انفصال عن الآلهة، أي عن الوجود تحت رحمة القدر، وهذا ما نجد "ملحمة جلجامش" تُعبِّر عنه بمعنى فلسفي، حتَّى قبل ظهور الفكر الفلسفي، على الإنسان أن يواجه نفسه بنفسه، والقدر هو قدر بشري، في الشِّـعر، مرتبط بعلاقة الإنسان بالأرض، وشكل الإقامة الذي اختاره عليها. من لا يحتاج الشِّعر، فهو يُقِيم في غير وجوده، أو يُقِيم في عتمة العدم.
بهذا المعنى، لن يكون الشِّـعر تَرَفًا، فهو يكون ترفًا، حين يكون مجرد لغةٍ، الكلمات فيها بعضها يستدعي بعضًا، بمعنى الانكتاب الذي لا يد فيه للشاعر، وهذا هو المعنى الذي لا أتفق فيه مع هايدغر، ولا مع القديمين من الشاعريين العرب، في مفهومهم لـ"شيطان الشِّـعر"، وكأن الشاعر يتلقى وحيًا بالمعنى الدنيوي المدنس، عكس النبي الذي يتلقاه بالمعنى الغيبي المقدس، أي بمعنى الرسالة.




علينا أن نَحْذَر مما نعنيه بالشِّـعر، والمفهوم الذي نعطيه له. من حق كل واحد أن يكتب، ويُسَـمِّي ما يكتبه شعرًا، وهذا ما يحدث اليوم، في وسائل التواصل الاجتماعية، لكن، الشِّعر يبقى أعز ما يُطْلَب، في نهاية المَطَبّ.



(*) هل تعيش القصيدة المغربية اليوم أفضل أيامها؟ أم أنها في أزمة؟ أم أنها تعيش نقلة ثقافية وفكرية تحتاج إلى الجرأة في التعبير والتفكير؟ وأين تقع القصيدة المغربية اليوم بالنسبة للشعر العربي عمومًا؟
المُفاضلة في الشِّـعر تُفْسِـد النظر إلى الشِّـعر، ويُفْسِـد علاقتنا بالشِّـعر، أيضًا، وهذا نَـقْـدٌ به بدأت الثقافة العربية قراءتها للشِّـعر. ويمكن، هنا، أن أُحيل على ابن قتيبة ، وابن سلام، وعلى شعر الطبقات، عمومًا. الشعر المغربي، وأنا هنا أتحدث عن شعر الشُّـعراء الذين نقلوا جمالية النص من مستوى اللغة في ذاتها، إلى مستوى اللغة، وهي تتخلَّق، وتُعيد صياغة المعاني وفق رؤيا شعرية مركبة. النص الذي أعنيه هو النص الكتابي، العمل الشعري، والذين يكتبونه قليلون. أغلب هذا الشِّـعر هو شعر إنشادي غنائي، استعادي، يُعيد ماضي القصيدة، ولا يذهب إلى أفق الشِّعر في مستقبله، و ما يكتنفه من مجهول.
الشِّـعر المغربي لم يعُد بهذا المعنى المحلي الوطني، أُفُـقُـه، في التجارب الجديرة بمعنى الشِّـعر. هو أفقٌ كوني إنساني لا يرتبط بمكان أو زمان محددين، فقد حَـدثَـتْ فيه انقطاعات مهمة، في سياق الصيرورة التي أشرتُ إليها سابقًا. وهذا ما لم ينتبه إليه النقد بعد. وعلى ذكر النقد، فالشِّـعر متقدم عليه، وما يجري في الجامعة من مناهج ومفاهيم لا تصلح لمقاربة الشِّـعر في تَصَيُّرِه، وفي انقطاعاته، لأن الجامعة والنقد، عمومًا، محافظ، يكتفي بالمُكتَسَب، ولا يقبل بالاختراقات التي يعتبرها إفسادًا للشِّعر.
التجارب التي أتحدَّثُ عنها، هنا، عند بعض الشُّـعراء المغاربة القلائل، لا علاقة لها بـ"القصيدة"، لأن القصيدة هي ماضٍ، وبنية شفاهية، لا تمت للكتابة بصلة، وهذا هو مطب الحداثة الحقيقي. نستعمل أشكال ومفاهيم، نحن ننتقدها، ونعتبرها انتهت، خُـذ مثال تسمية "قصيدة النثر". تأمل التسمية يكفي لتكتشف المفارقة العجيبة في ثقافتنا الشّعرية، وفي فهمنا للحداثة، وكيف أننا لا نملك الجرأة في اقتراح مفاهيم وتسميات جديدة تليق بما نكتبه.



وسائل التواصل الاجتماعي
ليست معيارًا لقراءة الشِّـعر أو الحكم عليه



(*) ما تقييمك لما ينشر اليوم من شعر عبر المواقع الإلكترونية، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي؟ وما موقفك من تلك الآراء (النقدية) التي يتبادلها النقاد والقراء مع الشعراء والمبدعين من خلال هذه الوسائط؟

وسائل التواصل الاجتماعي ليست معيارًا لقراءة الشِّـعر، أو الحكم عليه. فهي صفحات خاصة يفتحها كل شخص بحرية، وينشر فيها ما يُرِيد بحرية، ولا شيء يُقَـيِّد نشره لِمـا يُرِيد، مِنْ ما يمكن أن يُسَـمِّـيه شعرًا. فالشخص نفسه هو الكاتب، وهو المُحرِّر، وهو الناشر، بمعنى أنه هو سلطة مُطْلَـقَـة في اتِّخاذ القرار، من دون أن يكون لغيره رأي في الموضوع. وهذا، في ذاته، يكفي ليجعل هذه الصفحات غير ذات قيمة في النظر إلى الإبداع، باستثناء من ينشرون فيها ما هو منشور ورقيًا. لذلك، فأنا لا أهتم بما يُنْشَـر في هذه الصفحات، ولا أعده وسيلة للاكتشاف والمعرفة، لأنني، حين أريد اكتشاف تجربة ما أعود إلى الأعمال المنشورة، وأبقى على اتصال بهذه الأعمال خلال زمن معين لأعرف ما يجري في علاقة هذا الشخص بالشِّـعر، وما يمكن أن يقترحه علينا من تصورات وأفكار، وكيف ينظر إلى الشِّعر ويتعامل معه، ومن أي منظور.




أما النقد، في هذه الوسائل، فهو كلام عام فضفاض، مليء بالمُجاملات. وهو، في أصله، ليس نقدًا، ولا تتوافر فيه شروط الكتابة النقدية، ولا المعرفة بالشِّـعر أساسًا. وإذا كان النقد نوعًا من البناء، فالنقد هنا هدم، لأنه ترسيخ للانحلال الفكري، بما يعنيه الانحلال من تحريف لقيم الكتابة والإبداع، ولما يتطلبه النقد من معرفة وثقافة وخبرة، ومن موضوعية وتَجرُّد وحياد.



(*) يكتب الشاعر صلاح بوسريف بغزارة عن الواقع الثقافي المغربي خاصة، والعربي عامة. هل هذا راجع إلى موقف معين؟ أم أن الواقع العربي عمومًا يتطلب من المثقف والمبدع أن يقرأه بطريقة مختلفة تعيد الاعتبار للفكر والإبداع؟
كما أشَـرْتُ من قبل، الشَّـاعر، اليوم، بات مُنْخَـرِطًا في المعرفة، وهو مثقف، ودور المثقف هو أن يكون موجودًا في الواقع، يُنْصِـت، يتأمَّل، يُتابِع، ويقرأ، ويُحلِّل، ويُناقِـش، لأنَّ هذا الانخراط في الواقع هو تعبير عن معنى الدور الحقيقي والفعلي للمثقف العضوي، بالمعنى الغرامشي، ليس مَنْ ينتمي بالضرورة إلى الحزب، لأن الأحزاب، اليوم، تُعاني من مشاكل في فكرها ونظرها، وفي ما كانت تدافع عنه من أفكار، وهي خارج المجتمع، ولم تعد قادرة على فهم ما يجري حولها، لأنها اكتفت بأدوات التحليل والقراءة نفسها، وهذا جعل نظَّاراتِـها مُضَـبَّبَة، ولا تتجاوز حدود أنفها. المثقف، في ظل هذا التردي السياسي، هو من ما زال قادرًا على البقاء في الواجهة، بالكتابة، والمُساءلة والنقد، وتحليل أو تفكيك الظواهر التي تجري من حوله، لكن من منظور المثقف لا السياسي، لأن السياسي أخفق، وهو غير قادر على بلورة فهم واضح للواقع. في هذا الذي أكتبه، في باب الرأي، وما يكتبه بعض الشعراء والكتاب، وهم قليلون، مع الأسف، هو نوع من إعادة الكلمة للمثقف، الذي كُـنَّا دائمًا، نرفض الاستماع إليه، أمام مُكبّرات الصَّوْت، كما يُسَمِّيها بورديو، التي حَجَبَت الفكر والإبداع، وابْتذَلَـتْ السياسة نفسها. هذه هي النافذة التي منها أطل على وجودي اليومي، من دون أن أستبدل نظَّارة المثقف، بنظارة السياسي.



(*) هل يمكن أستاذ بوسريف، كشاعر أولًا، وناقد ثانيًا، أن تقول لنا إلى أي حد أصبح النقد الأدبي في عالمنا العربي قادرًا على مواجهة الرداءة الأدبية التي نعيشها؟ وهل هناك وصفة خاصة للنقاد العرب الشباب يمكنهم أن يلجأوا إليها حتى يكونوا في الموعد؟
أودّ هنا، توضيحًا لسؤالك هذا، أن أبدأ من الجامعة. في العالم العربي، اليوم، الجامعة تعيش وضعًا بئيسًا، والبحث العلمي فيها لم يعد قادرًا على اقتراح الإشكالات والأفكار، وطرح الأسئلة، الأطاريح هي موضوعات فقط، وهي نوع من الكولاج، أو غرفة مليئة بأصداء الأموات والأحياء. وهذا انعكس سلبًا على الطلبة، وعلى النقد، عمومًا. من الطبيعي أن تنتشر الرداءة في كل شيء، لأن الناقد الذي كان يلعب دور المُتابِع، والمُنَبِّه، والحارس الذي يرفض الدخول إلى الحديقة بالقفز من سورها، هو الآخر، اختلطت عليه الأمور، وأدواته، في أغلبها لم تعد صالحة لِمـا يجري في النصوص المباغتة، والتجارب التي حدثت فيها اختراقات إبداعية حقيقية. قليلون النقاد الذين لا يتنازلون عن شرط القيمة الإبداعية، ولا يتساهلون في التعامُل مع ما ليس شعرًا، أو قصة، أو رواية، والمشهد العام هو تكريس للرداءة، وخلط للأوراق، ووضع للبيض كاملًا في السلة نفسها.




مشكلة الناقد الشاب، القادم إلى أراضي الإبداع والمعرفة، هي تعجُّل الشهرة، بدل الاشتغال في صمت، وبهدوء، على مشروعه النقدي، خصوصًا أن المواقع والجرائد باتت في حاجة إلى ما تملأ به صفحاتها، فكل ما يصلها تنشره، ولا وجود لغربلة، أو مقاييس في النشر والتحرير، وهذه إحدى أسباب ادِّعاء عدد من هؤلاء الشبان، الذين يتوهمون النقد والإبداع، فيما هم ما زالوا لم يحُلُّوا مشاكلهم حتى مع اللغة التي يكتبون بها.



أفق الحداثة كوني إنساني
(*) تهتم بالحداثة في كتاباتك، كما في إبداعاتك ومشاركاتك المتعددة في الندوات والملتقيات. هل الحداثة بالنسبة إليك حتمية ثقافية واجتماعية؟ أم أنها مجرد تقليد يصعب استنباته في بيئة عربية ماضوية وتقليدية على مستوى التفكير والسلوك؟
الحداثة، في معناها العام، هي الأصل، فالكون في انبثاقه كان خَلْقـًا، ولم يكن تَبَعِـيَّة وتقليدًا، حتَّى المعتقدات والديانات جاءت صادمةً للبشر، لأنها كانت خلقًا وابتكارًا، وأفكارًا مُغايِرَةً لما كان يعرفه الناس، بمعنى أنها كانت حداثة، وتجديدًا، وجُرْأة في الفكر، وفي رؤية الأشياء. التقليد، هو نفي للحداثة، وتثبيتٌ لها في أنماط وقوالب وأشكال، وهو اقتناع بالمُكْـتَسَب والمُنْجَز، لذلك، كانت الحداثة قدرًا، باعتبارها هي الوجود في أصله، وليست شيئًا جاء بعد التقليد. نحن لم نأتِ بالحداثة من الغرب، بهذا المعنى، فالحداثة أفقها كوني إنساني، فقط، أن المجتمعات التي نعيش فيها توقَّـفَت عن الخلق في لحظة ما، واسْتكانَـتْ إلى التقليد والتبعية والاجترار، تارة باسم الدين، وتارة باسم الخصوصيات المحلية، وتارة باسم التقاليد والأعراف، وهذا كله وَهْم وتدليس على الله، وعلى الإنسان. فإذا كان الله هو أكبر خلاق، فهل الإنسان سيكون عاجزًا عن الخلق، وهو وُجِدَ ليُفَكِّـر، ويقترح، ويبني، ويُبْدِع. فالله خلق الإنسان على صورته، كما هو معروف في الدين.
نحن، اليوم، جد بعيدين عن الحداثة، لأننا اكتفيْنا بالتحديث، أي بالسطح والظاهر، وبأدوات التقنية، لا بجوهر التقنية، أو النظام الكامن خلفها.



(*) الشعر العربي منذ عقود، وإلى اليوم، استطاع أن يجد الأرض الملائمة للانتشار والاهتمام، هل بالفعل يمكننا أن نتحدث عن حداثة شعرية عربية؟ وبالتالي، عن حداثة شعرية مغربية، وأخرى جزائرية، وتونسية، ومصرية، وخليجية...؟
الحداثة ليست عَلمًا وطنيًا، ولا هي ثوب أو لباس، الحداثة هي أفق كوني إنساني، تعني كل الشعوب والمجتمعات، كما تعني كل المعارف والتعبيرات، وهي ليست وَصْفَة، أو طريقة في الطبخ. لأنَّ الحداثة هي إبداع وخلق وإضافة واختلاف، ونحن نُضيف ونخلق، فنحن نسعى إلى أن نكون نحن، في سياقنا البشري الكوني، الذي يكون فيه الصوت أقوى، مثلما في العِلم، فهو ليس علمًا بالانتساب إلى هذه الثقافة، أو تلك. فحين نتحدَّث عن أنشتاين، فنحن لا نقحمه في هذا الوطن، أو ذاك، بل ننظر إليه كفكرة واختراع، وهذا ما يحدث في الشِّعر الذي يتَّسِم بالحداثة، ويدور في فَلَك الخلق والإضافة، والاختلاف.
الشِّـعر المغربي هو شعر بمن يكتبه، فأنا صلاح بوسريف مغربي من حيث الانتماء الجغرافي والثقافي، لكن ما أكتبه ليس بالضرورة صدًى للتربة والعشب والماء، أو للنشيد الوطني المغربي، فأنا أُوَسِّع هويتي وانتمائي من خلال اللغة التي هي أكبر من الوطن، لأنها تُغّنِي الهوية وتوسعها، كما تغني الوطن، وتتجاوز حدوده وتتخطاها، لأن اللغة هي تعبير عن الوجود في الأرض، خصوصًا حين نكتبها شعرًا.




لا نحكم على الشِّـعر بالانتشار، أو بالترجمة، أو بالحضور الإعلامي، بل إنَّ الشِّـعر هو القيمة الشِّـعرية، هو ما نقترحه من صيغ وتعابير جمالية، ما نعمل على إضافته من مساحات جمالية، في اللغة، في الإيقاع، في الخيال، في البناء الشِّـعري الذي ليس هو الشكل، وفي طبيعة الرؤيا التي تحكم علاقتنا بالواقع، أو بالوجود. والحداثة، بهذا المعنى، هي ما سنتركه من أثر على الأرض، بالإضافة، وما نقترحه من مساحات جمالية غير مسبوقة، أو أننا نعمل على توسيع مساحات المعنى الجمالي في الشِّـعر، وفي الكتابة عمومًا. وآنذاك، تصبح الخصوصيات الوطنية هي أراض بلا تخوم، أرض لا سياجات تمنع اختراقها، والدخول إليها. بهذا المعنى أنا أكتب الشِّعْر وأتأمله، وبه أوجد.