Print
صدام الزيدي

طه الجند: غياب المثقف وتهميشه لم يأتيا من فراغ

28 يوليه 2022
حوارات



 

"ريح وراء ريح/ جهات تنصت لوقع أقدام/ كمضارب الطبل المنتشي/ تبدو كقوالب الطين/

حجارة مهمومة ومقرفصة في الشعاب/ في المكان الغائم حقول مبللة/ وفلاح أجير وراء المحراث/ الراعي يحدق في شجن/ برعد مبهم وزريبة مسورة/ بنجمة للسماء/ بقرية مجاورة/ وقمر إضافي/ يربك السواقي والعشاق/ كلاب القات المدببة/ طولقة السوق/ ينحدر من جبال ذات أنوف معقوفة/

ينحدر من مكمنه جنوبًا/ في السهل يقف مع الأمر والفراغ/

كم هو نحيل وخافت ذلك البحر/

أمور بعيدة تستوي على المراكب/ تستوي أرض النائم/

في الربيع تزهر شجرة البرقوق/

ونقطف الرمان في الحال/

الراعي الصغير لم يكبر/ ولم يتغرب بعد/ أنا خائف يا أمي

من وشوشات الليل/ من رجلٍ في الخارج يقول إنه أنا".. هكذا يكتب الشاعر اليمني طه الجند، وهكذا ما زال في النص بقية: "أنا خائفٌ يا أمي"، وهو أحد نصوص المجموعة الثالثة "رجل في الخارج يقول إنه أنا"، الصادرة في 2008، والتي سبقتها: "زمن الجراد" 2000؛ "أشياء لا تخصكم" 2004، قبل أن يعود الشاعر لإصدار مجموعة رابعة (في 2018)، اندلعت في أتون الحرب، عنوانها "البيت الهادئ يدعو للقلق".

فيما بعد، أصبحت قصيدة "أنا خائفٌ يا أمي"، أيقونة محبة وخوف في منحدرات بلاد كلما داهمها ضوء باغتته الظلمة، غير أنها ارتبطت بطه الجند، صوتًا مغايرًا، وصاحب عنونة أكثر إدهاشًا وشاعريةً، فصارت نجمةً في مسيرته، كما في كتابه: "رجل في الخارج يقول إنه أنا"...

في يوم (من أيام تموز/ يوليو 2022) هادئ يمضي للغروب، تحت سماء ملأى بغيماتٍ ومطر يتخفّى، بدت صنعاء مزارًا لنجوم في الأفق المكدور، وكنت ساعتها، أتفقد لايكات وتعليقات الأصدقاء في "فيسبوك"، عندما هبط تعليق لطه الجند ومثل طائر جريح فررت إلى ماسنجر "فيسبوك": أيها القابض على جمر الكتابة في بلد المتاهات السبئية... هل يمكننا أن ننجز حوارًا معك؟ وأردفت: "في الليل أبعث أسئلة، إذًا"، بعد موافقة سريعة مؤثثة بالعبارة النقية "والله مشتاق لك يا صدام.."، لتأتي إجابة قاطعة وضعتني في امتحان (مهنيّ): "تعرف أنني كسول... ليكن الحوار الآن":

(*) كل هذه الحرب وما زلت تقاوم بالشعر.. هل من رهان آخر؟

في هذه الدوامة لم يعد هنالك خيارات متاحة. حتى الشعر الذي نحاول في أوقات الضيق أن نحتمي به ونناوش البلاء، يبقى خيارًا غير قادر على استيعاب مخاوفنا وأحزاننا في عالم يعيش على إيقاع السرعة والبله وتسليع كل شيء.

(*) برأيك، كيف غاب صوت المثقف، لولا بقية التزمت الصمت والمعاناة؟

طبعًا، الغياب والتهميش للمثقف لم يأتِ من فراغ، فهو نتيجة لما حصل من تحولات ليس على المستوى المحلي بل على المستوى العالميّ، بعد سيادة الليبرالية الجديدة، التي ربطت مصير البشر بالسوق والسلعة وأفرغت القضايا من محتواها وروجت للطائفية والتطرف والنضال بالتجزئة.

(*) منذ "زمن الجراد" وحتى "البيت الهادئ...." أين تجد نفسك وقد تصرمت سنوات وتعثرت بلاد؟

أجد نفسي في الصافية (منطقة يقيم بها الشاعر وسط صنعاء) أدور وأحاول الهدوء ومعرفة ما جرى، لكن الأحداث المتلاحقة لا تساعدنا على فهم أي شيء.

(*) فيما قبل عام 2000، وما بعده، ما الذي استجدّ في قصيدة النثر اليمنية؟

لا شأن لي بالنقد والتنظير، لكني كقارئ ومتابع، أقول إن هناك تجارب متفاوتة، وإذا كان جيل المرحلة الورقية أكثر رصانةً ووضوحًا، بينما جيل الفضاء (شعراء ما بعد عام 2000) لديه مساحة وفرص للمغامرة والتجريب، وهذا لا يخص اليمن ولكنه مزاج عام وسائد.

(*) كيف تم استدراجك إلى "فيسبوك".. حدثنا عن هذه التجربة، القصيرة نوعًا ما؟

في البداية، عمل لي أولادي هذه الصفحة، وكانوا يأخذون مني نصوصًا بين وقت وآخر وينشرونها، وكنت أشاهدها من تلفوناتهم، ثم انتقلت الصفحة إلى تلفون ابنتي لأنها متواجدة، ثم تعبت، فاقتنيت تلفونًا وكنت أتابع وإذا أردت أن أعلق أو أكتب منشورًا أطلب منها أن تكتبه. المهم، أخيرًا تعلمت بالتدريج ودخلت السوق، ولسهولة التواصل أصبحت مفسبكًا، وتعرفت على شباب وكتاب.. استفدت من هذه اللخبطة في هذا العالم الوهمي، وخاصمت وتعبت أيضًا. وفي كل مرة أشعر أنني أصبحت مدمنًا، أتوقف لفترة، أستعيد حواسي ونفسي ثم أعود.

(*) وسط هذا الوادي الكثيف، كيف نتلمس طريق المعرفة؟

أنا طبعًا كنت بعيدًا عن هذا الزحام الأدبي ومؤجل الكتابة (قبل ثورة "الفيسبوك")، حيث كنت أعمل مدرسًا في التربية والتعليم، وقضيت أجمل السنوات بين الناس.. عشت وتعلمت الكثير من الحياة، وكنت أعتبر الكتابة مهنة (غير جميلة)، ثم جاء عالم "الفيسبوك" وأنا شبه متقاعد، أتسكع في المقاهي والأرصفة... وطبعًا، ثمة مساحة سهلة للتعلم والمعرفة وبإمكان أي شخص أن يكتب وينشر بلا مواصفات وتزكية، وهنالك تجارب مهمة في هذا الفضاء، وفي المقابل، هنالك زيف وتشابه، فلا تعرف كيف تفرق بين الناقة والجمل!، إلى جانب أن هناك فرصًا للعلاقات السائبة والاستهبال والتعارف والأوهام والخصام كما أنه يسبب حالة من الإدمان. الحملقة جعلت البشر تائهين ومسلوبي الإرادة وفي حالة إنهاك ومنفلتي الأعصاب...

وإن كنت ما أزال أقرأ في الكتب الورقية، ولا أثق كثيرًا بما يجري في هذا الفضاء (منصات التواصل).

طه الجند 

طقوس

(*) الكتابة لديك.. هل هي "ضربة عصا في بحر"، بلا أجواء مسبقة؟

أنا شخص مزاجي وغير منضبط. عندما تأتي اللحظة وأنا محاصر وبلا فرصة للهروب، أدخل في معركة على الورق.

(*) "جهات المحبين"، مجموعة شعرية (جديدة) قيد الطبع حاليًا.. حدثنا عنها؟

"جهات المحبين" عبارة عن قصائد لأصدقاء وحالات سبق أن نشرت معظمها في صفحتي على "فيسبوك". وهناك مجموعة قصائد غنائية كتبتها لصباح، زوجتي، في لحظة خاصة وبقيت لأجلها، كنت أنوي إصدارها في مجموعة مستقلة، لكني أخيرًا قررت ضمّها لهذه المجموعة.

(*) لنعد بالذاكرة إلى البدايات: لحظة اكتشاف شاعر سيشتبك لاحقًا مع "زمن الجراد"؟

كل إنسان لديه طفولة وأحلام، وإن كانت العودة للبدايات رحلة ممتعة أحيانًا، وفي أوقات تصبح رحلة وعرة ومكلفة. أتذكر وأنا أرعى الأغنام، وبعدها في الابتدائي، كيف كانت تبدو لي الأشياء والناس والليل والنهار؟... لقد كان ذلك العالم شاعريًّا وقريبًا، ومنه نستمد أحلامنا، ونتأكد من وجودنا الذي طال، وضاقت المساحات والأنفاس... طوال هذه الرحلة وأنا أنتظر القصيدة التي تحكي كل هذا.

 

*****

"يكتب أصدق وأجمل ما فينا" (شهادات)

"جاء طه الجند إلى عالم الشعر والثقافة من طبقة مكافحة، جاهد بكل طاقته لأن تكون له مكانته في التعليم والحياة، ولهذا بدت نصوصه وكأنها ممزوجة بعرق الفقراء وهواهم"، وفقًا للروائي المقيم في فرنسا، علي المقري (صديق الجند وأحد رفاقه الذين شهدت قصيدة النثر اليمنية على أيديهم فتوحاتها الأهم في التسعينيات)...

ويجزم المقري، في حديثه لـ"ضفة ثالثة": إن تلك النصوص، جاءت "حرّة ومتذمّرة ورافضة على الدوام"، ذلك لأن شعر طه الجند لا يأبه بالجماليات الراسخة والمكرسة ويمضي إلى ما هو مُعاش ومفارق في التقاطاته.

وختم المقري قائلًا: بالنسبة لي، طه الجند قصيدة تمرّد كبيرة لم تُكتب وإن كُتبت، هو حياة شعرية يومية لا تؤطر أو تختزل بكلمات كتبها هو أو كتبناها نحن عنه.

من ناحيته، يقول الشاعر والناقد علوان الجيلاني إن للجَنَد "منطقة خاصة" في الشعرية اليمنية، تميزه عن الآخرين: "اشتغالاته تتم في منطقة خاصة، واكتشافه لمنطقته الخاصة جاء استجابةً لمزاجه وتكوينه النفسي، لحساسيته الروحية وحاسته الشعرية".

وينوه الجيلاني بأن اشتغالات الجند لم تكن قصدية، ولم تتدخل ثقافته وقراءاته في اجتراحاته الشعرية، علمًا أنه مثقف من الدرجة الأولى وعلى وعي تام بعالمه الخاص والعالم المحيط به.

وللأسباب السابقة، يتابع الجيلاني، تميزت قصيدته بالتلقائية والعفوية، وتميزت بحضور فاعل للمكان ملتبسًا بتجليات إنسانه، وهذا سر تأثيرها فينا ومصدر سطوتها علينا حين نتلقاها. فنحن نشعر أنه يكتب أصدق وأجمل ما فينا، بساطة عيشنا، ووجوه أمهاتنا، ورائحة الأرض التي تربينا ملتحمين بطينها، مشغوفين بخضرة زرعها، وكرم سنابلها.

ويعتبر علوان، أن صوت طه الجند، يمثل، في الوقت نفسه، رفضنا للعنجهيات الفوقية بما هي سلطة وتسلط وإكراهات وتكريسات واعتساف للواقع وتجاوز لحقائقه على الأرض.

وثمة سمة أخرى، أيضًا، تتمثل في كونه من الشعراء الذين لا تستطيع التفريق بينهم كوجود إنساني وبين إبداعهم كوجود موازٍ لذلك الوجود.

غير بعيد، يقول الشاعر المقيم في الإمارات، أحمد السلامي: طه الجند شاعر متمرد ومقاوم لحالات الزيف سواء في الأدب أو السياسة أو الحياة العامة، وتجده يرفض النفاق والتموضع الكاذب في المشهد، رغم معرفته أن كل ما حوله يغري بالتموضع في الأوهام وارتداء الأقنعة، لكنه لا يستطيع بسبب فائض الحرية والإنسانية والروح المتمردة التي تسكنه.

ويضيف السلامي، متحدثًا عن تجربة الجند ومستعيدًا بعض ذكرياته معه: إنه شاعر حقيقي بلا شكليات وبلا تنظير وبلا ادعاءات أو ركوب مفتعل لموجة اللغة والشكل، وتجده معنيًا في النهاية بتلك الزفرة التي يقولها اليمني الحائر وهو يطل على بلده وعلى حياته من على رأس جبل أعلى بكثير من شكليات الحداثة وكل مصطلحات النقد المنافق.

ويلفت السلامي الانتباه، إلى أن الجند شاعر حداثيّ بالفطرة وبمزاج شعبي مخلص للوقوف أمام الذات والشعور بالغربة في كل المراحل، باستثناء مرحلة القرية والريف والمطر والريح والأرض، هذه مفردات وحياة لا يشعر فيها بالغربة لأنه ابن الواقع الحي لا الزيف والاصطناع.

ويتابع: أعتز كثيرًا أن طه كان يسلم لي قصائد مخطوطه، وكنت أقوم بطباعتها وإعدادها للنشر في موقع "عناوين ثقافية" الذي توقف، وذات مرة أعطاني قصيدته التي اشتَهَرت بعد ذلك، وفيها: "أنا خائف يا أمي من وشوشات الليل/ من رجل في الخارج يقول إنه أنا". ولم يكن قد وضع عنوانًا للنص ولا للديوان "رجل في الخارج يقول إنه أنا"، بعد.

ختامًا، يقول السلامي: دائمًا ما نشعر أنا وطه بقرابة روحية تجمعنا، لذلك كتبت إليه هذا المقطع الذي أختم به هذه التحية:

نعم هي قرابة مؤكدة بيننا يا طه الجند

نتشابه في اليُتم والحنين إلى القرى البعيدة

إلى تلك الشعاب والبيوت المعلقة في أرواحنا

جئنا إلى صنعاء لكننا لم نعثر عليها

لم نعثر على المدينة ولا على المطبعة

عثرنا فقط على حراس الليل وجرائد مكررة

جئنا إلى قرية كبيرة لا تشبه حلم الشاعر

المقهى مغلق والأصدقاء سقطوا سهوًا

البلاد مشروخة بين صرختين وثالثة للعدم

وكم كانت الحانات المفتوحة في الروايات تخدعنا

كم كان الجاوي رومانسيًا

الأسئلة القديمة لا تزال متروكة بلا إجابات

الحائرون أمثالنا وجدوا الجواب في الحيرة ذاتها

والذين عثروا على اليقين تقاتلوا

تركونا نتقدم في العمر

متخففين من كل شيء

إلا من الشك الأنيق!