Print
أشرف الحساني

عز العرب العلوي: أفلامي الوثائقية والروائية تكمل بعضها بعضًا

12 مايو 2022
حوارات

 

يُدهشنا دومًا المخرج السينمائي المغربيّ عز العرب العلوي، حيث يخلق مناخاتٍ بصريّة مُتخيّلة مُرتبطة بالتاريخ المغربيّ وذاكرته الغنيّة بالقصص والحكايات والرموز والعلامات، ذلك أنّ شغفه بالسينما وصُوَرها المُتخيّلة يقوده دومًا إلى عملية "التخييل"، لا باعتباره فقط مفهومًا إجرائيًا يتوسّله المُخرج للدخول صوب حداثة ورحابة الإبداع البصريّ، وإنّما بوصفه وطنًا يرنو إليه العلوي، كلّما ضاقت به الكتابة التقريرية عن السينما وصُوَرها وتحوّلاتها، فيجد نفسه مُنغمسًا في رحابة الإبداع السينمائي عن طريق أفلامٍ روائية وأخرى وثائقية.

والحقيقة أنّ ارتباط صاحب "كيليكيس دوار البوم" ببراديغم التاريخ، قد عزّز اهتمامه البصريّ في وجداني وجعلني منذ سنواتٍ أترقّب إنتاجاته في هذا المضمار، لما تُضمره من خطاب بصريّ عَالم يتعامل مع التاريخ، لا باعتباره حقيقة، وإنّما كسرديّة تاريخيّة أو قدرٍ وجوديّ، ما يجعله دومًا يُنزّل هذا التاريخ من برجه العالي ويجعله مادّة خاضعة كأيّ خطابٍ معرفي آخر للنقد والمساءلة والفحص. وهنا بالذات، تبدأ علاقة العلوي بمفهوم التخييل، حيث تمنحه هذه الخلاصات المعرفية التي يتوصّل إليها تجاه موضوع/ قضيّة/ إشكالية/ ظاهرة، إمكان إعادة كتابة تاريخٍ جديد داخل عرش الصورة السينمائية ووفق أنماط مُتعدّدة من الصُوَر ومستوياتٍ مُتباينة من التوثيق والتخييل.

بمناسبة عرض فيلمه الوثائقي الجديد "ماء العينين: الإمام المجاهد والعالم الرباني" (2022) قبل فترة قصيرة على قناة "الجزيرة الوثائقية"، كان لنا مع عز العرب العلوي هذا الحوار:

 

(*) دعني أوّلًا أعرف كيف تستطيع الجمع بين التدريس والكتابة، فضلًا عن الإخراج السينمائي، الذي تنزلت فيه مكانة بارزة داخل المشهد السينمائي المغربيّ وراكمت من خلاله العديد من الأفلام الوثائقية والروائية؟

دعني أولًا أقول لك إنني أتحرك في دائرة منسجمة ومترابطة، فأنا أدرّس السينما وأكتب في السينما وأخرج أفلامًا سينمائية. أما كيف أجمع بين كل ذاك وبين التدريس، فمجال تخصصي الأكاديمي يتقاطع مع هذا الشغف كما قلت لك سابقًا، يتكاملان ولا يتعارضان، بل يغذي كل منهما الآخر، إضافة إلى أنني من عشاق الليل، أنهي فيه ما لم أستطع عمله في النهار من قراءة وكتابة ووضع أفكار يبقى بعضها في درج مكتبي في انتظار اكتمال الصورة، دون التسرع لأجل الظهور على الساحة ومراكمة الكم على حساب الكيف، بل أنتظر اختمار الفكرة، كي تنضج سينمائيًا، ولو تطلب الأمر سنوات للعودة لصالات العرض.

أنا أتحرك إذن ضمن الاختصاص، وأنت تعلم أن المسكون بشغف السينما، يظل عقله يشتغل ويفكر، تلاحقه الصور والمشاهد من الواقع المعيش الذي يصادفه يوميًا، في محيطه وفي علاقاته مع الناس، وفي تفاعله معهم، ومع مشاكل مجتمعه ومستجداته في جميع النواحي الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية، فيختزنها في اللاوعي، تؤثر فيه ويتأثر بها، لتتزاحم وتخلق صراعًا داخليًا في فكره ووجدانه وروحه، فتولد في لحظات غير مرتقبة وغير متوقعة على شكل زخم إبداعي وفي صيغة فكرة مكتوبة قد تتحول لخطاب بصري، وثائقي أو روائي طويل أو قصير، يعكس رؤيته ووجهة نظره للأمور وكيفية مقاربته للمواضيع. أحيانًا يقودني الوثائقي نحو الروائي، فيكون الاشتغال على الفيلم الوثائقي، الذي يتطلب سنوات من البحث وجمع الوثائق والمعلومات وتمحيصها وغربلتها، طريقًا إلى استلهام نفس الفكرة وتقديمها دراميًا، وهنا أذكر مثالين أحدهما وثائقي والآخر سينمائي روائي وهما "نحن في سجونهم" و"كيليكيس دوار البوم" ويعتبران امتدادًا لبعضهما.

عز العرب العلوي خلال تصوير أحد أفلامه



(*) على مُستوى الإخراج السينمائي، تُزاوج بين تجربة العمل الروائي ونظيره الوثائقي. كيف تعيش هذا التعدّد والزخم المعرفي في ذاتك على المُستوى الفنّي بين الصورة الوثائقية والأخرى الروائية، رغم اختلاف أنماط الصُوَر وحدّة السرد ولذة الحكي؟

هذا الاختلاف في نمط الصور ونوع الحكي والسرد، حاولت أن أوظفه لصالح التجربتين، الإخراج الوثائقي والإخراج السينمائي، فالاشتغال على العمل الروائي يكون في أغلبه وليد اللحظة، والتحضير للفيلم الوثائقي يتطلب سنوات من البحث والتقصي وجمع المادة العلمية وتمحيصها وغربلة المعطيات وفق منهج علمي دقيق وصارم. هذا الاشتغال يقودنا لمناطق وفضاءات زمنية ومكانية مختلفة، نصادف فيها شخوصًا من الواقع، من المغرب العميق الذي أشتغل في أغلب الأحيان على مواضيعه وثيماته، كما أن الوثائقي يجعلنا نقف أمام أعلام وشخصيات من مختلف الانتماءات الفكرية والإبداعية والسياسية وحتى البسيطة من التاريخ القريب والمعاصر، مما يخلق زخمًا فكريًا وعاطفيًا بالغ الأثر، هذا الغنى في العمل الوثائقي يوحي دائمًا بأفكار ومواضيع وثيمات لا يمكن طرحها ومقاربتها في بعض الأحيان في الفيلم الوثائقي، فيكون الخيال والدراما هما الامتداد، وتكون السينما هي المجال الأرحب والأوسع لاستيعاب وتجاوز الخطوط الحمراء التي يفرضها علينا أحيانًا نمط الفيلم الوثائقي. 

(*) في فيلمك الوثائقي الجديد "ماء العينين: الإمام المجاهد والعالم الرباني" (2022) تروي بشكلٍ بصريّ مُذهل سيرة العالم المغربيّ ماء العينين. أوّلًا ما الضرورات المعرفية التي قادتك إلى استغوار عوالم هذا المجاهد، مقارنة ببعض الرموز الأخرى من المقاومة المغربيّة؟

نحن أمام جيل جديد جاء في عصر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، جيل ينبغي أن نصالحه مع تاريخه ونعرفه بأعلام بلاده، حتى لا يكون ضحية لهذا الزخم الرقمي الذي لا قرار له. قد يأخذ أبناءنا حيث لا نريد، فكانت الفكرة اعتماد الإبهار البصري، ونزاوجه مع الطرح العلمي التحليلي العميق، للغوص في عوالم خاصة لشخصية من المغرب الحديث، تركت بحرًا من المعرفة، وآثارًا في المغرب وفي المشرق، ما بين كتب مطبوعة ومخطوطات نادرة تنتظر أن ينفض عنها الغبار، كما تركت بصمات في تاريخ المقاومة المغربية الملحمية والمشرفة ضد الاستعمارين الإسباني والفرنسي، شخصية لها امتداد وجذور نحو العمق المغربي، العمق الصحراوي العزيز، فكان ضروريًا ربط الصلة معها وتقديمها بشكل جديد مختلف يتوافق مع تقنيات الكتابة الفيلمية الجديد بتوظيفات سيميولوجية كي ينجذب الشباب خاصة، والجمهور الشغوف بمعرفة رموز من بلاده، وفق خطاب بصري غير مبتذل، خطاب بصري يحكي الرواية بشكل مميز، لأن شخصية العمل مميزة، وهذا لا يعني الانتقاص من قدر أي شخصية أخرى قدمت الكثير للمقاومة المغربية، أو وضعها في مقارنة فيما بينها.

 

(*) بصريًا، ما الصعوبات البالغة التي اعترضت سير وتقدّم تصوير هذا الوثائقي، خاصّة وأنّ المُشاهد يصطدم بعشرات المَشاهد من داخل فضاء الصحراء؟

في أعمالي الوثائقية أسعى لاقتفاء موضوع العمل عبر رصد الأرشيف كامتداد زمني ومعلوماتي وكذا المكان، وإن استعصى علي الأمر، أوظف عناصر الطبيعة لسرد الحكاية، ولتقديم خطاب بصري يخدم ما يورده الضيوف من شهادات حول شخصية العمل ويعزز إفاداتهم حولها، خاصة إن كانت هذه الشخصية يفصلنا عنها زمن طويل نسبيًا، كي أضع المتلقي في الصورة وأُشركه في  بيئتها وأستفز حواسه للتفاعل معها، لذلك كنت حريصًا على الانتقال للأمكنة الحقيقية، ولكل مدينة حط فيها الشيخ ماء العينين ركبه، بل وحتى خارج المغرب، في موريتانيا، بكل ما يشكل ذلك من صعوبات تفرضها الجغرافية الصحراوية وتأثيرها على التصوير، وأقتفي أثره بتوظيف الرسم على الرمل كخط سيميولوجي في الحكي، والاستعانة بمخطوطات أعرضها على المشاهد بخط يده، وكذا أوظف خريطة المغرب والمشرق وألاحق حركة القوافل لتتبع الرحلة المعينية عبر الاستعانة بالتكنولوجيا الرقمية؛ صعوبات اقتضت إنجاز هذا العمل في ظرف ثلاث سنوات، كونه احتاج الكثير من التدقيق والبحث والتنقل لاستضافة أناس من حفدة الشيخ ممن تبقوا على قيد الحياة أو تجمعهم به أواصر القرابة والنسب، رغم ظروفهم الصحية التي كانت تملي علينا التصوير وفق ما يناسب وضعهم. 

(*) ماذا على مستوى الكتابة، هل ثمّة أيّ مصادر أو مخطوطات أثّرت في وجدانك لحظة الكتابة، فقادتك إلى التفكير في إنجاز وثائقي عن ماء العينين؟

قد يثيرك تداول الاسم بين العامة والخاصة. هكذا وبباسطة الشيخ ماء العينين ولكن حينما تقرر معرفة الرجل عن قرب كن على يقين أنك ستنبهر لعلم الرجل ولفلسفته في الحياة. الرجل لا يكفيه فيلم واحد. كذلك هي مصادر ومخطوطات كثيرة، جعلتني أنجذب لهذه الشخصية الصوفية الزاهدة، التي جمعت بين الحس المرهف وبين الصلابة في المقاومة، وبين قوة الشخصية، وموسوعية الفكر والعلوم وبلاغة القول نثرًا وشعرًا، غنى جعلت منه شخصية ذات أثر في العالم العربي بأكمله. لكن أورد على سبيل المثال لا الحصر، مصدرًا أثر في وجدانيًا وعاطفيًا، وهي رسائل الشيخ الجليل الصوفي الزاهد العالم النوراني لزوجته، رسائل ما زالت محفوظة بخط يده، وتم تقديمها خلال الفيلم الوثائقي، جعل لها ديباجة شعرية غزلية، مع العلم أنه كتبها وهو في ساحة الجهاد، رسالة تبين دور المرأة في حياة الشيخ ومكانتها الكبيرة وتقديره لها، في زمن لم يكن هناك منظمات تعمل في مجال حقوق المرأة.

من أفلام عز العرب العلوي 



(*) رغم البُعد التقريري الذي قد يطبع الصورة الوثائقية، نعثر دومًا على مظاهر التخييل والإبداع والابتكار والخلق داخل الفيلم الوثائقي. كيف إذًا يُمكن الحديث في فيلمك هذا، على بعض تجلّيات أو تقاطعات بين الواقعي والتخييلي؟

عامل البعد الزمني التاريخي الذي يربط بين تاريخ تصوير الفيلم الوثائقي وبين الزمن الحقيقي الذي جرت فيه أطوار ووقائع تاريخية متعلقة بالشخصية بطلة الفيلم هو الذي يفرض علينا نوع المعالجة ونوع الأسلوب الإخراجي المتبع، إما باللجوء لتوظيف مظاهر التخييل والإبداع والخلق عبر توظيف ما يسمى بوثائقي الدوكودراما، أو المزج بينه وبين المعالجة الواقعية، في هذا العمل تحديدًا وكما سبق وأشرت وظفت عنصرًا طبيعيًا من بيئة الشيخ، لتقديم فصول من حياته، فصول لا يمكن إيجاد أناس عاصروه فيها، مثل طفولته وعلاقته بوالده ورحلاته نحو الشرق، لاكتساب العلم، نحو مصر والحج، وأثناء حروب الجهاد ضد المستعمر في الصحراء المغربية وفي الشمال، فكان للإبداع والخلق حضور بارز امتزج بالواقع، وعززه وكمله، حيث حضر الرسم، تارة بالرمل وتارة أخرى على الكمبيوتر، لصياغة صورة أقرب في ذهن الجمهور المستهدف.

 

(*) ماذا عن النقد السينمائي المغربيّ، هل ترى أنّه يُواكب نقديًا مسارات الأفلام ونقدها وتمحيصها وإعادة بناء مفهوم اللامفكّر فيه داخل الصورة؟ أم أنّ تجربة الكتابة في المغرب، ما تزال لم تختمر بعد بالنّظر إلى التحوّلات التي تشهدها طبيعة أنماط الصورة وطرق وإنتاج الفيلم السينمائي؟

انتعش النقد السينمائي المغربي وازدهر في الثلاثة عقود الأخيرة من القرن الماضي، خاصة في حضن الجامعة الوطنية للأندية السينمائية رغم قلة الإنتاج السينمائي وقتها وعدد الأفلام المنجزة سنويا، واستمر مؤخرًا بفضل الجمعية المغربية للنقد التي ضمت العديد من النقاد واحتضنت نقاشات جدية بين النقاد وعشاق للسينما وأكاديميين، وربما ما يقوم به أيضًا مركز سجلماسة للدارسات والأبحاث السمعية البصرية في اطار تأسيس مجموعة كبيرة من الأندية السينمائية الجامعية داخل المعاهد والكليات من شأنها أن تطور النقد السينمائي بكل تجلياته، لأننا نعرف قيمة البحث الأكاديمي والفضاء الجامعي وما يمكنهما فعله للدفع به نحو الازدهار. لكن مع تزايد عدد الأفلام المغربية في الألفية الثالثة، لم تواكب الحركة النقدية عامة وللأسف العملية الإبداعية وتزايد عدد الأفلام المنتجة بالشكل والمستوى الذي نطمح إليه جميعا كسينمائيين ومبدعين ونقاد، رغم وجود بعض الأسماء التي حاولت وتحاول تفكيك الأعمال السينمائية وتحليلها ونقدها فنيا وتحليل الصورة وإعادة بنائها وقراءة ما بين تفاصيلها بشكل جدي وأكثر مصداقية، لكن، وهنا لا أعمم، فالنقد السينمائي في المغرب، (وهذه إحدى المشاكل التي تمنع تطوره) تطبعه في الكثير من الأحيان تصفية حسابات شخصية، أو المحاباة لتلميع أسماء على حساب أسماء أخرى، بعيدًا عن تقييم حقيقي للكتابة السيناريستية ولأسلوب الإخراج السينمائي وقراءة علمية تحليلية للصورة ولأسباب اختيار أنماط معينة لها عوض أخرى، وقراءة في اللامفكر فيه داخلها لإعادة بنائها، لإغناء النقاش وترسيخ ثقافة سينمائية حقيقية بين الأجيال الجديدة.