Print
فائزة مصطفى

سعيد خطيبي: تاريخ الجزائر هو تاريخ نسائها

23 مايو 2022
حوارات

صدرت أخيرًا رواية "نهاية الصّحراء"، للصحافي والكاتب الجزائري المقيم في سلوفينيا، سعيد خطيبي. وهي رواية تدور وقائعها في سنوات الثّمانينيات، في فترة طفت فيها تبعات حرب التّحرير الجزائرية، وصارت ثقلًا على حياة الشّخصيات. يحكي صاحب رواية "حطب سراييفو" كيف أن تلك الحرب لم تكن ماضيًا، بل هي جزء من الحاضر، ومن سير الأفراد، يقتسمون غنائمها وكوابيسها أيضًا. في هذا الحوار، يتحدّث المؤلّف عن ظروف كتابة عمله الجديد، عن النّساء في السّرد وفي الواقع، عن تلك العلاقة المهووسة بالتّاريخ وبالمكان، والتي تمخضت عنها مؤلفات توجت بعضها بجوائز أدبية رفيعة.





(*) تحضر تيمة التّاريخ في روايتك الأخيرة "نهاية الصحراء" (دار نوفل/ هاشيت أنطوان)، مستحضرًا الرّبع القرن الأوّل من الاستقلال. مع ما رافقه من صراعات وتحوّلات. كيف عشت كتابة هذا العمل؟ وكيف جمعت المادّة التي استندت عليها في صياغة النصّ؟

منذ سنوات وأنا أفكّر في الكتابة عن عشرية الثّمانينيات، بحكم أنّها المرحلة الأكثر حرجًا في تاريخ الجزائر، وقد تأخّر المشروع في الظّهور إلى غاية هذا العام. ككلّ مرّة، من الصّعب الوصول إلى الأرشيف. فالجزائر تتعامل مع أرشيفها كما لو أنّه بئر بترول من الممنوع أن نطلّ عليه. بينما نُطالب فرنسا بحقّنا في استعادة الذّاكرة، واسترجاع الأرشيف، نحن كجزائريين نشقى في الوصول إلى الأرشيف المحليّ. مع ذلك، فإن المادّة التّاريخية تظلّ تفصيلًا ثانويًا لا أكثر في عملية الكتابة. فأنا لا أعيد تدوين الأحداث والوقائع التّاريخية كما جرت، إنمّا يهمّني فقط إحاطة معرفية بالحدث، وأشيّد بعد ذلك عالمًا متخيّلًا. أنطلق من واقعة حقيقية، وأتخيّل مسارات أخرى لها. أتخيّل ماذا كان يمكن أن يحصل عكس ما أفادنا به المؤرّخون. الأهمّ في هذا المسعى هو تكنيك الكتابة، وذلك ما ركزّت عليه، في محاولة الإلمام بتقنيات الكتابة الحديثة. ليس كلّ الماضي يصلح مادّة للتّخييل الرّوائي، بل وجب التماس اللحظات الفارقة منه. أنا مشغول بماضٍ يتطابق مع الحاضر الذي نحياه اليوم. أعود إلى الذّاكرة في استعارة للواقع المختلّ الذي نتحمّل ثقله، فتاريخ الجزائر منذ 1962 يصرّ على التكرار، وقليلًا ما ننتبه إلى أننا ندور في حلقة من التّقلّبات المتشابهة في ما بينها.


(*) نسجت حبكة الرواية انطلاقًا من مقتل مُغنيّة، إذا ما عرفنا أن الشّخصيات المتورّطة كلّها من ورثة حرب التّحرير، فكيف استطعت إيجاد تلك المقاربة بين البطل والجاني؟
في رواية "نهاية الصّحراء"، لا توجد شخصية البطل الوحيد، بل صفة البطل موزّعة على شخصيات العمل كلّها. غالبية الشّخصيات، على الرّغم من الاختلافات في ما بينها، نالت ـ تقريبًا ـ حقًّا متساويًا في الحضور، في الكلام وفي الصّمت، فالصّمت أيضًا جزء من الحكي،




في كتابة بوليفونية، فقد قصدت من الوهلة الأولى تعدّد الأصوات، وألا يحتكر السّرد شخص بعينه، في كتابة مضادّة للسّياق التّاريخي في الثّمانينيات، حيث ساد نظام اشتراكي ذو صوت واحد، ذو منطق واحد، ذو عين واحدة، وذو ملبس واحد. أردت من هذه الرّواية، التي استعادت تلك الحقبة، أن تكون نصًا معارضًا لفكرة الأحادية. بالتّالي، فإنه لا يوجد البطل المطلق، كما لا يوجد الجاني الواحد. الجريمة فعل فردي، لكن كي نصنع جانيًا فنحن في حاجة إلى جماعة. لم أهتم بمن قتل المغنية، بل الأهمّ هو سؤال: كيف يؤول شخص عادي إلى جانٍ؟ كيف صار القتل أمرًا مبتذلًا في الجزائر؟ كنت مشغولًا ببحث سيكولوجي عن نشأة الجناة، وبدايات العنف المجتمعي في البلاد.


(*) رواية " نهاية الصحراء" تغوص أيضًا في تابوهات التّاريخ. كيف استطعت تكسير تلك المحرمات، والتمرد عليها داخل النص الأدبي؟
لم أكن معنيًا في هذه الرّواية في الخوض في الصّراعات التي تلت حرب التحرير، بل في انعكاساتها على حيوات النّاس العاديين. أنا مشغول، على غرار رواياتي السّابقة، بحياة البسطاء، بأولئك الذين يمرّون في الحياة كظلال، كيف تحمّلوا ـ رغمًا عنهم ـ تبعات تلك الحرب في السنوّات الخمس والعشرين التي تلت الاستقلال. كتبت عن مصائر أشخاص عاديين، من عمق المجتمع، أولئك المنسيون، الذين لم يشاركوا في الحرب، أو كانوا أطفالًا حين اندلاعها، أو وُلدوا بعدها مباشرة، مع ذلك فقد وجدوا أنفسهم ـ لاحقًا ـ متورّطين فيها. وهذا الموضوع ليس من التّابوهات، فقد كتبت أعمالًا عن سيرة التحرير، لكن غالبية تلك الكتابات جاءت بنبرة حماسية، تساير وجهة نظر واحدة، لذلك فقد أردت أن أكتب بموضوعية أكثر، باطلاع أوسع، لكن من دون حياد، فالحياد نقيض الأدب.


(*) على غير العادة بالنسبة لروايتي "أربعون عامًا في انتظار إيزابيل"، و"حطب سراييفو"، لم تشر إلى اسم المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية، بل اخترت أن تكون مدينة جزائريّة وسط صحراء شاسعة. لماذا؟ وإلى أي مدى الجهوية والمناطقية تلعب دور الرقيب داخل الأعمال الأدبية؟
ليس في ذلك علاقة بالرّقيب. لن يصعب على القارئ تحديد المكان، فقد أوردت وصفًا لجزئياته. عدم ذكر اسم المدينة يعود إلى سببين: أوّلًا، بحكم أن الرّواية تدور في سنوات الثّمانينيات، في فترة كانت فيها كلّ المدن الجزائرية متشابهة في ما بينها. ما يُحسب للاشتراكية أنّها اجتهدت في إتاحة عدالة اجتماعية، كان الجزائريون ـ آنذاك ـ من عنابة إلى وهران، من العاصمة إلى أقصى الصّحراء، يقتسمون الأكل نفسه، الملبس نفسه، يشاهدون قناة تلفزيونية واحدة، يستمعون إلى راديو واحد، يعرفون مغنيًا واحدًا، يطالعون جريدة واحدة، بل إن أساليب تسليّتهم كانت أيضًا متشابهة. بالتّالي، أن نتحدّث عن قسنطينة، أو عن تلمسان، في الثّمانينيات، فلن يختلف الأمر.




السّبب الثّاني أن رواية "نهاية الصّحراء" تدور في المكان نفسه الذي دارت فيه وقائع رواية استشراقيّة عنوانها " الشّيخ". في عام 1919، أصدرت البريطانية إديث مود هول رواية "الشّيخ". لم تذكر اسم المكان الذي تجري فيه الأحداث، لكن يسهل علينا التّعرف إليه. فقد ذكرت إحداثيّاته بالقرب من مدينة بسكرة. تحوّلت تلك الرّواية إلى واحد من أشهر أفلام هوليوود، بطولة رودولف فالنتينو، وصوّرت العرب بوصفهم لصوصًا وقطّاع طرق، بينما نساؤهم خادمات بيوت. في "نهاية الصّحراء" أستعيد رواية أديث مود هول، في مناقشة وردّ على المنطق الاستشراقي بدايات القرن العشرين.


(*) داخل كل فصل من الرواية هنالك قصة، تتكامل مع التي تليها، كما اخترت الوقوف عند أسباب العنف. إلى أي مدى استطعت تشريح تلك الظّاهرة، لا سيما أنك أمضيت وقتا في دراسة سيكولوجية للمجتمع الجزائري؟
لست أدري إلى أي مدى نجحت في ذلك المسعى، والجواب في حيازة القارئ. كما لا يُمكن محاكمة التّاريخ بأثر رجعي، فظروف نشأة بلد مستقلّ بدايات السّتينيات كانت مختلفة عما نعرفه اليوم. كما أنني لم أتجه إلى مساءلة الخيارات الفكرية، أو الثّقافية، فما حصل قد حصل، ولا يمكن العودة إلى الوراء، إنّما غرضي كان البحث عن انعكاسات تلك الحياة على النّاس العاديين، تهمّني حكايات البسطاء أكثر من غيرهم. في رأيي، أن تاريخ الأفراد أهمّ من تاريخ الأمم. شغلي الأكبر في "نهاية الصّحراء" إنّما على تقنيات الفنّ الرّوائي الحديث، وفي تقمّص لحظات من الماضي لها إسقاطات على الحاضر.


(*) الرّواية تعجّ بالمرجعيات السّينمائية والفنيّة. لماذا؟
في الثّمانينيات، كانت الجزائر أشبه باستديو سينما، مفتوح على الهواء الطّلق. كنّا ننتج أكثر من 10 أفلام في العام الواحد. كنّا نستقبل مخرجين أجانب ينجزون أفلامهم في بقاع البلاد المختلفة. قاعات سينما كانت تعرف اكتظاظًا، والعروض كانت تستمر من الصّباح إلى منتصف الليل. كانت السّينما خبزة الجزائريين، مصدر رزق لهم، وجزءًا من يومياتهم، من أحاديثهم في المقاهي، أو الحانات، أو في شرفات المنازل. كانت العائلات تجتمع مرّة، كلّ أسبوع، في مشاهدة برنامج "نادي السّينما" في التّلفزيون. بالتّالي، من المنطقي أن ترد مرجعيات سينمائية في الرّواية، في إعادة رسم وجه تلك الحقبة. أما اليوم فقد محوّنا ذلك الماضي. بلغنا سنة صفرية من الإنتاج السّينمائي.


(*) نورة، حسينة، وونّاسة، ثلاث نساء قوّيات لعبن دورًا في تحريك الأحداث، بالإضافة إلى شخصية الشّيخة ذهبية. من دون أن ننسى زكية زغواني، تلك الغائبة/ الحاضرة على طول الرّواية. هل فعلًا كانت المرأة الجزائرية تمتلك زمام قدرها؟
إن تاريخ الجزائر هو تاريخ نسائها. لحظات الضّعف في البلد يُسايرها قهر النّساء. كلّما استعادت المرأة حريتها شهد البلد استقرارًا. أنا خريج حكايات النّسوة، تعلّمت منهن لذّة الحكي. لهذا فإن النّساء يحضرن بشكلّ تلقائي في النصّ. لا يمكن أن ندّعي أن المرأة اليوم متحكّمة تمامًا في زمام قدرها كما كانت في ما مضى، لكنها ليست مستسلمة إزاء الهجمات القروسطية التي تتعرّض إليها، باستمرار، من طرف المتطرّفين، أو من طرف من ينسبون أنفسهم إلى المثقّفين أيضًا. إنها تُقاوم، والمقاومة جزء من الخلاص.


الأدب ولغة التكفير






(*) بعد الجدل الذي أثارته فتاوى تحريم الترحم على الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، كثر الحديث في الآونة الأخيرة، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، عن إشكالية الانغلاق التي يتخبط فيه المجتمع الجزائري. في روايتك، لم تغفل عن ظاهرة رفض الآخر، والتضييق على الأقليات الدينية، من خلال توظيف قصة المتنصّرين الجزائريين. هل الأدب قادر على التغلب على لغة التكفير؟

حدث أن قضيت طفولتي بين مسجد وكنيسة. مشهد المسجد كان مألوفًا، فأبوابه مفتوحة على الدّوام، بينما الكنيسة كانت مغلقة. أمرّ بجانبها، أطلّ من فتحة البوابة فلا أرى سوى ظلمة.




أشاهد نواقيسها في الأعلى، ولا أسمع صوتها. في وقت لاحق، حوّلت البلدية تلك الكنيسة إلى متحف، من دون أن يتغيّر شيء في معمارها، وظلّت حكايتها تراود فضولي. مع التّقدّم في السنّ، علمت أن بعض جيراني كانوا من المسيحيين، أجبروا على ترك عقيدتهم والعودة إلى الإسلام عقب الاستقلال. كانت واحدة من اللحظات الأشدّ قسوة من تاريخ الجزائر، والتي لا نحكي عنها قطعًا. ضمن الأفق الاشتراكي ـ المنتهي ـ أراد بعضهم أن يجعلوا من الجزائريين نسخًا متشابهة، بعقيدة واحدة. جرى محوّ الدّيانات الأخرى، بالتّالي طمس ذلك التّعدد الذي عاشه البلد طوال قرون. بالعودة إلى استشهاد شيرين أبو عاقلة، فهنالك أوقات يتعذّر فيها اللسان عن التّعليق، نحتاج إلى وقت كي نستوعب ما جرى، وكي نكتب عنه. في رأيي، أن الجزائريين أكثر النّاس قدرة على مقاسمة أهل الشّهيدة مشاعرهم، فقد عرفنا مشاهد القتل بدم بارد، وصور الرّؤوس المقطوعة في عشرية التّسعينيات، لذلك استغرب أن يسقط بعض النّاس في فخّ التّكفير، أو الإنكار.


(*) من يتحمل مسؤولية انتشار هذا النوع من الخطابات في المجتمع، لا سيما وسط الأجيال الجديدة؟
المثّقفون الجزائريون يتحمّلون جزءًا من مسؤولية سريان خطاب الكراهية، هم أنفسهم ضحاياه. بدل تجاهله، يردّون عليه، كما لو أنّهم هم أنفسهم رجال دين. فالصحافية الفلسطينية، شيرين أبو عاقلة، دافعت عن المسلمين، وبعض المسلمين الذين أساؤوا إليها إنّما يسيئون لأنفسهم وللإسلام. بما أن أصحاب فتاوى القتل في التّسعينيات قد عادوا إلى الفضاء العام، فمن المنطقي أن نسمعهم وهم يمارسون هوايتهم الأثيرة في التّكفير تسوّلًا للايكات على السوشيال ميديا.


(*) اعتكفت في الفترة الماضية على التنقيب في الأرشيف، والغوص في التاريخ والدراسات النفسية والاجتماعية، فماذا تقرأ في الآونة الأخيرة؟
طالعت في الأيّام الأخيرة مذكرات لخضر بن طوبال، واحد من مناضلي الصّف الأوّل في حرب التّحرير. الجزء الأوّل من الكتاب زخر بالمعلومات المهمّة غير المعروفة، بينما النّصف الثّاني كان أقرب إلى تمجيد صاحب المذكرات، وذلك ما نلاحظه في غالبية المذكرات، تعوزها الموضوعية، ويشوبها كثير من التّكتم على الحياة الشّخصية لصاحبها. لماذا نكتب مذكرات؟ قصد البوح بما هو مجهول. لكن السّاسة في الجزائر يتجاهلون في الغالب حياتهم الخاصة، لم يسبق أن طالعت شيئًا عن التّجارب العاشقة في سيرة أي واحد منهم. هلّ الحبّ يناقض صورة المناضل الثّوري؟ عدا ذلك انشغلت في الأشهر الفائتة بمطالعة روايات كورية فاتني الاطلاع عليها. هنالك سحر في الرّواية الكورية، موسيقى هادئة، صخب صامت، عذوبة تجعلنا نتابع النصّ إلى آخر صفحة منه.


(*) كيف تقيّم التجارب الأدبية الجديدة في الجزائر في السّنوات الأخيرة؟ وما هي الرهانات التي على المثقف خوضها في ظل ما تشهده الساحة السياسية من فراغ وحصار؟
هنالك أدب جديد أراهن عليه بشدة. حساسية جديدة، ولست أقصد منها كتّابا في سنّ الشّباب، بل أيضًا من المخضرمين الذين غيّروا وجهتهم وانخرطوا في أسئلة جديدة في الأدب. لم تعد الإباحية، أو السّياسة، أو الدّين، من شواغل الرّواية الجزائرية الجديدة، بل هنالك اهتمام لافت بالتّاريخ، بوصفه التّابو الجديد، ليس في الجزائر وحدها، بل في دول الجوار أيضًا، التي عانت مثلنا طويلًا من الرّقابة، ومن الوصاية على العقول. أظنّ أن رهان المثقف اليوم هو نفسه كما كان عليه من قبل، أن يواصل سعيه في التحرّر، أن يخرج من ذاتيته، ويتجّه إلى الآخر، أن يتقبّل الاختلاف، أن يدرك أن اليقين خدعة، وأن الحقيقة تحتمل أكثر من وجه.