Print
فيديل سبيتي

محمد الصغير أولاد أحمد : في حب الشاعر

12 أبريل 2016
سير
كان رحيل الشاعر التونسي، محمد الصغير أولاد أحمد، مؤخرًا، مثل فصل حزين آخر، من الفصول العربية الحزينة، التي لمّا تنتهي. غياب الشاعر لبس لبوسًا رمزيًا على الفور، إذ إن أولاد أحمد، طبع الشعر العربي الحديث، ببصمة كان بحاجة إليها : ترن من البعيد حيث الاحتجاج ومقاومة الظلم والاستبداد، تمثل كلها قوام "تيار الالتزام" الذي طبع البدايات، وترنو في الآن نفسه إلى الواقع المعيش والحاضر المسكور، لتجدد نبر الاحتجاج بلغة تلقائية عفوية مسكوبة من قلب الشاعر، نازلة في قلوب قراء كثر

ولادتان

ولد محمد الصغير أولاد أحمد مرتين، مرة في عام 1955 في منطقة سيدي بوزيد، وكانت الدولة التونسية تولد من رحم الإستعمار المنسحب من البلاد، ومرة في عام 2011 بعد انطلاق الثورة التونسية على نظام بن علي من منطقة سيدي بوزيد نفسها، وهو بين الولادتين كان يتأرجح بين ولادات كثيرة هي من صنعه شعرًا ونثرًا ونقاشًا محتدمًا ونضالًا في سبيل بناء تونس حرة وديموقراطية ومتمدنة، ومثقفة شاعرة أيضًا، إذ إن أولاد أحمد كان يرى في الشعر بيانًا تحريضيًا، وكان يكرر دائمًا بأن الشعر هو ما يقوله، لا شكله وإيقاعه وتسميته بين شعر حديث أو قديم أو مقفى أو نثري. هذا كله في الشكل، وما كان يعنيه من الشعر هو في المضمون. لذا فإن معظم قصائده التي يحفظها التوانسة من العامة، أو من قارئي الشعر، تشبه البيانات الشعرية، التي يسهل حفظها وتجذب الجمهور التوّاق الى التحرر والتقدم، كما هو أولاد أحمد في شخصه وحياته اليومية العادية وفي شعره.

في عام 2012، وكانت الآفاق السياسية في تونس ما زالت غائمة بعد ثورة الياسمين، دعانا، نحن مجموعة من الشعراء العرب، أولاد أحمد إلى تونس لإقامة أمسيات شعرية في المناطق التي انطلقت فيها الثورة. في طريق العودة من سيدي بوزيد إلى تونس العاصمة، كان سائق الحافلة التي تقلنا قد تعدى السرعة المسموح بها على الطريق السريع، فلحقت بنا دورية من الشرطة، وطلبت من السائق الوقوف إلى جانب الطريق، وهكذا كان. ثم بعد نقاش طويل بين السائق والشرطي الذي يحرّر المخالفة، خرج أولاد أحمد من الباص وألقى التحية على الشرطي، فلم يعرفه هذا الأخير، فقال له أنا محمد الصغير أولاد أحمد، فعلت علامات الدهشة والمفاجأة على وجه الشرطي، وراح يردد قصيدة "نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد، نحج إليها مع المفردين عند الصباح وبعد المساء ويوم الأحد، ولو قتلونا كما قتلونا ولو شرّدونا كما شرّدونا ولو أبعدونا لبرك الغماد لعدنا غزاة لهذا البلد..."، ثم أخذ الشرطي يكيل الاعتذارات له، ويطلب المسامحة، وقرر أن ترافقنا الدورية حتى خروجنا من حدود المنطقة. وكانت تلك القصيدة قد تحوّلت إلى قصيدة الثورة، فحفظها معظم التوانسة، بعدما كانت رائجة بين القرّاء المثقفين قبل الثورة.

في أمسيته الشعرية، التي كان عليه أن يحييها في المسرح الروماني في منطقة الحمامات، بعد أيام، راح الجمهور يردد القصائد مع أولاد أحمد وهو صاحب الصوت المبحوح والمخنوق من كثرة التدخين والصراخ. فكان الجمهور الذي يملأ المدرجات يردد القصائد مع الشاعر، وكأنه يساعده في إلقائها، أو لكأنه يعلن تبني البيان السياسي الشعري الذي تحمله القصائد.
ربما تكون شعبية شاعر، كالتي كانت لأولاد أحمد في بلاده، لم يحققها إلا قلة من الشعراء في العالم العربي، وعلى رأسهم محمود درويش ومظفّر النوّاب. فالوصول إلى قلوب متذوقي الشعر من العامة، أي غير المتابعين للشعر عمومًا، لا يتمكّن من تحقيقه إلا الشعراء الذي يكتبون ما في قلوب هؤلاء، أو ما يتوقون إلى سماعه، أو ما يشعرهم أن هناك مثلاً أعلى منهم وفيهم يدفعهم ويحرضهم على ما يطلبونه ويتمنون تحقيقه. وأولاد أحمد كان من هذا الصنف من الشعراء.

نبي مهجور

ولد وترعرع في عائلة فقيرة، ولكنها ليست استثناء في الريف التونسي الفقير. كان الفقر من طبيعة الحياة بالنسبة لأهله، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة له، رغم أنه عاش طول عمره بكفاف يومه. ولم يدفعه الفقر إلى التطلع نحو الثراء، أو ممالأة السلطة للوصول إلى مبتغيات شخصية، بل كان يرى في الفقر والتخلّف وسوء التعليم والخضوع لسلطة الثري سواء كان إقطاعيًا أو من أزلام السلطة، رأى فيها علامات اعوجاج في تشكيل مجتمع من المفروض أنه يتطور في خط مستقيم. منذ شبابه وقبل أن ينشر أول مجموعة شعرية، كان قد قرر بشعور فطري داخلي، أن هذا الوضع يجب أن يتغيّر، وأن قبول التوانسة بالأمر الواقع هو أمر غير طبيعي يجب تغييره، لذا كان صوته عاليًا جدًا بمقاييس تلك الفترة، أي أواخر عهد بورقيبة، ومن ثم أوائل عهد الجنرال المنقلب، زين العابدين بن علي.


راح منذ نزوحه نحو العاصمة تونس لاستكمال دراسته الجامعية في أواخر السبعينيات من القرن المنصرم، يعلن آراءه وأفكاره جهرًا في مقاهي العاصمة الكثيرة والشهيرة، التي كانت ملتقى المثقفين والأدباء والرافضين والتواقين إلى التغيير والمنتظرين ريثما ينجلي الانقلاب الجديد عن شيء ما، وتحديدًا في "مقهى الزنوج" (Chez les nègres) الذي اتخذه مكانًا للتبشير. فقال أمام الناس وفي الشوارع وعلى الأرصفة، وأمام العيون والجواسيس وكتبة التقارير، ما لا يجرؤ أحد على قوله أو رفع صوته به. فوجد أعداء منذ البداية، أكثر من الأصدقاء، تحديدًا من أولئك الذين ينتظرون فرصة لامتطاء صهوة السلطة وتحصيل مكانة شخصية ما في النظام. كان هؤلاء يبتعدون عنه لئلا يحمّلهم صوته ما لا يريدون تحمّله، فاعتاد أن يكون صارخًا وحيدًا بالشعر في عراء الأنظمة الديكتاتورية، وبقي كذلك حتى نهاية حياته، يصرخ من أعلى الجرف بما يريد، وللذين في الأسفل أن يلتقطوا ما يريدونه، مما يرمي لهم شعرًا ونثرًا، ورغم أن صوته راح يلقى قبولًا بين هؤلاء إلا أنه لم يكن يهتم للأمر. وهو القائل: "لا يعنيني أن يكون لي قرّاء بقدر ما يعنيني أن أتطابق مع نفسي، لأنني لا أنطلق من أية قناعة مسبقة في الكتابة"، أو "أصحاب المناصب جميعهم أقصر مني قامة". كان يشعر بأن عليه قول ما يجب أن يقوله ويمشي "كنبي مهجور"، كما وصفه الشاعر اللبناني، شوقي بزيع، في رثائه.

واصل دراسته في المدرسة العليا لأطر الشباب في منطقة بئر الباي بين 1975 و1977، وحصل على شهادة منشط شباب. في عام 1978 عاد إلى سيدي بوزيد وحصل على شهادة البكالوريا، وسافر إلى فرنسا حيث درس علم النفس في جامعة رامس. في عام 1985 سجن لفترة قصيرة في أثناء "أحداث الخبز"، بعد توقيفه خلال اعتصام نظم للدفاع عن الاتحاد العام التونسي للشغل. ومنعت مجموعته الشعرية الأولى من الصدور، وكانت بعنوان "نشيد الأيام الستة" إلى أن أعاد نشرها 1988. وطرد من وظيفته الرسمية كمنشط ثقافي لمدة 5 سنوات. والطرد من الوظيفة، هو كالرمي في الشارع، ولكن هذا كان من بين الأشياء الكثيرة التي يشغف بها أولاد أحمد. فلجأ أولاد أحمد إلى نقد الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية خصوصا في المقالات التي يكتبها، وفي القصائد. لذلك فإن كتاباته الشعرية والنثرية تعتبر وثائق مهمة عن تونس مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.


آراء في الحياة والشعر

حين التقينا في تونس الخارجة من الثورة من دون أن تتخذ شكلًا بعد، في عام 2012، وكان لقائي الأول به، بعدما كنت أعرفه كشاعر تونسي ثائر من خلال أصدقاء فلسطينيين عاشوا معه في أثناء عيشهم في تونس، بعد انتقالهم إليها من بيروت في إثر الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة. كان هؤلاء الأصدقاء الذين يعرفونه جيًدا، يلقون قصائده على مسامعنا نحن الشعراء الشباب في بيروت، مثيرين إعجابنا ببيانيته ذات الرونق الإيقاعي واللغوي. فكان لقائي به وجهًا لوجه بعد طول معرفة سمعية، مناسبة للحديث والنقاش، عنه وعن الثورة وعن الأحلام والتوقعات في ما هو قادم. فتحادثنا مطولاً في كل تلك المواضيع، وكنت أسجّل مباشرة ما يقوله، بحرص الصحافي الذي يريد حفظ المستندات إلى وقت ما يحين موعد استخدامها، وها هي اللحظة قد أتت، أي التي يمكنني أن أعرض إجاباته على تساؤلاتي، بعد 4 سنوات من إجرائها، التي تبدو وكأنها إجابة لليوم، ولهذه المرحلة، جديدة وطازجة ولم يخذلها الوقت أو يعلوها بالصدأ. وكأن الزمن التونسي والسياسي والثقافي قد توقف عند ذلك العام، وما زال هناك.

في بداية الحديث سألته مستفزًا، بأنه شاعر ثوري، وبنى شاعريته على طلب الثورة، وها هي الثورة قد وقعت، "فما الذي ستكتب عنه بعد الآن؟".
سرعان ما يُستفز أولاد أحمد، هذا بعض شخصيته المستنفرة دائمًا، والمتوثبة للإجابة عن أي شيء ولو لم يكن سؤالًا. فأجابني بغضب أن الثورة متواصلة، لقد كان مطلبها:"الحرية والكرامة"، فأصبح مطلبها:"الحرية والكرامة... فورًا". فأجبته، وما دور الشاعر في "فورًا"؟ قال لا يبقى للشاعر سوى تعرية الاستبداد بأكثر الأساليب سخرية، وذلك عبر حثّ الثوار على مواصلة الصمود في وجه الاستبداد العمودي (الديني) باعتباره منفذًا إلى السلطة والتسلّط في عالمنا العربي وليس باعتباره أداة لأنْسنة الدين. لا يطالب الشعر بأكثر من جعل "الحياة جديرة بالحياة" في هذا الوضع العربي المتآمر على نفسه.


قلت (دائما باستفزاز الذي يُخرج من أولاد أحمد بركانيته)، لكن توصيفك يشي بأن الثورة التونسية هي ثورة شعرية قام بها الشعراء أو حرّضوا عليها. فأجاب بشبه تراجع قائلًا "لم يكن أغلب شعراء تونس معنيين بمسار الثورة وبتطوراتها. لذلك لجأ أغلبهم إلى الصمت المطبق حزنًا على الاستبداد السابق وتملقًا للاستبداد اللاحق. في ما يخصني سمّيت بيتي "القيادة الشعرية للثورة التونسية" منذ أحرق محمد البوعزيزي نفسه يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010. لم أكن أكتب القصائد فقط، كنت أكتب النثر أيضًا. وأشهّر بالفساد والاستبداد وأعمل على إعانة السلطة على السقوط، إلى أن سقطت من تلقاء نفسها. وكان نشاطي ذلك يكلفني عناءً كبيرًا في حياتي اليومية وفي نشاطي الأدبي. لقد قامت الثورة التونسية على أساس بيت من الشعر لأبي القاسم الشابي:"إذا الشعب يوما أراد الحياة... فلا بد أن يستجيب القدر" وهي لذلك ثورة شعرية وفنية.

سألته ولكن الثورة أوصلت الإسلاميين إلى الحكم، فهل ما زلت "تحب البلاد كما لا يحبها أحد" وأنت عدوك الأول حكم البلاد بعقلية ذوت قبل آلاف السنين؟.
هنا بدأ يتململ ويتقلب فوق كرسيه، فيشعل سيجارة، وينظر في السماء ثم في الأفق، وكأنه يعرف أن هذا النقاش الخاص والشخصي يجب أن يستكمل رغم عدم رغبته في هذه اللحظة في استكماله بسبب انفعاله، فأجاب "طبعًا لا أزال أحبها. ولكنني لا أرضى لها أن تتأخر إلى القرون الوسطى، مثلما يقترح السلفيون الذين لم يقرؤوا كتابًا إبداعيًا واحدًا طيلة حياتهم المليئة بأوهام السلطة وباستئناف العبودية".
سألته عن تجربته في "بيت الشعر التونسي" الذي أسسه، وكان من بنات أفكاره قبل أن تنتشر الفكرة في العالم العربي. فأجاب: "لقد أعطيت بيت الشعر أربع سنوات من حياتي التي لا يمكن تسميتها حياةً بأتم معنى الكلمة، غير أن تضافر جهود السلطة السياسية ذات الخيال الأعرج، مع جهود بعض الشعراء "الذين يكتبون تقارير للبوليس أفضل من قصائدهم الشخصية" جعلني أغادر بيتًا هو، في الأصل، بيتي.

جرت أشياء كثيرة وخطيرة. قليل منها مفرح وكثير منها مُذلّ. ولكنني ألخص كل ذلك في هذه الفقرة التي سترد في مجموعتي الشعرية التي ستصدر قريبا مع "يوميات الثورة التونسية:" من بين الشعارات الكثيرة المحرّضة على منازلة الموت اليومي، اخترت أن أضحّي بالعقائد والقيم البالية من أجل أن يكون الإنسان سيد نفسه ومصيره، اعتقادًا مني بأن الحرية شرط لا يمكن التفاوض حول مدى أحقية الإنسان به، وأن الحياة الكريمة أهم من الشعر ذاته. إذا كان لا بد من خيار."، "الشعراء هم رؤساء جمهورية الحلم"، هذا ما كان يردّده الشاعر الفرنسي، لويس أراغون. لتنفيذ هذه الخطة، وتنزيل ذلك الشعار، تخيرتُ ، مثل آخرين في الوطن العربي، حلولًا غير مسلحة ظانًا أنها لن تزعج أحدًا: أقلامًا ملونة أوراقا بيضاء وجيشًا من العواطف الحارة ووصلت الليل بالنهار، أدفع بالمعاني إلى أقصاها، وبالناس إلى المطالبة بحقوقهم على الفور وعلى عين المكان."