Print
صدام الزيدي

محمّد بوحوش: الشعر تحليقٌ بأجنحة متعددة

18 يوليه 2022
حوارات

مع أنه يكتب الرواية والقصة القصيرة جدًا، إلا أن الشاعر والروائي والمترجم التونسيّ، محمد بوحوش، يكشف في مستهلّ هذا الحوار، بأنه يجد نفسه شاعرًا في الأساس، منوهًا بأن الشّعر هو الذي فتح أمامه أفقًا للتّحليق بأجنحة متعدّدة، منها السّرد، والنّقد، والتّرجمة.
ما يقرب من 30 كتابًا، في الشعر والسرد والترجمة، صدرت لمحمد بوحوش، الذي يكتب أيضًا باللغة الفرنسية، وينجز ترجمات من شعره بالإنكليزية.
يشتغل بوحوش، مؤخرًا، على تجربة شعريّة مختلفة قائمة على تسريد الشّعر، في إطار ما يسمّيه الشّاعر الأردنيّ، جميل أبو صبيح، بـ"السّرديّات الشّعريّة".
وفي سياق حديثه عن تجربته السردية، عمومًا، يفيد بوحوش أنه تعلّم من القصّة القصيرة جدًّا التّركيز على الفكرة، والاشتغال على المفارقة والسّخرية، واعتماد التّكثيف والاختصار، أما كتابة الرّواية فقد علّمته التّفصيل والتّفسير وبناء المعمار السّرديّ بشخوصه وأحداثه وحواره وأفضيته، كما يقول.
ويأخذنا الحوار مع بوحوش للحديث عن قصيدة النثر تونسيًا وعربيًا، وأحوال الثقافة في تونس، واهتماماته بأدب الطفل، وعن "المهرجان الدّوليّ للشّعر بتوزر"، الذي يعدّه "أعرق مهرجان شعريّ تونسيّ"، على حد تعبيره. هنا حوار معه:


(*) أحد عشر كتابًا شعريًا منذ "كتاب الإشراقات" 2005، وحتى "أقداح الوهم" (سرديّات شعريّة) 2020، مضافًا إليها 6 مجموعات شعريّة بلغات عالميّة. وأنت تقف اليوم على كلّ هذا المنجز، أين هو محمد بوحوش، شعريًا؟

أجدني شاعرًا في لأساس. فالشّعر هو الذي فتح أمامي أفقًا للتّحليق بأجنحة متعدّدة، منها السّرد، والنّقد، والتّرجمة.
أشتغل حاليًّا على تجربة شعريّة مختلفة قائمة على تسريد الشّعر، في إطار ما يسمّيه الشّاعر الأردنيّ الصّديق جميل أبو صبيح بـ"السّرديّات الشّعريّة"، ولديّ كتابان جاهزان للنّشر. بعد خمس مجموعات شعريّة، انخرطت في قصيدة النّثر بطريقة تحاول القطع مع النّموذج السّائد والمنمّط أحيانًا. فجمعتُ بين النّثر والشّعر، وحافظت على حدّ أدنى من الإيقاع، محاولًا تجاوز قصيدة الهواجس الذّاتيّة، وتضخّم الأنا والمناجاة والمحاكاة والإبهام والتّهويم تأسيسًا لنصّ مختلف، محايد غالبًا، بارد نسبيًّا من وهج الذّاتيّة، ومتخلّص من ضجيج البلاغة والإيقاع والمعجم القديم. إنّه النّصّ الذي أسميّه نصًّا موضوعيًّا محايدًا يعبّر عن الآخر أكثر من تعبيره عن الذّات. أمّا الكتابة الشّعريّة باللّغة الفرنسيّة، والّتي أصدرت فيها مجموعات شعريّة، فقد انقطعت عنها متوجّهًا إلى ترجمة نصوصي إلى اللّغة الإنكليزيّة، إذ أنّني أعد اللّغة الفرنسيّة لغة شبه ميّتة، ولا مستقبل لها.


(*) لديك خمس روايات منجزة، ونحو 10 مجموعات في القصّة والقصّة القصيرة جدًا. من واقع التّجربة، هل ثمّة تأثير، أو ازدواجيّة، في ما بين هذا الجنس، أو ذاك؟ بصيغة أخرى، كيف استطعت التّحليق بأكثر من جناح؟
بدأت بكتابة القصّة القصيرة جدًّا، فأصدرت أكثر من ألف قصّة في مجموعات كثيرة حازت على اهتمام النقّاد، وأنجزت حولها دراسات قيّمة، ثمّ توجّهت إلى كتابة قصص للأطفال، وروايات بعضها للنّاشئة. السّرد في تقديري واحد، وإن اختلف نوعًا، أو جنسًا.



تعلّمتُ من القصّة القصيرة جدًّا التّركيز على الفكرة، والاشتغال على المفارقة والسّخرية، واعتماد التّكثيف والاختصار، وعلّمتني الرّواية التّفصيل والتّفسير وبناء المعمار السّرديّ بشخوصه وأحداثه وحواره وأفضيته. هنالك علاقة بين القصّة القصيرة جدًّا والرّواية. فمرّة قرأتُ رواية جاوز عدد صفحاتها 120 صفحة، ولخّصتها بطريقة مختلفة في قصّة قصيرة جدًّا لا تتعدّى عشرة أسطر. ومرّة أحالتني فكرة في قصّة قصيرة جدًّا إلى مشروع رواية. النّوعان السّرديّان يختلفان. غير أنّ أحدهما يستفيد من الآخر. حين أكتب القصّة القصيرة جدًّا أعود إلى تقنيّاتها وشروطها، وأهمّها التّكثيف والاختصار والفكرة. وحين يتعلّق الأمر بالرّواية، أكون في غمار السّرديّة الكبرى بإطنابها وتفاصيلها وأدواتها الفنيّة المختلفة. وفي الحالتين أكون في حضرة السّرد، وفي مستويين اثنين: السّرديّة النّوويّة ممثّلة في القصّة القصيرة جدًّا، والسّرديّة الكبرى ممثّلة في الرّواية. أرى أنّ السّرد واحد ومتشابك وإن تنوّع واختلف.

(*) كيف هي أحوال المشهد الثّقافيّ في تونس اليوم؟
لا أدّعي اطّلاعي الكامل على المشهد الثّقافيّ التّونسيّ، ومن الصّعب عليّ تقييمه. لكن توجد حركيّة ثقافيّة تقوم على المهرجانات الأدبيّة والنّدوات، ولعلّها تؤسّس لشيء مّا. في الشّعر، هنالك حساسيّات جديدة تبشّر بالتّأسيس لنصوص حداثيّة مختلفة وتجارب ذات قيمة، لا سيّما في مجال قصيدة النّثر. أمّا في السّرد فثّمة إسهال وإقبال على كتابة الرّواية والقصّة. يمكنني القول إنّ تونس تعجّ بالمبدعين، وتوجد نصوص سرديّة وشعريّة كثيرة ومتنوّعة، لكنّها لم ترتق إلى مستوى التّراكم النّوعي والكميّ، ما يجعلها تؤسّس لتجارب مهمّة عربيًّا ودوليًّا، مع استثناء بعض الأسماء المهمّة شعرًا وسردًا.

قصيدة النثر والمرجعيات القديمة



(*) قصيدة النّثر في تونس.. وعربيًا، أيضًا.. هل استطاعت التّحليق بلا قيود، أو ندوب؟

قصيدة النّثر كغيرها من الأجناس تشهد انتشارًا واسعًا في تونس والأقطار العربيّة الأخرى. هنالك نصوص جيّدة، وتجارب ترتقي إلى المستوى الكونيّ، أو العالميّ. أمّا عن القيود فهي كثيرة، منها أنّ هذا النّوع من الشّعر حديث نسبيًّا ومستورد، ومنها أنّ كتّابَه، في جانب كبير، متعلّقون بمعنى مّا بالقصيدة العربيّة العموديّة والتّفعيليّة، من حيث المعجم والبلاغة والإيقاع والموضوع، ومنها أيضًا انعدام الجرأة المتمثّل في القيود الرّقابيّة الذّاتيّة والمجتمعيّة والأخلاقيّة والدّينيّة. عدد هامّ من النّصوص النّثريّة مسكون بهاجس المرجعيّات القديمة، وغير متحرّر. ومع ذلك، هنالك كتّاب جيّدون، على قلّتهم، استطاعوا أن يؤسّسوا لنصّ شعريّ ـ نثريّ حديث ومتجاوز ومختلف وعميق وكونيّ.

(*) تسهر على تظاهرة المهرجان الدّوليّ للشّعر في توزر. ما الذي قدّمه المهرجان حتى الآن؟ وهل للمهرجان ارتباط بجمعيّة "مداد" للقراءة والكتاب في توزر، الّتي ترأسها؟
المهرجان الدّوليّ للشّعر في توزر هو أعرق مهرجان شعريّ تونسيّ، وهو حاليّا في دورته الـ 42، وتنظّمه جمعيّة المهرجان الدّوليّ للشّعر في توزر. استطاع المهرجان منذ سنة 2011 أن ينفتح على آفاق عربيّة ودوليّة. فلقد استضاف شعراء من مختلف قارّات العالم، وحقّق انتشارًا واسعًا وسمعة جيّدة. أدير هذا المهرجان منذ سنوات متعاونًا مع جمعيّته.




وأعتقد بأنّه قدّم كثيرًا من حيث تبادل التّجارب عربيًّا ودوليًّا، وفتحِ أفق عالميّ لبعض المهرجانات التّونسيّة الأخرى، وربّما العربيّة، إذ لم تكن توجد قبله مهرجانات دوليّة في تونس، والآن صارت لدينا مهرجانات دوليّة كثيرة استلهمت من تجربة مهرجاننا. وأضيف بأنّ المهرجان الدّوليّ للشّعر في توزر استطاع أن يدمج فنونًا أخرى في الشّعر خلال دوراته كلّها، وأن يحافظ على جمهور محترم، ورغبة أغلب الشّعراء العرب والأجانب والتّونسيّين في مواكبته والمشاركة فيه.

الجوائز لا تصنع نصوصًا جيدة!
(*) في عام 2004، مُنحت وسام الاستحقاق الوطنيّ (الصّنف الرّابع) في المجال الثّقافيّ، قبل سنوات قليلة من تتويجك بجائزة الإبداع الأدبيّ، في بيروت عام 2007. أيّ إضافة تمنحها الجوائز للمبدع؟
الواقع أنّني أعد نفسي كاتبًا هاويًا، ولا تعنيني الجوائز كثيرًا. كما أنّني أراها تتويجًا ممكنًا لتجربة إبداعيّة. لكن لا يسكنني أبدًا هاجس الكتابة لأجل الحصول على جائزة. الجوائز الأدبيّة محفّزة للكاتب عمومًا، وهي ضروريّة للتّشجيع على الإبداع. غير أنّ النّصّ يبقى هو الأهمّ. فالجائزة لا تصنع نصًّا جيّدا، بل تتوّجُهُ لاحقًا إن كان في مستوى الجودة والإضافة.

(*) ثمة ستّة كتب ترجميّة تضمّنت منتخبات من نصوصك الشّعريّة إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة والايطاليّة والفارسيّة. كيف يمكن للتّرجمة أن تفتح أفقًا أوسع للتّواصل مع الشّعر (وحركة الأدب) العالميّ؟ وفي رأيك، ما أسباب ندرة ترجمة شعرنا العربيّ إلى لغات أخرى؟
منذ سنوات، غيّرت مساري متوجّهًا إلى ترجمة نصوصي إلى اللّغات الأخرى. فتحصّلتُ على ترجمات قام بها بعض الأساتذة والشّعراء لمنتخبات لي باللّغتين الإنكليزيّة والفرنسيّة، خاصّة في القصّة القصيرة جدًّا، وفي الشّعر أيضًا، إلى جانب مجموعات لي كتبتُها باللّغة الفرنسيّة، أو ترجمتُها إليها. وأذكّر أيضًا بأنّني منشغل بالإصدارات الإلكترونيّة، ولديّ كتب صادرة رقميًّا. ذلك أنّني أعد هذا التّوجّه من الأهميّة بمكان لأنّه الأيسر أمام صعوبة النّشر الورقيّ وإكراهاته. كما أنّ الإصدار الرّقميّ يحقّق انتشارًا عالميًّا أوسع.
أمّا عن ترجمة الشّعر العربيّ إلى لغات أخرى، فهي مسألة جوهريّة، غير أنّنا نجد ترجمات نادرة. فالأمر لا يخصّ الشّعر وحده، بل يتعلّق بمجمل ما نُترجمه، أو ما يُترجم لنا من قبل الآخر. فعدد الكتب العربيّة المترجمة في جميع الأقطار العربيّة لا يعادل ما تترجمه دولة واحدة كإسبانيا على سبيل الذّكر.

(*) انتخبت لدورتين في الهيئة المديرة لاتّحاد الكتّاب التّونسيّين من 2012 إلى 2017، وقبل ذلك ترأّست فرع الاتّحاد في توزر من 2007 إلى 2010. ما الّذي خرجت به كحصيلة لهذه المشاركات والتّجارب النّقابيّة؟
خرجت بخفّي حنين، أو من دونهما أصلًا. العمل في صلب اتّحادات الكتّاب والجمعيّات عمومًا مرهق ومستنزف لجهد الكاتب. فهو يطهو للآخرين، وينصب لهم موائد ليأكلوا، فإذا شبعوا لم يسلمْ من أذاهم، وإذا لم يشبعوا فالأمر هو ذاته. هذه التّجربة أتاحت لي التّعرّف إلى كتّاب يجمعون بين ما هو إبداعيّ وإنسانيّ، وهم قلّة، والتّعرّف إلى كتّاب عكس ذلك وهم كثر. أمّا رئاستي لفرع اتّحاد الكتّاب التّونسيّين في توزر لدورة واحدة، فقد كانت ناجحة جدًّا بشهادة الجميع. أصدرتُ خلالها بمعيّة زملائي 18 عملًا أدبيًّا، وأسّست مجلّة أدبيّة عنوانها "لقاء"، وناديين هما "لقاء السّبت الأدبيّ"، و"جسور الإبداع"، إضافة إلى حصول الفرع على مقرّ مجهّز، وإحداث مكتبة فيه، واستضافة عشرات الكتّاب من تونس وخارجها وتكريمهم. حين أصابني الإرهاق تركتُ الفرع، وتركتُ جلّ الجمعيّات لأعتني بنصوصي.

(*) ثمة تجربة أخرى تتعلّق بأدب الطّفل، ليس فقط من خلال مجلّة "فوانيس"، إنّما بكتابة القصص للأطفال. كيف هو هذا المشهد في تونس؟
أكتب قصصًا للأطفال، وقد أصدرت بعضها. جاءت الفكرة حين لاحظت يأسًا مّا من الكبار، وخيبة أمل فيهم. فقلتُ في نفسي لأتوّجه إلى الجيل الجديد، وطرق أبواب أخرى، لعلّها تؤسّس لمستقبل أدبيّ أفضل. وعلى هذا التّقدير أحدثنا مجلّة "فوانيس" للأطفال، وأصدرنا أعدادًا منها، ثمّ انقطع إصدارها منذ تفشّي جائحة كورونا، علمًا أنّ المجلّة تلك تديرها هيئة تعمل تحت إشراف جمعيّة "مداد" للقراءة والكتاب في توزر، الّتي أترأّسها.



في تونس، يوجد كتّاب كثر يكتبون قصصًا موجّهة إلى الأطفال والنّاشئة، ويصدرونها. هنالك غزارة في الإنتاج مقارنة بالوضع السّابق، غير أنّ الذين يكتبون شعر الأطفال يعدون قلّة، وهذا أمر يستدعي الانتباه والمراجعة، لكونه يهمّ مستقبل الشّعر عمومًا.