Print
ضفة ثالثة- خاص

آخيل مبيمبي: نعيش بمجتمعات الجميع فيها بحالة توتر دائم

13 سبتمبر 2024
حوارات

ترجمة وتقديم: إسكندر حبش

تبدو قراءة المؤرخ والمفكر الأفريقي آخيل مبيمبي (مواليد الكاميرون عام 1957) – الذي يعيش منذ سنين في جنوب أفريقيا حيث يُدرّس في جامعة ويتواترسراند في جوهانسبرغ، والذي غالبًا ما يُدعى إلى الجامعات الأميركية الكبرى مثل كولومبيا أو هارفارد – تجربة فريدة من نوعها، وبخاصة في كتابه الأخير "المجتمع الأرضي" (منشورات "لا ديكوفيرت"، 2023)، الذي به يكمل ثلاثية بدأها بــ"سياسة العداء" (2016) ومن ثم "الوحشية" (2020).
ففي هذه الأعمال نعود لنجد الموضوعات عينها، وهو يبرر ذلك بالتحدي الذي يتمثل في التفكير في علل حضارتنا المعولمة، من خلال الارتقاء إلى رؤية شاملة. وتتمثل أصالة هذا النهج في ربط المستويات أو الظواهر المختلفة التي يتم تحليلها عادة بشكل منفصل: تكاثر الصراعات المسلحة، وتدفقات الهجرة، وندرة الموارد الطبيعية، والقضايا البيئية والمناخية، وأخيرا، ظهور التكنولوجيا الرقمية. 
وإذا كان الخيط الفكري عينه يمتد من كتاب إلى آخر، إلا أن أسلوبه تحرّر من الأسلوب الأكاديمي. فكتاب "سياسة العداء" – الذي جاء بلهجة جدلية وديكارتية إن جاز القول – يُعدّ عملًا من أعمال العلوم السياسية، مع ملاحظة عودة الصراعات في عالم يتسم بندرة الموارد... مع كتاب "المجتمع الأرضي"، يكمل مبيمبي تطوير طريقة أخرى للتفكير والكتابة. يتغير البعد البؤري باستمرار. ينخرط أحيانًا في تأملات كونية حول تكوين الأرض أو ظهور عملية التمثيل الضوئي على سطح المحيطات، وأحيانًا في تحليلات ضيقة، واصفًا بالتفصيل عمليات استخراج الليثيوم أو الحياة اليومية لمزارع العبيد. صحيح أنه احتفظ عبر كتابته بالمراجع العلمية الأكاديمية لكنه يقابلها مع الأساطير الأفريقية القديمة. يتقدم بشكل أقل عن طريق البراهين من خلال الحدس والومضات، من أجل إحياء رؤية عالمية في ذهن قارئ عصرنا، الذي يتميز بتأثير التكنولوجيا والأزمة البيئية. فالأرض، كما يصفها، ليست كيانًا ملموسًا، وليست كوكبًا في النظام الشمسي فحسب، ولكنها أيضًا مدينة فاضلة. في الوقت الحالي، "ليس هناك شعب على الأرض، ولا أمة على الأرض، ولا حكومة على الأرض، ولا برلمان أو تجمع على الأرض، ولا جيش، ولا شرطة على الأرض". إن الأرض مشروع لم يدركه الإنسان بعد، إذا كان لا يريد تدمير الكائنات الحية وتدمير نفسه. لكن لتحقيق ذلك، نحتاج إلى تجديد فئاتنا وتغيير لغتنا.
يكتب مبيمبي: "في الغرب بدأ حلم لغة ذات طابع رسمي كامل في الظهور، ربما للمرة الأولى في تاريخ البشرية". لقد أراد الغرب أن يبني اللغة على العقلانية، وأن ينقيها من "المراوغة". لكنه يقترح التخلي عن هذا الحلم بلغة نقية منطقيا: إعادة الغموض، ومناطق عدم اليقين داخل اللغة، أليس هذا وسيلة لإعادة فتح الاحتمالات؟
من أعمال مبيمبي، نذكر "من مرحلة ما بعد الاستعمار: مقالة عن الخيال السياسي في أفريقيا المعاصرة" (كارثالا، 2000). ويعتمد فيه على إعادة قراءة فرانتز فانون للتفكير في خروج أفريقيا من حالة الهيمنة. و"الخروج من الظلام: مقالة عن أفريقيا بعد إنهاء الاستعمار" ("لا ديكوفيرت"، 2010) حيث يواصل فيه تساؤله عن الطريقة التي تم بها ترك أفريقيا جانبًا في روايات التاريخ الرسمي. أما كتابه "نقد العقل الزنجي" ("لا ديكوفيرت"، 2013) فيقدم تاريخًا موثقًا للعبودية وانعكاسًا لأفريقيا والزنوج، حيث تم تصورهما كنماذج وليس حقائق تاريخية، وقد خدم كل منهما لفترة طويلة جدًا لإخفاء الآخر. يتساءل مبيمبي أيضًا عما يسميه "العالم الزنجي".
حول هذه التجربة، أجرت معه "المجلة الفلسفية" (عدد شهر فبراير/ شباط 2023) حوارًا مطولًا، تحدث فيه عن جملة من القضايا، نقتطف منه التالي:



(*) وفقا لما تقوله، ترسل مجتمعاتنا القليل من الإشارات إلى المستقبل – وذلك على العكس من العصور الوسطى المسيحية التي فعلت ذلك مع الكاتدرائيات أو مصر القديمة مع الأهرامات. كيف تفسر هذا الأمر؟
أراقب ما يحدث حولي. أعيش في جنوب أفريقيا ولكني غالبا ما أسافر إلى أماكن أخرى. بشكل جماعي، في جميع أنحاء العالم، ننشغل بشكل متزايد بـ "بطانة العالم"، السطح الظاهري الذي هي عليه شاشاتنا، التي نقضي معها جزءًا كبيرًا من أيامنا. لقد ازدادت سرعات نقل البيانات والحسابات، ففي العالم الإلكتروني كل شيء يتحرك بسرعة كبيرة، ومع ذلك فإننا نسير في دوائر. تميل المساحة العامة إلى أن تصبح مجزأة. لاحظ الكثيرون أن مستويات الانتباه تنخفض عندما ننتقل باستمرار من نشاط إلى آخر. الانتباه هو ما يجعل الاستمرارية موجودة: الانتباه هو أن تكون قادرًا على ربط الأمس واليوم وما سيأتي غدًا.

(*) هل تقصد أن الزمن الحقيقي للويب هو حاضر دائم، حيث نجد أنفسنا محبوسين فيه، غير قادرين على إبراز أنفسنا خارج نطاقه؟
نعم، لم يعد المستقبل هو المصدر الذي سينشأ منه الباقي. ولم يعد هناك أي أفق يمكن أن نتخيل منه حاضرنا. وكأن التاريخ، كما كان يُتصور حتى وقت قريب، قد دخل مرحلة نهائية، وانكمش إلى حاضر خالص، ولم نعد قادرين على تجربة أي شيء سوى لحظات متقطعة. إن اقتراب الكارثة البيئية هو بمثابة تصور مسبق للمستقبل، ونحن نفتقر إلى صور أخرى، وقصص أخرى لتجسيدها.

(*) في مقالتك (كتابك البحثي) السابقة المنشورة عام 2020، وصفت الأشكال المختلفة للعنف المعاصر. وقد قمت بجمعها كلها تحت مفهوم واحد وهو "الوحشية". كيف يمكنك تعريف ذلك؟
الوحشية هي في المقام الأول حركة معمارية من النصف الثاني من القرن العشرين، وهي مهملة الآن، على أساس الاستخدام المكثف للخرسانة الخام. لقد كنت مهتمًا بالهندسة المعمارية كنظام وكممارسة: يتعلق الأمر بالهدم والبناء، ويتعلق بالمواد التي يجمعها أو يحولها. ولا يختلف هذا عن النموذج الاستخراجي الذي تقوم عليه حضارتنا الصناعية. في جنوب العالم، يبدو عنف النشاط الاستخراجي أكثر وضوحًا من أي مكان آخر: حيث يتم تمزيق التربة بحثًا عن موارد مثل الكوبالت والماس والنحاس والفوسفات والليثيوم. إذ أصبحت جداول المياه الجوفية مثقوبة، وتلوثت الأنهار، وتم تدمير الغابات الأولية من أجل تجارة الأخشاب. وخلافا لما نعتقده أحيانا، هناك صلة عميقة بين نسخة الأرض التي تمثلها شبكة الإنترنت وبين هذه النزعة الاستخراجية الوحشية التي تمارس على المادة، جسد الكوكب. لا يمكن فصل الرقمية عن الخام. في عالم دمرته الإنتاجية، لا نجد ملجأ إلا في الواقع الافتراضي. إن مفهوم "الوحشية" يسمح لي، تحت نفس المصطلح، بتحديد هذا الاعتماد المتبادل بين البعدين البيئي والتكنولوجي لحضارتنا.

(*) تتذرع أيضا بالوحشية فيما يتعلق بالإباحية. هل يمكننا حقًا التفكير في مثل هذه الحقائق المتباينة من خلال مفهوم واحد؟
انه أمر بديهي جدا! أبذل جهدًا للنظر إلى العالم ورسم صورة متماسكة إلى حد ما عما ألاحظه. لم أجلس يومًا إلى طاولة لبناء مفهوم الوحشية. بالنسبة لي، الأمر يتردد عبر تجارب متعددة. إن الرجولة، التي يتم التعبير عنها بشكل صارخ في المواد الإباحية، هي التعبير الأساسي عن الوحشية، وربما كان عليّ أن أبدأ من هناك! لا يمكننا أن نفهم الوضع الحالي للعالم من دون التشكيك في الحقيقة الرجولية والطريقة التي تتجلى بها في العلاقات الحميمة، وفي الاقتصاد العام للتبادلات وكذلك في السياسة والحرب.




ولكن على مستوى آخر، فإن الوحشية تؤثر أيضًا على أعصابنا. تضغط علينا. نحن نعيش في مجتمعات يكون فيها الجميع، من الناحية العقلية، في حالة توتر دائم.

(*) تسير الوحشية جنبًا إلى جنب مع بعض "العملقة"، خاصة في التخطيط الحضري. أليست أبراج دبي أو شنغهاي في نظرك إشارات إلى المستقبل؟
عندما تنظر إلى أبراج ساندتون، المنطقة التجارية في جوهانسبرج، مثل تلك الموجودة في شنغهاي أو دبي، ترى أن الزجاج يتم دمجه بشكل متزايد مع الخرسانة، لذا فإن الوحشية المعمارية تميل إلى الظهور شفافة، كأنها مرآة. بيد أن هذه العملقة المعاصرة التي تشير إليها لا تسعى إلى تجاوز الزمن، ولا تشهد على مسعى لاهوتي، ولا حتى لاهوتي - سياسيا، وهو ما ميز الأهرامات أو الكاتدرائيات على وجه التحديد. نحن نتعامل مع عملقة دنيوية، عملقة خلف الأبواب المغلقة، إذا كنت أجرؤ على قول ذلك.

(*) في كتابك "المجتمع الأرضي"، تعتمد على المعرفة الأفريقية القديمة للحصول على الموارد اللازمة لمواجهة تحديات عصرنا. تستحضر، على وجه الخصوص، أسطورة "بامبارا" bambara حول ولادة الأرض...
نعم، لقد وضعت إصبعك على قلب آلية عملي. أعلم أن مشروعي فيه شيء طوباوي، وأنه لا يزال هناك طريق طويل أمام أفريقيا للدخول الكامل في التاريخ الرسمي واعتبارها مجموعة من النماذج التي يجب تفعيلها، وخزانًا لما سيأتي. ومع ذلك، فإن العديد من الأساطير الأفريقية المتوارثة عن الأسلاف تتناول صلاحية الأرض للسكن واستدامتها، وهي أسئلة تثار الآن بطريقة دراماتيكية، لأننا نخشى أن تنتهي مغامرة البشرية بإحراق العالم. وفقًا لنظرية نشأة الكون عند بامبارا، فإن الأرض هي نتاج دوامة في منتصف الفضاء، أو تمدد، أو حتى تشتت يؤدي إلى دوامة. يدور هذا الشكل الحلزوني ويتعرق جسم الأرض، ويفرز مادة تشبه إلى حد كبير التراب. وهذا يعطينا صورة للأرض التي ليست مادة مكتملة، وليست جسمًا، ولكنها بدلًا من ذلك تخضع لدورات النضح والتجدد. لقد بحثت في هذه الأسطورة، أو هذا الأرشيف الأفريقي، عن دافع يبعدنا عن التفكير الآلي الذي سيطر على العلاقة الغربية مع الكوكب.

(*) أنت تستخدم عبارة "الأرشيف الأفريقي"، في حين أن البامبارا أو الدوغون Dogon لديهما ثقافات شفاهية. أين يتم تسجيل هذه الخرافات وكيف يمكننا التعرف عليها؟
نجد هذه الأساطير في الحكايات التي يرويها كبار السن. عند البامبارا كما عند الدوغون، تم أيضًا جمع هذه الأساطير وأرشفتها من قبل المؤرخين وعلماء الأعراق، وأفكر بشكل خاص في عمل مارسيل غريول [1898-1956] وفريقه. ولكنها موجودة أيضًا على الأشياء المنحوتة – إذا كنت تعرف كيفية تفسير رمزيتها – وفي العروض الطقسية.

(*) أنت تقترح إعادة تنشيط الروحانية واعتبار الجبال والأنهار والحيوانات والنباتات "أشخاصًا طبيعيين". لكي تدخلنا إلى هذا الكون الفكري، استشهدت عدة مرات برواية عاموس توتولا "السكير في الأدغال" (1952). لماذا هذا العمل هو عمل ملهم؟
إنه كتاب مدهش، بدءًا من عنوانه. لا تسمح حالة السُكر بالتطهر فحسب، بل يُنظر إلى الأدغال في أفريقيا دائمًا في معارضتها لمساحة القرية المتطورة. لذلك يتجول بطل توتولا في الأدغال ويذهب للقاء البشر وغير البشر، وهو يعلم أنه من بين الكائنات التي يقابلها، هناك تحولات وطرق مسدودة وفتحات، ويحدث تهجين متعدد، ولا يمكن التمييز بين السحر والواقع. وهذا يؤدي إلى حالة ذهنية لا يعد فيها الفصل الغربي بين "عالم البشر" و"عالم الأشياء" قابلًا للتطبيق، حيث يوجد تداخل بين البشر والأرواح والحيوانات والمواد، وحيث يُعتبر كل شخص على أنه بلاستيك بشكل عميق. تخلق الأزمة البيئية وضعا مماثلا، إلى الحد الذي يجعلنا ندرك مساميتنا فيما يتعلق ببقية الحياة وبيئتنا المعيشية.



(*) لقد ذكرت "الجدلية الروحانية للبذور والزرع والإنبات". ما هو عليه الأمر فعلا وما هي العلاقة التي يمكن أن نقيمها مع ظاهرة الاحتباس الحراري؟
إنه نمط فكري يأتي من منطقة الساحل في غرب أفريقيا. منطقة الساحل هي أفريقيا ذات المواسم المفاجئة والمخاطر المناخية. هناك تاريخ كامل من الجفاف، ينتقل من جيل إلى آخر. في هذه الظروف القاسية، هناك مواسم قصيرة جدًا تكون أكثر ملاءمة لعملية البذار. فإذا أضعنا إحدى هذه الفرص الموسمية، تصبح الصوامع فارغة، ونعرض أنفسنا لمخاطر جسيمة، والاضطرار إلى تمديد الموسم العجاف حتى الموسم التالي، والمعاناة من الجوع. لذلك فإن دورة الحياة ودورة الفصول مرتبطان ارتباطًا وثيقًا. إن مسألة ما نضعه تحت الأرض، والنمو غير المرئي للجراثيم، هي في قلب العديد من القصص، المرتبطة في حد ذاتها بالممارسات. فالعلم هو الذي يأمر بالأفعال. وفي سياق الانحباس الحراري العالمي، يمكننا أن نستفيد من هذا النوع من التجارب.

(*) أنت تصر على حقيقة أن أفريقيا لديها ثنائيات أخرى لتقدمها أكثر من تلك التي يقدمها الغرب. فما هي؟
هذا الجزء من عملي هو جزء من نقاش أوسع. أفكر في تأملات فيليب ديسكولا في كتابه "ما وراء الطبيعة والثقافة" (2005)، وما تمكن فيفيروس دي كاسترو من كتابته عن وجهة نظر هنود البرازيل، أو حتى الطريقة التي فكر بها فرانسوا جوليان في الصين: نحن نبحث عن طرق أخرى لتصنيف العالم غير تلك التي يستخدمها الغرب. إنها مسألة النظر في التفاعلات الأخرى بين البشر وغير البشر، وتعزيز ترابطهم. إن الثنائيات الكبرى للعقلانية الغربية معروفة، نجدها على سبيل المثال عند ديكارت: هناك التعارض بين الروح والجسد، بين الطبيعة والثقافة، بين الإنسان والحيوان. وفي أفريقيا أيضًا هناك ثنائيات ـ وهو ما يدل على أن الثنائية في أعماقها عبارة عن مخطط يبدو من الصعب التخلص منه. ومع ذلك، في أفريقيا، هناك ميل أكبر للمقارنة بين ما هو مفتوح وما هو مغلق، وما هو مرئي وما هو غير مرئي، وما هو ضعيف وما هو مستدام. لدي انطباع بأن هذه التعارضات الهيكلية الثلاثة، بالنسبة لنا نحن المعاصرين، تفسح المجال لتحفيز ترابط الأفكار. ومن خلال التحيز الذي لا يزال مستمرا، نتصور أن أفريقيا هي قارة منفصلة، ​​حيث لم يكن البشر ليفكروا فيها. ونتيجة لذلك، فإن أولئك الذين يريدون اعتناق الفكر، من المثقفين والفلاسفة، لا يبحثون بشكل عفوي عن الفئات أو المفاهيم الأساسية في أفريقيا. في وقت التحديات العالمية، أدعوكم إلى توسيع المكتبة!

(*) نجدك تصر على حقيقة أننا نميل إلى إعطاء "حالة أندرويد" لبعض أدواتنا، مثل الهواتف الذكية، وهو ما فعله البامبارا، الذين اعتبروا مقابض المعازق أو الفؤوس أشخاصًا.
نعم، يتلاشى التعارض بين الإنسان والموضوع عندما تفهم إلى أي مدى يكون البشر مرنين، وقابلين للطي، ومطاطين. ما نحن عليه، نحن البشر، يعتمد بشكل كبير على الأدوات التي تحيط بنا. نحن ننمو ونتطور في بيئة محيطة من المصنوعات اليدوية التي تشكلنا في المقابل، والتي تشكل كائناتنا الحية وإمكاناتنا للعمل. نقوم الآن بتخزين جزء من ذاكرتنا في هواتفنا الذكية. نتحدث معها، لأنها تحتوي على مساعدين، روبوتات صوتية.




ونتحدث أيضًا من خلالها إلى الأشخاص البعيدين. إنها ليست بالضبط عودة إلى نسخة بامبارا من "الأرواحية"، ولكنها طفرة، ولها حتما تأثير على الإنسانية في طور التشكل. فكر في البشر كما هو موصوف في فلسفة التنوير، الذين تحيط بهم مادة هامدة، وأشياء جامدة، والذين لا يمكن احتواء المعرفة بالنسبة لهم إلا في الكتب: إننا نرى ظهور الإنسانية التي تبدو لي أكثر اكتمالا وأكثر لياقة، لأنها إنسانية في طور الهروب من نفسها، وإدراك أنها تتشكل من العلاقة مع ما يحيط بها، وهي غير مستقرة.

(*) نجدك تهتم بأساس التكنولوجيا القديم وتخصص تحليلًا لدور الإصبع في الحضارة الرقمية.
مع العصر الرقمي، تستعيد الإصبع أهميتها، خاصة بسبب شاشات اللمس. أقترح التوسع في تحليلات عالم ما قبل التاريخ أندريه ليروي جورهان: في كتابه "الإيماءة والكلمة" Le Geste et la Parole(1965)، أظهر أن هناك روابط وثيقة بين التشريح البشري والأدوات التقنية الأولى، التي وجدت اليد امتدادها في الصوان، والمقابض، الرماح والفؤوس. ومن البديهي أنه يضع حدًا لهذا التطابق بين علم التشريح والتكنولوجيا مع دخول التاريخ الحديث. أحاول إعادة معايرة الأشياء، وإعادة التفكير في مسار الحداثة لإظهار أن التكنولوجيا في أعماقها لم تترك العصر التشريحي أبدًا. إننا نتفاعل دائمًا مع بيئتنا التقنية بأعيننا وأصابعنا وأصواتنا.

(*) كذلك تستدعي "أرشيفًا" مسيحيًا، لتربط بين الشاشات والقيامة، الوعد بالحياة الأبدية في جسد من النور.
في نهاية المطاف، يبدو لي أن ما يتلألأ على شاشاتنا هو أسطورة الانتصار على الموت. وبحسب الأسطورة المسيحية، هناك قيامة، ثم صعود وتجل للجسد. لقد احتفظنا بهذه الرغبة في التجلي، ونبحث عن وسيلة للهروب من جسد الجسد المحكوم عليه بالتعفن. ما الذي يتحدث عنه أنصار ما بعد الإنسانية ورجال الأعمال في وادي السيليكون الآن؟ عن إمكانية جعل أرواحنا تهاجر، ليس في الجنة المسيحية، بل في نسخة طبق الأصل من الأرض التي يمولون بناءها.

(*) إذًا ترى الميتافيرس (عالما افتراضيا) بديلًا عن الجنة المسيحية؟
بالتأكيد. لا أعرف كم من الوقت سيستغرق انتقالنا إلى ما وراء الكون، أو ما إذا كان سيستمر حتى النهاية، ولكن هذا هو الوعد الذي قطعه علينا الخطاب التحرري التكنولوجي. وربما، بفعله هذا، ينجح هذا الخطاب في إعادة ضخ القليل من المستقبل في هذا العالم الذي وصفناه في بداية حديثنا بأنه منغلق على نفسه.

(*) وكما أظهرت دبي عملاقًا دنيويًا، فإننا سنحصل عندئذ على جنة بلا سمو.
في اللاهوت التوحيدي، نقطة نهاية الخط الزمني، وأفق التعالي هو الإله الواحد. لم تعد مجتمعاتنا تؤمن بهذا الإله، لكنها لم تشرك بالآلهة، بل استبدلته بإله آخر هو رأس المال.

(*) من الناحية الجدلية، فإنك تقارن بين التقنيات المستخدمة لتحديد الموقع الجغرافي وتتبع وتقييم الأفراد، والاتجار عبر المحيط الأطلسي، حيث تم وضع مبادئ الاختيار والفرز موضع التنفيذ. أليس من الصادم المقارنة بين جريمة ضد الإنسانية وأساليب الاستهداف التسويقي؟أفهم جيدًا ما الذي يصدمك [في هذا الأمر]! ومع ذلك، مع ظهور التكنولوجيا هناك تعبير عن منطق القبض على البشر وتحديد هويتهم وإيوائهم. إن اللحظة التاريخية لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي مهمة لأنها، من وجهة نظر الرأسمالية، تمثل امتدادًا للسوق إلى ما هو أبعد من حدوده. لقد تم دفع ثمن ما لا يقدر بثمن: حياة الإنسان. باعتبار جسد الزنجي سلعة، أي ما يعادل موردًا طبيعيًا، عمل تجار العبيد على إيجاد معايير موضوعية لتحديد قيمته. كما كانت هذه الأسعار متقلبة وكانت ذريعة للمضاربة. ولتلبية احتياجات تجارة الرقيق، تم تطوير أنظمة تتبع العبيد وشهادات المصدر ومجموعات البيانات. ما زلنا نعيش في عصر الفرز والاختيار. بعض البشر لديهم قيمة أكبر من غيرهم، وعلاوة على ذلك، فإن هذه القيمة تحدّدها شركات التأمين بطريقة دقيقة؛ فنحن لا نعوض مواطني جميع البلدان بنفس الطريقة. إن حياة الأفريقي أقل قيمة من حياة الأميركي وفقا لهذه المقاييس الرسمية. بعض الأجساد تملك جوازات سفر بيومترية تسمح لها بعبور الحدود، والبعض الآخر محتجز في مخيمات اللاجئين أو أماكن العزل أو الأحياء الفقيرة أو مدن الصفيح، إلى أجل غير مسمى. لكي يستمتع القلة، من الضروري أن يتم استهلاك ملايين الأجساد، وأن يتم إهدار الأرواح أو تدميرها بسبب العمل المرهق، خاصة في المناجم التي تشكل أساس نظام الاستخراج الكوكبي. يمكن أن تقضي حياة بعض الناس بلا حدود. وفي مواجهة هذه الكارثة، يبدو لي أنه يتعين علينا أن نستحضر فئتين قديمتين، فئة ما لا يمكن حصره وفئة ما لا يمكن إصلاحه.

(*) في مقالتك، تدافع عن أطروحة أخرى تحظى بإجماع ضئيل، خاصة عند اليسار: "يجب استبدال موضوع الهوية بموضوع الأحياء". أنت تُعتبر مرجعًا في دراسات ما بعد الكولونيالية، ولكنك تعتقد أن الطوارئ البيئية يجب أن تضع مسألة الحياة قبل سؤال الهوية؟
في حوض المحيط الأطلسي، منذ عام 1619 – وهو تاريخ وصول العبيد الأفارقة الأوائل إلى فرجينيا – ثبت أن العائق الأكبر أمام مشروع السكن المشترك على الأرض هو العرق. ولا تزال مفاهيم العرق والهوية هي التي تعيقنا اليوم، والتي تمنع الإنسانية من التصالح مع نفسها لتولي مسؤولية مصيرها البيئي والمناخي. لقد أساء الناس فهمي، وأساءوا قراءتي: أنا لست مفكرًا ما بعد الاستعمار، ولا أنتمي إلى هذه المدرسة الفكرية. كل ما تمكنت من كتابته عن العرق أو العنصرية أو ظاهرة العنصرية أو الهوية، ولا سيما في "نقد العقل الزنجي"، كان يهدف إلى توضيح الموضوع الذي يبدو مركزيًا حقًا بالنسبة لي والذي يشكل الأفق الحقيقي لفكري: وهذا يعني مشكلة القواسم المشتركة. أعتقد أن الأمر متروك لنا لكسر حواجز العرق والمجتمع والاختلاف لنطرح على أنفسنا سؤال التشابه والجيران والقاسم المشترك. لقد غادرت مكاني، أفريقيا، التي اتسمت بالجرائم، وبقيت بين أساطيرها، وأجزاء من فكر الأجداد، ولكن كان ذلك من أجل تحدي أفضل للفكرة التي بموجبها تتكون البشرية من مجموعات غير قابلة للتوفيق، مرتبطة ببعضها البعض بالهوية والمجتمع أو العقد. وبرأيي أن العلاقة يجب أن تنتصر على هذه المناطق التي أصبحنا ندرك طابعها الضار. العلاقة تنشئ بين الكائنات دينًا متبادلًا وأصليًا، لأنني لا أدخل في علاقة مع الآخر إلا إذا منحته، بالنسبة لي، قيمة لا تحصى، أي إذا اعتبرته لانهائيًا.