Print
علاء زريفة

آيات القاضي: الحرب شوّهت أرواحنا أكثر

11 سبتمبر 2024
حوارات

في مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان "الشتاء يعود وحيدًا"، الصادرة مؤخرًا عن دار النهضة العربية في العاصمة اللبنانية بيروت، تستنهض الشاعرة السورية الشابة آيات القاضي كل مفردات الخيبة والرجاء في بلادٍ لم تعد بلادًا؛ "البلاد التي لم نصدّق سواها"، كما تقول في إهداء الكتاب. حيث تخيم على أجواء النصوص كآبة الأسئلة المالحةِ الباحثة عن جدوى وعن طريق نجاة ولو حتى بـ "زهرة دمنا".

نصوص شعرية مكتوبة بلغة النثر المفعم بالشفافية والصدق، والصورة الخاصة التي تحمل ملامح ووجع صاحبتها، رغم طابع الرثاء لأجسادٍ بلا ظلال، وتصوير لأشكال الموت الفردي والجمعي الذي أصابنا كسوريين جميعًا. الموت "المجاني ككذبة" كما تقول. يختلط مع وجوه الطبيعة الصامتة التي تمنحها الشاعرة روحًا، ويمسي صوتًا للاحتجاج المُر، والصراخ الأبكم الذي يكاد لا يسمعه أحد. فـ"كم مرة علينا أن نموت ليخجل العالم البائس من أوجاعنا".

ومع ملامح المدينة الغريبة عن أهلها التي استحالت مقابر للجمال والحب والغواية، بينما لا يزال "للشعر رأي آخر"، فهي تكتب الشعر لتعيد تشكيل العالم في "آخر هذياناته"، مستعيدة ولو لبرهة سلامة الحالم والنزوع إلى الذاكرة في "مدينة فقدت وجهها ووضعت ما تبقى من جسدها في حقيبة سفر" في تأريخ شعري للتغريبة السورية المستمرة حتى اللحظة.

هنا حوار مع آيات القاضي:

(*) يُدلل العنوان "الشتاء يعود وحيدًا" على البلاد اليتيمة التي فقدت جزءًا كبيرًا من روحها ووجودها، ويوحي بالكآبة والفصل الذي فقد دفئه وحميميته كانعكاس لبرد الاغتراب سواء داخل الوطن أو خارجه، كيف تفسرين ذلك؟ وهل هناك أبعادٌ أخرى للعنوان تريدين توضيحها للقارئ؟

دعني أقول لك بداية إن الشتاء في أحد أشكاله يشبه دمشق. بلادنا التي تركتنا في فوضى التأويلات والاحتمالات القاسية في معظمها. دمشق جميلة، قاسية، غامضة وعصية على التفسير كوجه الشتاء. الشتاء يعود وحيدًا في بعده النفسي يختزل غربة الوجوه والعوالم والأماكن التي عاشها السوري في منفاه الداخلي والخارجي. فما معنى أن تمتلك رصيفًا في بلادك ولا أقدام لديك؟! ما معنى أن تزرع وردة في حقول بلادك ولا عيون في وجهك؟! الحرب شوَّهت أرواحنا أكثر.

الكآبة التي تسيطر على المناخ العام للقصائد تشكل في أحد أبعادها شرطًا إبداعيًا، فحين نجيّر الشّعور الذي يسبّب لنا الألم ليكون ندًا عندها نحقق شرط الألم الإبداعي في استنطاقه والبوح له. أواجه الكآبة بالكتابة أو ربما أشركها في عملية الكتابة. كما أواجه العالم كله بالكتابة مواجهة لا تسعى للتغيير بقدر ما تسعى لخلق حالة سلام. أنا لا أكتب لأغيّر أو لأحكم، أنا أكتب لأواجه الهشاشة بالمرح، الكآبة بالفن، والعزلة بالشعر.

أعتقد أنني كنت وفية لحضرة الشتاء، وذلك في موعد صدور الديوان الذي كان في تشرين الأول/ أكتوبر من جهة، وفي استدعائي لذاكرة دمشق الشتوية من جهة أخرى. كتبت شتاء دمشق بكل تفاصيله، عشت دمشق في منفاي أكثر مما عشتها وأنا على أرضها وبين أزقتها، عشت شتاء دمشق في الديوان كما لو كنت مقعدًا خشبيًا قديمًا على أحد أرصفتها أو شجرة سرو تستحم في المطر، أو انبعاث صوت فيروز الصباحي من أحد نوافذ تلك المدينة في سكونها، كضرورة لازمة لصباحات دمشق. هذا العبء الجمالي الذي خلّفته البلاد داخلي، أعدت خلقه بأكثر الطرق نقاءً، فاخترت الشعر لأخلق من هذا العبء قصيدة بحجم وطن. إن الشتاء يعود وحيدًا لأن دمشق تركتنا ورحلت.

(*) تحضر مفردة الحب ضمن قاموسك الخاص في المجموعة، ولكنه، كأي حالة أو شعور آخر، يبدو خائفًا ومطاردًا، ويبدو وجهه مضرجًا بالدم وتفوح منه رائحة الحرب والبارود... كيف عالجتِ التناقض بين الحب والحرب؟ وهل يبدو لك كحاجة قصوى في مقابل الموت اليومي والرخيص في بلادٍ لم تعد بلادًا كما تشي نصوص المجموعة؟

الحب - بكل وجوهه- ينجينا من مأزق الوقت الموحش ومن رائحة القلق والمخاوف. هو أحد أسباب وجودي الشعري، وأقصد هنا الحب بمعناه الشمولي الكوني، يمكننا إنْ فعَّلنا حسّنا الشعري أن نعقد مع رائحة البحر مثلًا علاقة حب، أو أن نرى إلى الغيوم حالة حب؛ الحب الخام الذي يفتح أمامنا أفقًا مغايرًا للتعامل مع أشياء الحياة، الحب الذي يزيح عن أعيننا غبش الجمود الشاعري.

رصدك لمفردة الحب الخائف الذي يختبئ خلف جدران المدينة هي حقيقة ما يحياه السوري يوميًا في مشهد الموت المكرر، وهي كذلك ترجمة للشعور العام في بلاد تعاني من إجحاف الحرب. الحب في بلادنا كائن هش وضعيف وخائف؛ يحمل حزنه النبيل باحثًا عن أناه في عيون دمشق، ولكنه خطير في حال احتضناه. ويستحضرني هنا قول لشاعرة فرنسية تدعى إميلي دي فونتين تقول "إن الحب قوة تشكل حياتنا".

الحب ربما هو الشيء الوحيد المتبقي لنا وهو الأمر الوحيد القادر على أن ينجينا من مقصلات الحرب.

(*) انسجامًا مع السياق السابق، تتناولين صورة البلاد مشوبةً بمفردات التأبين والنزوع نحو العدمية متماهية مع صورة الطبيعية الصامتة التي تمنحينها صوتًا للاحتجاج، كيف تفسرين هذه الروحية التي توحي بالرغبة بالابتعاد والهروب أكثر من البقاء؟ هل يحتمل الشعر كحالة إبداعية كل هذا النزوع العدمي وتصوير الموت بدون مواربة أو تجميل؟ وما الذي يبقى لنا بعد ذلك سوى "شتاء الحقيقة"؟

قصائدي تورطني في الكشف الصارخ عن ما أكنّه، خاصة إن كان القارئ على مستوى من القدرة على رصد الأبعاد وتقدير ما بعد المعنى، رغم محاولاتي الابتعاد عن النزوع العدمي لأنه –حتمًا- في الحياة هناك شيء حقيقي نحيا لأجله، وبالنسبة لي تزامنًا مع فقداني لأشيائي الغالية ابتداءً من بيتنا القروي الجميل وصولًا إلى هويتي الإنسانية. استمالتني العدمية في إحدى مراحل حياتي الفكرية، وبدت واضحةً في كتاباتي ولكنها لم تجد مستقرًا لها في عالمي على الأقل من منطلق إيماني، فأنا مؤمنة بالحياة جدًا.

(*) رغم كل ما سبق، إلا إن نصوص المجموعة كُتبت بلغة شفافة ورقيقة، فهل تغليب صوت الأنثى المتمردة يظهر احتجاجًا على واقع لا يمكن تغييره بـ"قوة الإنسانية" في مقابل السلاح؟ وهل تعتبرينه عتابًا مُرًا؟

الشّعر بحد ذاته هو فعل مكاشفة وتحدٍّ واحتجاج بشرط أن يكون على الحياد من إملاءات الآخر أو من بواكير السابق، وأن يكون في الصميم من صوت الأنا الخفي. الكتابة الحرة والحقيقية تمتلك صوتًا بحجم العالم، أن تكتب وأنت حر يعني أن تواجه واقعك بكل أشكاله بدون أن تتعب، أن تكتب يعني أن تعري روحك أمام نفسك وأمام الآخرين بدون أن تخاف، أن تكتب شعرًا يعني أن تقول كل ما لم تستطع اللغة الأولى قوله على اعتبار أن الشعر لغة ثانية. وفي النهاية أن أكتب شعرًا بهويتي وصوتي ونزوعي الأنثوي يعني أن أحوّل العالم إلى وردة، أو رصاصة.

(*) الكتابة دائمًا هي نزوع نحو حريتنا القصوى كأفراد، فهل هي نوع من النجاة والخلاص لديكِ، أم أرضاء للذات في عالم اليوم الذي لا يعير الشعر اهتمامًا؟ 

الكتابة فعل خلق وإعادة تشكيل للحياة وللعالم وللأشياء، في كل مرة أكتب فيها أعيد تشكيل ملامحي الداخلية وترتيبها، الكتابة قادرة على اكتشافي وتفسيري أكثر مما يلزم. الحرية أجدها في الكتابة كما أجدها في الرقص وفي الموسيقى وفي النزعة الطفولية لأشياء بسيطة. الحرية أجدها في كل ما يقف عنده المجتمع موقف شك أو ريبة أو تحفُّظ. أنا على خلاف مع مجتمعي على ما يبدو، ككل الشعراء والفنانين والرسامين والمجانين العقلاء وأبناء الحياة الحرة الخام.

وبالنسبة للنقطة الأخيرة التي أشرت إليها، فالمشكلة الكبرى هي في تفاقم حالة اللاجدوى، ليس على صعيد القراءة والكتابة فحسب، بل على الصعيد الوجودي ككل. إن العالم يفقد في نظري جدواه تدريجيًا، لأن كل ما نعيشه اليوم هو خدعة الآتي.