Print
غياث المدهون

الحليب الأسود

15 ديسمبر 2016
شعر

 

تخرجينَ من وراءِ الكواليس، أخرجُ من وراءِ الكوابيس، مبتسمًا كأنَّ الحربَ لم تأكلْ أخي، وفي تلك الأيام، حين كان أصدقائي السوريون يموتون تحت التعذيب، كان أصدقائي الأوروبيون ينسحبون بهدوءٍ من جرحي الذي يخدشُ حياتهم البيضاءَ، ولا يتناسبُ في أيِّ حالٍ من الأحوال مع المعايير الغربية المتعارف عليها عن شكل الألم.

 

    *

 

في تلك الأيام كنتُ أهمسُ في أُذنكِ بما يهمسُ به رجلٌ لامرأةٍ حين يأكلها، وفي نفس الزمكان الذي كنتِ تنامين فيه بهدوءٍ مثل بحيرةٍ في شمال السويد، كانتِ الحربُ تجلسُ على حافة سريري كأنها زوجتي، وكانت آيات القرآن التي ضربني معلم الابتدائية كي أحفظها هي الشيءُ الوحيدُ الذي يساعدني على النوم، يا الله، لقد أكلَ الذئبُ قطعةً من قلبي، ودمرتِ البراميلُ دفتري. يا الله، لقد أكلني الذئبُ حقيقةً لا مجازًا، وأغرقَ المتوسطُ مائي. أنا الذي كنتُ أمشي في الأرض مَرَحًا، لكنهم سرقوا أصدقائي وانتحروهم في دمشق، فانكسرَ كأسُ الماء البارد الذي كان يبللُ عطشي، وورثَ الشعراءُ أصابعي، أصدقائي أصبحوا ذكرياتٍ، قُطَّاع طرقٍ مقطوعةٍ أصلًا، أقصدُ قُطَّاع أوتوستراداتٍ بين مدنٍ محاصرةٍ بالجوع والأدرينالين، وفي نفس الزمكان الذي أتمتعُ فيه بالرفاهية في أقصى شمال أوروبا، في بلدٍ يحوي سبعًا وتسعين ألفًا وخمسمئة بحيرةٍ من الماء العذب، تخبرني أمي أنها عطشانة، فأتذكر رواية الغريب...

...

وأحاول ألا أتذكرُ ألبير كامو.

 

    *

 

مبتسمًا كأنَّ الحربَ لم تأكلْ أخي،

أتسلقُ جبل الكرمل مثل عريشة عنبٍ

كي أظهرَ بجانبكِ في الصورة العائلية،

فتقفينَ بجانبي مُرَّةً كالحقيقة،

ودافئةً مثل رصاصة،

وطويلةً مثل يوم الأحد.

امرأةٌ بذاكرةٍ مثقوبةٍ يسيلُ منها قلبي على شكلِ فراشة،

كلما فكرتُ فيها تفكيرًا مشروعًا

يرفضُ قلبي أنْ يرضخَ للشريعة،

ويرفضُ الشعرُ أنْ يطاوعني على تكرار المجازاتِ الباليةِ للشعراء الكلاسيكيين،

يرفضُ البنكُ أنْ يمنحني قرضًا كي أشتري حصانًا،

يرفضُ أمراءُ الحرب أنْ يصبحوا أمراءَ سِلْم،

يرفضُ الأطفال أنْ يلعبوا معي حين أمرُّ في الحارة لأنَّ أهلهم حذروهم من الغرباء.

أنا لن أعلِّم أبنائي أنْ يخافوا الغرباء،

فأنا واحد منهم،

لن أقولَ لهم لا تكلموا الرجلَ الغريب،

فذلك أنا،

أنا الغريبُ الذي فقد يده في الحرب،

الأرملُ الذي لم تمتْ زوجَتُه،

المهاجرُ الذي لم يغرقْ في المتوسط،

المؤمن الذي قبَّلكِ على حائط الجامع

فارتجفَ الشيخُ في صلاتِه خوفًا من غضب الله،

اللاجئ الذي فتَّشوه فوجدوا ذكرياته مخبأةً بين الأجوبةِ الماكرة،

أنا الذي أحببتكِ بتوحشٍ،

وقبَّلتُكِ دون أنْ أعرفَ الفرق بين وجهكِ والسكون،

حول منزلكِ أعوي كذئبٍ مجروح،

وفي ليلِكِ الحالكِ أضيءُ أرجوانيًا خافتًا كجمرة سيجارة في الظلام،

كلَّما لفظتُ اسمكِ يتأتئ قلبي،

كأنني أولدُ من أمي مرةً أُخرى،

كأنني ألمسُ خصرَكِ بيدي المقطوعة،

كلَّما مررتُ بلساني فوق جلدكِ يتلعثمُ شِعْرِي،

كلَّما…،

إنَّما أنا ألمسُ ينبوعكِ كي أبلِّلَ قلبي الذي شقَّقه الجفاف،

كلَّما…،

إنَّما أنا أشرب صوتك المبلول بالماء كيلا يقتلني العطش،

إنَّما…

 

     *

 

بصماتُ أصابعي التي وجدوها على جلدكِ، دَمُكِ الذي بلَّلَ يدي اليمنى، الذئابُ التي تنهشُ خاصرتي حين أشمُّ صوتَكِ، الأخضرُ الذي ينزُّ من يدكِ التي جرحتها الوردةُ، لساني الذي يلفظ اسمَكِ بالآرامية الفصحى، كلماتي المتقاطعة فيكِ، كيف كنتُ أتوضأُ بالنبيذِ قبلَ أنْ أَمُسَّكِ، كيف أمسكني الناطورُ أقطفُ عسلَ الدبابيرِ الذي ينقطُ من حلمتيكِ، كيف قلبي الذي اعتادَ أنْ يأكلَ أصابعَ النساءِ يصبحُ نباتيًا أمامكِ، أنتِ سورةُ الشعراء، خلاصةُ نساء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لأجلكِ أعيدُ كتابة قواعدِ اللغةِ العربيةِ بما يتناسبُ مع مقاسِ خصرِكِ، واقتلُ المجازَ الميتَ مرَّةً أُخرى.

 

   *

 

أنظرُ في المرآةِ فأرى وجهكِ،

تفلتُ القصيدةُ من يدي.

أسمعُ رائحةَ امرأةٍ تأكلُ أصابعي،

يغرقُ البحرُ المتوسطُ في دائرةِ الهجرةِ،

يعطشُ الماءُ.

أُخرجُ ملامحكِ من وجهي كي أتعرَّفَ إلى نفسي

فيفقدُ دفتري الذاكرة.

يسألني المحققُ في دائرة الهجرة:

ـ من أين أنت؟

أجيبُهُ:

ـ لستُ أدري، فأنا لم أتزوجْ بعدُ،

فيرفضُ طلبَ لجوئي،

وترفضُ الأمم المتحدة لون جلدي،

ويرفض المجتمع الدولي أنْ ينظرَ في جرحي مباشرةً.

وفي تلك اللحظة التي يصبحُ فيها الوقتُ داكنًا مثل لوحاتِ رامبرانت،

ويصبح الاحساسُ باردًا مثل جثث أصدقائي،

تخرجينَ من وراءِ الكواليس،

تخرجين،

هكذا،

دون مقدماتٍ،

أو شروح،

أو تفسير منطقي،

وتمنحيني لجوءًا لأسبابَ عاطفيةٍ.

 

     *

 

كيف تعرفين طريقَ دمشقَ دون أنْ تمرِّي بها؟

كيف تقتلينَ الجغرافيا والمسافةُ بيننا معدنيةٌ؟

تتمدَّدُ بالحرارة،

وتتقلَّصُ حين أقتلُ حقيبة السفر.

 

     *

 

هذا العالم يسقطُ من الطابق السابعِ،

والعصافير تنتحرُ كيلا يسبقها الوقتُ،

الوقتُ الذي يجلسُ مثل ضيفٍ ثقيلٍ بيننا

وينظرُ إليك،

أنا وأنتِ والوقتُ رابعنا،

ما اجتمعَ رجلٌ وامرأةٌ إلا وكان الوقتُ رابعهم.

    *

 

وفي تلك الأيام، كنّا نعلمُ أنَّه سيقتلنا جميعًا، لكننا لم نكن نعلمُ أنَّ العالمَ سيقفُ صامتًا.

 

  *

 

وفي تلك الأيام، كنتُ ألتصقُ بكِ كما لو أنَّني طابعُ بريدٍ، فتخافين من سخونةِ قلبي، وكان الناس يحتارون بيننا مذ اختلطت ملامحي مع مشيتكِ، وكنا نحن نحتارُ بالناس، مذ أصبحتِ المدينة غيرْ صالحةٍ للموتِ بعد أن تحولت إلى مستودعٍ كبيرٍ لاستعاراتي المكنية عنكِ.

 

     *

 

وفي تلك الأيام، حين كنتُ أهمسُ لكِ أنكِ أنتِ سورة النساء، وأخصبُ امرأةٍ في مدار السرطان، كان الإرهابُ يضربُ وسطَ أوروبا، وكان قلبي الذي يستطيع أنْ يتحملَ خمس حروبٍ همجية، يتأتئ حين يلفظُ اسمكِ، وكان أصدقائي الأوروبيون ينسحبون مني بهدوء، فأتذكرُ كيف انسحبَ الأوروبيون من أصدقائهم اليهود قبل سبعين عامًا، وأتذكرُ الحليب الأسود...

...

وأحاول ألا أتذكرُ بول سيلان.

 

     *

 

وفي تلك الأيام، حين كنتُ أحبكِ بلطف، كان الإرهاب يضرب بعنف، وكان قلبي الذي يستطيع أنْ ينظر إلى جرحٍ ساخنٍ مباشرةً دون أنْ يرتجف، يصبح ناعمًا كالأفعى، فينهار برج التجارة العالمي مرةً بعد مرةٍ بعد مرةٍ في خيالاتِ أصدقائي الأوروبيين، وتنتصر الثورة الفرنسية في كتب التاريخ فقط، وتنهزم في كتب الجغرافيا، وأنا أتذكر الحليب الأسود...

...

...

 

     *

 

وفي تلك الأيام،

حين كنتُ أحبك بلطف،

كانت الهجراتُ العظمى تقطعُ وسط أوروبا بعنف،

وكان بول سيلان يخرجُ من نهر السين،

وبيدهِ المبللةِ يُرَبِّتُ على كتفي،

وبصوتهِ المرتجف يهمسُ في أذني:

لا تشربوا الحليب الأسود...

لا تشربوا... الحليب... الأسود

لا تشربوا...

لا...

...

ويختفي بين جموعِ السوريين السائرين إلى الشمال.

 

   *

 

وفي تلك الأيام، كنتُ لا أزال أحاولُ ألا أتذكر بول سيلان، فيحيا البحر الميت، ويموت البث الحي.




*شاعر من فلسطين يقيم في السويد