أغنى الباحث المغربي عزيز العرباوي، بما قَدَّمَه من دراسات وكتبٍ ومؤلفات، مدّونة النقد العربي، أضفْ إلى ذلك إسهاماته في حقل الرّواية، فقد أصدر سنة 2022 رواية بعنوان "شهوة السؤال... رحلة العشق والثورة"، بيد أن ما يشغل العرباوي أكثر هو أسئلة النّقد والأدب والنظرية الأدبية، وحَقَّقَ في ذلك تراكمًا نوعيًّا، ومن جملة مؤلفاته في هذا المجال نذكر على سبيل المثال لا الحصر: "تجليات التراث في الفكر العربي والإسلامي: الجابري وأركون نموذجًا" وكتاب "بلاغة الخطاب السردي في الرواية السعودية: مقاربة تداولية لرواية طوق الحمام للروائية رجاء عالم" و"رمزية الماء في التراث الشعري العربي"، وغيرها من الكتب النقدية، بدون أن نغفل عن مساهمته في حقل الترجمة. والعرباوي، علاوة على ذلك، عضو مؤسس لصالون مازاغان للثقافة والفنون... التقيته مؤخرًا بمدينة المحمدية وكان لنا معه هذا الحوار:
(*) المتتبع لمسيرتك الإبداعية سيلمس أنك تزاوج بين كتابة النقد والرواية والمقال الأدبي والترجمة... كيف تنظر إلى هذا التنوع في الاشتغال؟ وأي الأجناس الإبداعية الأقرب إلى ذائقتك؟
باعتباري قارئًا نهمًا، فإني أعتبر الاشتغال على الكتابة بصفة عامة ومحاولة استغلال هذه القراءات المتعددة والمتشعبة في صنوف الفكر والأدب والإبداع، مسألة واجب إنساني بالدرجة الأولى وفرض وجب عليّ القيام به وفق قناعة فكرية وثقافية تفترض ردّ الجميل لأصحابه والمساهمة في توعية أفراد المجتمع قدر المستطاع. أما بالنسبة لمسألة التنوع في الكتابة، فإنها مسألة مرتبطة أساسًا بالذائقة الأدبية والفكرية، حيث إن الاشتغال على النقد والاهتمام به بالدرجة الأولى مرده أننا في مجتمعاتنا العربية في حاجة إلى النقد بكل أشكاله وأنواعه، نقد الثقافة والفكر والسياسة والسلوك والموقف والقرار... فلا يعقل أن يهتم الجميع بالكتابة الإبداعية ونصوصها المختلفة وإغفال النقد، نقد هذه النصوص المعبّرة عن قضايانا وعن مجتمعاتنا ومستوى تفكيرها.
ومن هذا المنطلق ارتأيت في البداية، وبعد تجريب الكتابة الإبداعية من شعر وقصة قصيرة ورواية، أن ألجأ إلى النقد الأدبي والمقال الفكري والأدبي، فوجدت فيه ذاتي واكتشفت قدراتي في قراءة النصوص الأدبية وتحليلها. ولذلك تجدني دائمًا مهتمًّا بما ينشر من جديد في عالم الشعر والرواية والقصة المغربية والعربية. ويبقى النقد تلك الفسحة الجميلة التي أطل على قرائي منها أكثر وأشاركهم من خلالها ما قرأته من نصوص أدبية تستحق التحليل والاهتمام. إن الكتابة عمومًا تحتاج إلى دربة وموهبة وقراءات متعددة لما ينشر هنا وهناك، سواء تعلق الأمر بالكتابة الإبداعية أم غيرها، لأن الأمر يرتبط بمدى قدرة الكاتب على تنويع قراءاته وكتاباته وقدرته على خلق قارئ مفترض يهتم بما يكتبه بالدرجة الأولى.
(*) عطفًا على جوابكم، ألا تؤمن بالتخصص في مجال الكتابة؟
لا يمكن القول إنني ضد التخصص في الكتابة، أو اختيار مجال معين ومحدد من أجل الاهتمام به وجعله أولوية في الكتابة والبحث؛ وإن كنت أرى، وهذا رأي يلزمني شخصيًا ولا يلزم أحدًا آخر بالطبع، أن التخصص في الكتابة صار لا ينفع في شيء، ولا يخلق أمام الكاتب المتخصص مجالًا شاسعًا للإبداع والقراءة والتنوع فيهما. ولعل تاريخنا مليء بالتجارب والأمثلة الساطعة على أسماء عظيمة أبدعت وكتبت في العديد من المجالات العلمية والأدبية بدون شعور بالحرج أو بالنرجسية؛ فالتخصص يورث الملل في القراءة والكتابة، ويجعل من الكاتب المتخصص آلة تعيش على شكل واحد ووحيد. فالادّعاء بأن التخصص يجعل من صاحبه مبدعًا فيه ومجدّدًا كلام عارٍ من الصحة، ولا نكاد نجد متخصصًا قد أبدع نظرية جديدة أو شكلًا مختلفًا عن غير المتخصص، بل بالعكس نراه يجتر النظريات السابقة ويعيد تشكيل ما كتب فيه وبنائه وفق قناعاته الفكرية ورؤيته للأشياء والواقع لا غير.
طبعًا، أنا هنا لا أتحامل على المتخصص في هذا الأمر، بل أدافع عن حقه في الاختيار؛ لأنني أؤمن أن الكتابة حرية اختيار بالدرجة الأولى لا يلزمه بها أحد. لكن يبقى رأيي الخاص في أن العالم اليوم ليس في حاجة إلى المتخصصين بقدر ما هو في حاجة إلى المثقف الموسوعي القادر على تشكيل وجهة نظر متعدّدة المرجعيات والمصادر تخدم المجتمع عامة.
(*) من خلال حضورك في الساحة الثقافية لعقدين من الزمن، كيف تنظر إلى الحركة النقدية بالعالم العربي، وفي المغرب على وجه الخصوص؟
لقد سبق أن قلتها في مناسبة ماضية أن النقد العربي يعيش أزمة يصعب علينا تحديد ملامحها وحيثياتها الأساسية؛ نظرًا لغموض الوضعية واستسهال الكتابة النقدية عند الكثيرين الذين جعلوا من النقد وسيلة لتحقيق غايات وأهداف شخصية مادية ومعنوية. كل هذا يخلق للنقد العربي مشكلات كبيرة تتعلق بقدرته على قراءة ما ينتج ويصدر من نصوص إبداعية بشكل هستيري لا يراعي أية خصوصية أو إمكانية متاحة؛ إضافة إلى وجود نقد أكاديمي متخصص، على قلته وندرته في بعض الأحيان، قد يقول عنه البعض إنه نقد جاف أو يستدعي النظرية والمنهج بشكل صارم، لكنه يبقى نقدًا جيدًا بالمقارنة مع ما يكتبه بعض الصحافيين والكتاب المبتدئين في الصحف العربية من المحيط إلى الخليج.
إن النقد في عالمنا العربي يشكل السبيل الوحيد لإعادة النظر في مدونتنا الأدبية وعدم وضعها في موقف محرج أمام القارئ العربي والعالمي. لقد وصل الاستسهال بالكتابة الإبداعية اليوم، بفضل منصات التواصل الاجتماعي وتفريخ المواقع الإلكترونية، إلى مدًى أصبح فيه الأدب العربي بمثابة مقهى عمومي يدخله أي أحد متى شاء؛ والسبب بالطبع ليس النقد، لأنه قاصر على الإحاطة بكل ما ينشر أو قراءة هذا العرمرم من المنشورات هنا وهناك، بل هي مسؤولية دور النشر التي أصبح الربح يعمي عينيها عن أهم شيء وهو المساهمة في نشر الأدب الأصيل والجميل والهادف.
يمكن القول إن النقد المغربي بخير نسبيًا، خاصة وأننا نعيش استنارة نقدية واضحة المعالم تلوح في الأفق، بل إن ما يحصده النقاد والباحثون المغاربة من جوائز عربية كبرى وعالمية دليل على كلامنا هذا. لقد صارت للنقد المغربي تجارب مهمة وأصبحت هناك أسماء يستشهد بها العديد من الكتاب والباحثين والنقاد العرب الآخرين الذين يهتمون بهذا المجال؛ فسعيد بنكراد، وسعيد يقطين، ومحمد مفتاح، وعبدالفتاح كيليطو، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري... وغيرهم، أمثلة حقيقية على قولنا هذا. بل إن حصول نقاد شباب مغاربة على جوائز عربية مهمة كجائزة كتارا بقطر، وجائزة الشيخ زايد للكتاب... أفضل دليل على ذلك. ولعل الكتب التي تظهر بين الفينة والأخرى وتسابق دور بعض النشر العربية الكثيرة إلى نشر الكتب النقدية لنقاد مغاربة يؤكد هذه النظرية.
علينا الإقرار بأن النقد المغربي في أوج عطائه، خاصة وأنه يضطلع بدوره في التعريف بالتجارب الإبداعية المختلفة، على المستوى الوطني والعربي معًا؛ حيث يمكن للقارئ المهتم أن يجد في المكتبة المغربية والعربية العديد من المؤلفات النقدية التي تهتم بالمنتوج الأدبي، وحتى بما برز من نظريات ومناهج أدبية حديثة وجديدة. فشغل الناقد المغربي الشاغل هو الظهور بمظهر المتابع الجيد لما ينتج في الساحة الأدبية العربية والغربية بدون تكاسل منه أو تخاذل.
(*) نلاحظ في الآونة الأخيرة توجهًا كبيرًا نحو كتابة الرواية والكتابة عنها... كيف تفسّر هذا الاهتمام بالرواية كتابة ونقدًا قياسًا مع باقي الأجناس الأدبية؟
كلامك صحيح؛ فالتوجه نحو كتابة الرواية على المستوى العربي، وخاصة لدى العديد من الشعراء والنقاد العرب يطرح العديد من الأسئلة، أهمها: هل وجد هؤلاء أنفسهم مضطرين إلى دخول غمار الرواية بسبب مقروئيتها الكبيرة واهتمام الجميع بها؟ أم أن الأمر خلاف ذلك؟ أو هل الرواية جنس أدبي يغري الجميع بالكتابة فيه نظرًا لما تمنحه للكاتب من حرية في التعبير ومساحة شاسعة من البوح لا يجده في الشعر والقصة القصيرة والنقد؟ إن الجواب عن هذه الأسئلة قد يختلف بين هذا الكاتب وذاك، لكن يبقى أهم جواب هو أن الرواية بالفعل مغرية، تجذب الكاتب والقارئ معًا إلى عوالم أخرى مختلفة عما تحققه باقي الأجناس الكتابية الأخرى. لأنها في نهاية المطاف مجال إبداعي يستدعي باقي الأجناس الأخرى ويعطي للروائي ما لا يستطيع أي جنس آخر إعطاءه إياه.
ليست هناك وصفة واحدة للكتابة الروائية والإبداع عمومًا، وبالتالي لا يمكننا أن نحصر الكتابة الإبداعية على أصحابها دون غيرهم من النقاد والباحثين والعلماء... فهناك نقاد متميزون استطاعوا أن يكتبوا نصوصًا روائية وشعرية عظيمة تركت أثرها الكبير في القراء والنقاد، سواء في الغرب أم في العالم العربي. وتحضرني الآن أسماء من قبيل الناقد والروائي المبدع محمد برادة، والشاعر الناقد محمد بنيس، والناقد المبدع شكري المبخوت... وغيرهم كثيرين. فأغلب هؤلاء النقاد كتبوا في مجال الرواية على الخصوص، لأنها أصبحت الحصان الرابح في سباق الكتابة الإبداعية اليوم في عالمنا العربي؛ وهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على الرواية، في إطار بروزها وطغيانها على باقي الأجناس الأدبية الأخرى، قد وجدت لها فضاء للحرية والتعبير أكثر من غيرها.
إن سؤال السرد العربي يستدعي العديد من الجوانب الأساسية لتحليله والوقوف على ملامحه واتجاهاته المعرفية والثقافية؛ حيث إنه سرد يبالغ في التكرار، تكرار الموضوعات والقضايا المطروحة، ونكاد نجد أن النسبة الكبيرة من النصوص الروائية التي تمّ نشرها في العقود الأخيرة قد تطرقت لأحداث التاريخ العربي والإسلامي، والنسبة المتبقية خصصت للمواضيع العاطفية والاجتماعية على قلتها. وهذا الأمر دليل على أن الماضي ما زال بالنسبة إلينا عقبة في التقدم والتطور والتجديد، تجديد الذات والفكر والعقل.
(*) أصدرت مؤخرًا عن دائرة الشارقة كتابًا حول الترجمة والآخر... حدثنا قليلًا عن هذه التجربة؟
في البداية أشكر دائرة الشارقة على الاهتمام بكتاباتي، كما أشكرها على كل ما قدمته للثقافة العربية من مؤلفات مهمة في مجال الإبداع والنقد والفكر، لأنها استطاعت أن تنفتح على العديد من الكتاب العرب بمختلف مشاربهم. أما فيما يخص الكتاب المذكور والذي يعتبر ثالث مؤلف يصدر عن الدائرة، فهو يختص بموضوع الترجمة عمومًا وأهميتها في خلق جسور التواصل مع الآخر والانفتاح على العالم الذي صار مجرد قرية صغيرة بفعل التطور التكنولوجي الهائل الذي عرفته البشرية منذ عقود مضت وما زال هذا التطور يفاجئنا كل يوم.
إن الاهتمام بالترجمة وأهميتها الكبيرة في خلق تواصل فعال ومثاقفة إيجابية مع الآخر، باعتبارها من القضايا المتعلقة بالتطور الثقافي والعلمي وإسهاماتها المتنوعة في تكريس الحوار مع الآخر في كونه شريكًا لنا في العالم، فقد عملنا في هذا الكتاب على التطرق إلى موضوع الترجمة وتطور اللغة العربية من خلال الحديث عن مساهمة الغرب في ترجمة القرآن الكريم، والترجمة وتطور العربية، والترجمة وتعلم اللغات الأخرى، والحضارة العربية الإسلامية وتأثيرها في الثقافة العربية، وموضوع الترجمة في عصر النهضة. كما حاولنا معالجة موضوعًا مهمًّا يتعلق بعلاقة الترجمة بالتعريب، من خلال المواضيع التالية: عن التعريب والترجمة، التعريب العلمي، التعريب والتغريب، الترجمة والفلسفة، وترجمة النصوص الأدبية... أما الموضوع الأساس الذي يقوم عليه الكتاب وهو علاقة الترجمة بالحوار مع الآخر فقد توقفنا عند المواضيع التالية: الاختلاف الثقافي والحضاري، المستوى الحضاري للترجمة، الترجمة والانفتاح على الآخر، الترجمة في ظل علاقة الذات بالآخر، الذات في مرآة الآخر، والترجمة والمثاقفة.
(*) كلمة أخيرة...
ككلمة أخيرة، أتمنى أن أرى عالمًا مسالمًا لا يعيش صراعات وحروبًا لا نفع فيها ولا نتائج قد يعتقد أطراف الصراع أنها ممكنة التحقق. إن الصراع الإنساني على مصالح اقتصادية أو سياسية لا يمكن أن يحقق سلمًا عالميًّا أو حتى حوارًا حقيقيًّا؛ وكل من يدعي غير ذلك فهو مخطئ ولا يعرف حقيقة الأمور. إن التدافع بين الناس من أجل المصالح سُنّة محمودة، لكن الحروب مذمومة تنتج القتل والتشريد والتشرذم، ولعل ما تعيشه الشعوب المشردة في العالم أفضل دليل على ما نقول.