Print
ميسون شقير

محمد عثمان: الشعر يعينني على عدم نسيان الوطن

16 مايو 2022
حوارات

هنالك سر ما طالما كان ولا يزال يربط بين الإبداع الأدبي من جهة، وبين التخصص العلمي الأكاديمي والمهني، وخاصة الطبي، من جهة ثانية. سر قدم لنا أسماء لا تنسى على الصعيد العالمي، ولعل أهمها الطبيب والأديب الروسي، أنطون تشيخوف، الأكثر حضورًا وشهرة على صعيد القصة القصيرة العالمية، والكاتب والطبيب الأسكتلندي، آرثر كونان دويل، والطبيب والكاتب الفرنسي، وليام سومرست موم، والطبيب والأديب الألماني، فريدريك شيلر.
ولم يكن الأدب العربي في منجى عن هذه الجدلية التي تركت ظلها بقوة فيه، وتركت لنا أسماء حاضرة في تاريخ الأدب العربي الحديث، بداية بالأديب والطبيب المصري، إبراهيم ناجي، والدكتور والأديب السوري، عبد السلام العجيلي، والكاتبة الفلسطينية، الدكتورة غادة كرمي، والدكتورة والأديبة المصرية، نوال السعداوي، والدكتور والطبيب المصري، أحمد خالد توفيق، والدكتورة الأديبة السورية، هيفاء بيطار، وطبيب الأسنان، الدكتور علاء الأسواني، من دون أن ننسى يوسف إدريس، الطبيب والأديب المصري الشهير.
ولربما يكمن هذا السر في أن عمل الطبيب، أو طبيب الأسنان، أو الصيدلاني، هو عمل يسمح لصاحبه بمجاورة الأرواح في حالات مرضها، ووجعها، أي في أشد حالات ضعفها، الأمر الذي يسمح لصاحب هذا العمل باستشفاف الدواخل في أكثر اللحظات التي تكون فيها صادقة وحقيقية. ويجعل ممن يمتلك موهبة الكتابة وشغفها قادرًا على تقديم منجز ذي بعد إنساني نادر، وفي الوقت نفسه، قادر بحكم عقليته العلمية، على تقديم منجز أدبي يستند في تحليلاته للذات البشرية على المنطق، وعلى الدلالات، وعلى قدرة العلم الاستنباطية والاستنتاجية.
تفوق الشاعر وطبيب الأسنان السوري المقيم في مدريد، الدكتور محمد عثمان، في دراسته لطب الأسنان في دمشق، وإتمامه لشهادتي الماجستير والدكتوراة في جراحة الفكين في جامعة مدريد، وماجستير آخر في زراعة الأسنان في جامعة مدريد، أيضًا، وحصوله على تقنية مسجلة باسمه "لرفع أرض الجيب الفكي، وتطعيم العظم"، سعى في اتجاه شغفه في الكتابة الإبداعية، وفي خط الشعر بشكل خاص، ملبيًا نداءه الداخلي، ومراهنًا على "حصان الشعر الخشبي"، كما كان قد قال: "كان لزامًا أن أكتب الشعر/ ثم أقرأ لنفسي/ لأعرف كيف يعتريني حبك"، معلنًا بكل صدق أن الشعر هو ذلك الذي لا يمكن لنا إلا أن نقوله.
أربع مجموعات شعرية كانت نتيجة هذه المراهنة: مجموعة "من يهز الليل" الصادرة عن دار نشر "الفالفا" في مدريد، ومجموعة "مومياء مجنحة" الصادرة عن دار نشر "ألفونسو" في مدريد (2004)، ومجموعة "تمثال الشوق" الصادرة دار نشر "سنابل للكتاب" القاهرة، ومجموعة "سيرة شفاه" الصادرة عن دار نشر "ألفونسو" في مدريد.
استطاع الشاعر الطبيب، من خلال مجموعاته الأربع، تحقيق صوت شعري مميز له حضوره في الأوساط الإسبانية، واستطاع الفوز بجائزة La Lucha Pqetica، أو جائزة "النضال الشعري" المحكمة من قبل الجمهور الإسباني.
هنا، حوار معه:




(*) بداية، ما الذي يمثله الشعر بالنسبة لطبيب الأسنان الحائزة على دكتوراة في طب الأسنان، وعلى براءة اختراع فيه؟
الشعر بالنسبة لي ليس فقط مجرد هواية مفضلة، بل هو يتعدى ذلك ليشكل المجال المناسب الذي أعبر فيه عن انعكاس كل من العالم، والعلاقات الإنسانية، على نفسي، وهو أيضًا المجال الذي أتاح لي التمتع بإعانة الناس، وإعانتي، على الخروج قليلًا من فجاجة العيش. وسمح لي بإطلاق الخيال، وبالتعمق في العواطف. لقد منحني واحة أهرب إليها كلما احتجت إلى مراجعة موقعي كإنسان في هذا الكون. الشعر دائمًا بالنسبة لي يمثل البطانيات التي اصطحبتها معي من دمشق إلى برد الغربة. أفدح خسارة في الحياة هي نسيان الوطن. لذا فأنا ألتصق بالشعر، وأكتبه باللغة العربية، لأبرهن لذاتي كل يوم أنني لا أنسى هذا الوطن أبدًا.


(*) ما هو السبب، في رأيك، في تكرار حالات الأديب القادم من عالم الطب؟
متابعة مرضى كثيرين على مدى السنين الماضية، وملاحظة مآلاتهم وتبدلاتها، وتأثيرات الزمن، والظروف، عليهم، تقرب الطبيب من لغز الحياة الحقيقي.
كما أن سعي الطبيب الحثيث لدرء الألم، ولإزالة الهم والقلق عن مرضاه، وعمن هم حوله، يوازي غرض الشعر الأساسي، ألا وهو تقديم عالم موازٍ، عالم أجمل وأكثر رحمة وبهجة.
كما أن الذي رجوته في شعري، من خلال نقل عواطفي بأرقى الوسائل، ومن خلال محاولتي إثارة تفكير الناس، والتخاطب مع عواطفهم، وتغذية أرواحهم ومداواتها، هو ذاته رسالة الطب، لذا فأنا أعتقد ان خبرتي في الحياة، وانغماسي في علم النفس، وبقية العلوم، بالإضافة إلى كوني طبيبًا قابل أناسًا كثيرين جدًا في حالات ضعفهم، مجردين تقريبًا من التكلف، ومن شخصياتهم المعقدة التي يلبسونها عادة، كل ذلك ترك أثرًا في نصوصي الشعرية انعكس على مفردات وصور فيها.


(*) ما الذي أضافه لتجربتك الشعرية الوجود في بلد مثل إسبانيا؟ وماذا قدمت القدرة على قراءة الأدب العالمي المكتوب بالإسبانية لطريقة كتابتك؟
قراءتي للشعر باللغة الإسبانية، ووجودي في إسبانيا، أضافا لي غنى لغويًا ومعرفيًا وحسيًا، وجعلني أكتشف كيف يتشابه الناس في كل المعمورة، كيف يسعدون ويعانون بالطريقة نفسها. اكتشفت أن الفروق تكمن فقط في درجة هذه السعادة، أو المعاناة.




لاحظت من خلال قراءاتي وتواجدي في إسبانيا أن حجم التشنج هنا أقل، وأن للبساطة أهمية كبيرة، فالإنسان بشكل عام هو إنسان أوضح وأقل تعقيدًا. كذلك فإن الشعور بالأمان والحرية عمومًا، وحرية التعبير خصوصًا، هو شعور أوسع هنا بكثير مما هو في بلداننا، فالاحترام والتقدير مضمونان دائمًا هنا، كما أن حالة الإعجاب والاستحسان الحقيقيين اللذين يقدمهما لك الإنسان والقارئ الإسباني، من دون تملق، يضفيان شعور رضى على كل من يخلص في العمل وفي الإبداع. وهذا أيضًا أثر على شخصيتي، وعلى منتجي الشعري.


(*) كيف يمكن أن تصف لنا الغربة، أو لنقل المنفى؟ وكيف يمكن له أن يؤثر في شخصياتنا، وفي إنتاجنا؟
أي غربة هي تجربة تفاقم حساسية المرء. كما أن سيف المسافات والبعد، وسيوف الظروف، كلها تعلم الشوق على أصوله، بينما تهرول السنون أسرع من الحياة.
في الحقيقة، أسوأ تجربة يمكن أن نمر بها حين ننظر إلى وطننا فنراه دمارًا وقبورًا وسجونًا، أو نراه صيغة وحشية للألم. كل ذلك لا بد أن يترك بصماته على إنتاجنا الشعري، فيصبح الغزل ملتصقًا بالحزن أكثر، لتتقافز الخيبة فوق كل شيء نقوله، ويطل الموت من كل النوافذ، بينما تخجل السعادة من زيارة نصوصنا.


(*) ماذا يمكن أن تقول لنا عن علاقاتك مع المتلقي الإسباني؟ هل تصل كتاباتك إليه؟ هل هنالك شيء مفقود من الشعر بعد الترجمة إلى لغة أخرى؟
يفقد الشعر كثيرًا من رونقه حين يترجم، لكن الصور التي يستخدمها الشعراء العرب، وذاك التجديد غير المحدود في التعابير، وشحنة التأثر العالية في عواطفهم المنقولة، لا بد أن تصل إلى المتلقي من ثقافة أخرى، خصوصًا إذا استطاع الشاعر أن يترجم نفسه نصوصه، إذا كان متمكنًا من اللغة، وقادرًا على نقل معنى وروح الشعر من خلال خبرته وتمكنه من اللغتين معًا. كما أن الإسبان يقدرون الشعر العربي، وهذا من حسن حظنا كشعراء عرب، فالشعر العربي هو الإنتاج الوحيد الذي بقي لنا كي نفاخر به الآن.


(*) كيف هي علاقتك بالمتلقي العربي، على الرغم من بعدك الجغرافي عن العالم العربي؟
وجودي وحياتي وتفاعلي شعريًا وإنسانيًا هو بحكم سلطة المكان محكوم بعلاقة مع القارئ الإسباني أكثر منها مع القارئ العربي. ومع ذلك، جرى تسويق بعض مجموعاتي في مصر، كما يقتني بعض المغتربين المهتمين بالأدب العربي بعضًا من دواويني، ويكتب عني بعض المثقفين الإسبان وعن أشعاري. نشرت بعضًا منها عبر بعض المجلات، وفي وسائل التواصل الاجتماعي. ومع هذا، لي مآخذ على الجمهور الذي يقرأ، كل يوم، أقل، في العالم عمومًا، وفي العالم العربي خصوصًا.



(*) هل تعتقد أننا، نحن السوريين، لا نزال قادرين على إنتاج أدب حقيقي غير محروق، على الرغم من الدمار الذي نعيشه، وعلى الرغم من تراجيديا هذا القرن التي تضرب جبهة الإنسانية؟
كان من نصيبنا، كسوريين، أن نتعرض لهذه المحن القاسية جدًا. ومن الطبيعي جدًا أن نهتز، ونتقطع بعنف، وأن ينعكس ذلك الزلزال على أساليب تعبيرنا، إلا أنني أرى أن إنتاجنا الأدبي لن يكون إنتاجًا محروقًا كما احترق كل شيء في بلادنا. على العكس، سننتج أدبًا حارًا صادقًا، لأن الألم عندما يكون بهذه الدرجة ينتزع أدبًا وفنًا من أعماق الروح. مع ذلك، أرى أن الثمن الذي ما زلنا ندفعه باهظ جدًا، ويجب علينا أن نوصل لكل البشرية حجم الجريمة التي شاركت فيها أطراف عديدة في سورية.


(*) ماذا تعني لك مشاركتك مؤخرًا في مهرجان شعر دول البحر المتوسط في مدينة توليدو؟ وماذا أضافت لك هذه التجربة؟
مشاركتي في مهرجان البحر المتوسط للشعر "صوت الحياة" كانت مهمة بالنسبة إليّ، لأنها أظهرت لي أن هناك احتفاءً بالشعر بطريقة ترد له بعض اعتباره..
المهرجان يمثل فعالية كبيرة تستقبل شعراء كثيرين، تدوم لأيام عدة، حيث يلقى الشعر في الساحات، والمدرجات، وباحات القصور، والقلاع، في توليدو، ويحضرها أهل توليدو وزوارها، ويشترك طلاب متطوعون في التنظيم، فتكسبهم الأجواء افتتانًا دائمًا بالشعر. وهنا، لا بد من التنويه بجدوى اللقاءات المباشرة بين المهتمين بالشعر والأدب والموسيقى.