على كلٍ، أُدْرِك أن وصفي للأمور قد يبدو غير منطقي قليلاً، لكن هذا يعود للمشكلة التي وصفتها للتو، وهي عدم قدرتي على تمييز الحدود، بما فيها المنطقية، بين الأشياء، ما يجعلني أغالي في تقييمي لأمر ما، أو أن أقلِّل من شأنه، مقارنة مع غالبية الناس. مثلاً حين تُوقِفُ دورية عسكرية سيارةَ النقل العمومي التي أستقلّها إلى عملي الجديد، وأول ما يطلّ عبر بابها هو فوهة البندقية، أطلب من الجندي بتلعثم، على الأغلب بسبب الخوف، أن يزيحها جانباً حين يتحدث إليّ أو يطلب مني رؤية بطاقة هويتي. عندها، عدا أن الجندي يروح يسخر من تلعثمي، يبدأ مَن حولي مِن الركّاب بالتأفف لأنني أبالغ، فلا حاجة لخلق مثل هذا التوتر. الجندي لن يطلق النار علينا، وإن حدث وفعل، لن يغيِّر تدخُّلي من مجرى الأمور، بل العكس. أجل، إنني أفهم كل ذلك ولكن ليس لحظتها، إنما بعد ساعات أو أيام، أو حتى سنين. هذا على سبيل المثال، لكن يمكن رصد السلوك ذاته في مواقف أخرى شتى، بدءاً من خلع بعض الملابس خلال الفحص الأمني على حاجز ما، وحتى السؤال عن سعر خسة ذابلة مخمجة من بائع خضار غير محترف، يجلس وسط سوق رام الله للخضار المغلق خلال عطلة يوم الجمعة، ويطلب ثلاثة أضعاف السعر العادي للخسة العادية. ثم، ولأنني أفتقد القدرة على تقييم الأمور بشكل عقلاني، كثيراً ما يكون وقع مثل هذه المواقف شديداً عليّ، إذ تهزّني وتزعزعني، بحيث لا أعود أفقه ما يجوز وما لا يجوز، ما يؤدي بي إلى تجاوز الحدود مرة أخرى، إن لم يكن بدرجة أكبر من ذي قبل. إلا أن كل ضروب القلق والخوف والاضطراب النفسي الناجمة عن ذلك، تتبدّد حين يحدث هذا التجاوز في نطاق عزلتي. فكم متسامحة لعبور الحدود هي العزلة، حين أجلس وحدي إلى طاولتي "أعمل" على موضوع سُنِحَتْ لي الفرصة باكتشافه خلال جلوسي الصباحي هذا، لا غير.
على فكرة، أتمنى أنني لم أُحْدِث أي إرباك حين ذكرتُ الموقف مع الجندي أو الحاجز، أو حين أُجهر بأننا نحيا تحت الاحتلال. صوت إطلاق الرصاص وصفّارات الدوريّات العسكريّة، وأحياناً المروحيّات والطائرات الحربيّة والقصف، تتبعها صفّارات سيارات الإسعاف، جميعها ليس فقط يسبق نشرات الأخبار العاجلة، بل ويزاحم نباح الكلب في أن يكون جزءاً من صوت الفضاء هنا. والأمور على هذا الحال منذ وقت طويل جداً، بحيث إنه لم يبقَ هنالك الكثير مّمن هم على قيد الحياة، قادرين على تذكّر التفاصيل الصغيرة التي يمكن بواسطتها رسم صورة واضحة عن شكل الحياة السائد وقتها، مثل تفصيل الخسة المخمجة في سوق الخضار المغلق. لذا، من الُمفرَغ منه أن ما جعل الموضوع الذي اكتشفته ذات صباح خلال قراءتي لمقالةً في إحدى الصحف، يستحوذني، لم يكن يتعلّق بالحادثة الرئيسية التي ورد ذِكْرُها. فمثل هذه الأمور عادية، أو لِنَقُلْ تحدث في مثل هذا السياق. بل لكثرة ما تحدث، ولم أحرّك ساكناً من قبل على سبيل رد الفعل على أيٍّ منها. ففي صباحٍ آخر، وقد كان ماطراً، استيقظتُ من النوم متأخراً، ما حال دون جلوسي إلى طاولتي أمام النافذة الكبيرة "للعمل"، واضطّررتُ للتوجه إلى عملي الجديد مباشرة. حين وصلتُ الموقف ونزلتُ من سيارة النقل العمومي قبل دوّار الساعة بقليل، وجدتُ الشارع خالياً من المارّة والسيارات، كما لحظتُ دورية عسكرية تقف أمام بقالة "البندي". لكن وبما إنه لم يكن في الأمر ما هو خارق للعادة، واصلتُ مسيري في الاتجاه المعاكس نحو عملي الجديد. ثم حين وصلتُ إلى بداية الشارع المؤدي إلى المكتب، لفتَ أحد المارة القلائل انتباهي إلى أن المنطقة تخضع لحظر تجول، وأن الجيش يحاصر إحدى العمارات القريبة. وهنا كذلك لم أجد بأن هنالك ما هو غير معتاد في الأمر، وأكملت طريقي. ثم هناك، في وسط الشارع أمام البوابة الرئيسية للمبنى حيث يتواجد مكتبي، لمحتُ جنديين. بعد أن تعلّمتُ درسي وأخيراً بوجوب الحفاظ على هدوئي وعلى رباطة جأشي في مثل هذه المواقف، لوّحت لهما قائلة بصوت واضحٍ واثق، أنني أعمل داخل المبنى الذي يقفان أمامه. عندها جثا أحدهما على ركبته اليمنى ثم أسند كوع يده اليسرى على الركبة الثانية مصوباً فوهة بندقيته نحوي، فقفزتُ إلى شجرة الدوم التي كانت إلى يميني لأحتمي بأغصانها الشائكة من طلقات رصاص لم تخرج على أي حال. ربما لم يكن تصرفه هذا، بأن يصوِّب بندقيته نحوي، بالإنساني، لكنه كان كافياً لأن أفهم قصده، وأنه عليّ الآن أن أجد طريقاً آخر للوصول إلى عملي الجديد، فحتى الآن لم أجد في كل ما يحدث ما هو غير معهود بحيث بات يتوجّب عليّ أن أعود أدراجي إلى البيت. وبالفعل، وبسهولة، قفزت عن الأسوار والحدود الفاصلة بين المباني والبيوت، وأعتقد أن القفز عن الحدود هنا مبرر للغاية، أليس كذلك؟ إلى أن وصلت إلى الجهة الخلفية من المبنى حيث أعمل. وبما أنه لم يحضر إلى المكتب ذلك الصباح سوى ثلاثة من زملائي، فقد رحت أزاول مهامي دون إزعاج أي شخص لي، وبالتالي بشكل جيّد ومكثّف للغاية، إلى أن جاء أحد هؤلاء الزملاء وفتح نافذة مكتبي دون استئذاني، وحين احتجيت، قال إن عليه أن يفعل ذلك وإلّا سيتحطم زجاجها، فقد أخطر الجيش سكان المنطقة بأنه سيفجّر إحدى العمارات المجاورة التي يرابط داخلها ثلاثة شبان، وهو ما حدث بالضبط بعد بضع دقائق، إذ نسي هذا الزميل فتح نافذة واحدة في المبنى، تحطّم زجاجها حال تفجير العمارة. مع ذلك، كانت نتيجة فتحه نافذة مكتبي لا تطاق، فقد اندفعت عقب الانفجار الذي حقّاً هزّ المكتب، سحب كثيفة من الغبار الذي رأيت منه ما يحطّ على أوراقي وحتى على يدي الممسكة بالقلم، ما دفعني للتوقف عن العمل، فأنا لا أطيق الغبار بالمرة، وبخاصة هذا النوع منه، بذراته الكبيرة التي تصدر صوتاً يثير القشعريرة حين تحتك الأوراق بعضها ببعض، أو حين يروح المرء يخط بالقلم فوقها. وفقط بعد تمكُّني من إزالة آخِر ذرة مِنه مِن على مكتبي، أمكنني الرجوع إلى أوراقي ثانية. وقد يطرأ للبعض هنا أن مواظبتي هذه على العمل تعكس رغبة في التشبّث بالحياة أو حبّها على الرغم من محاولة الاحتلال تدميرها، أو الإصرار على أن هنالك ما يستحق الحياة على هذه الأرض. أبداً. حسناً، لا يمكنني أنا بالذات التحدّث باسم الآخرين، لكن في حالتي كل ما في الأمر أنه ليس بمقدوري الحكم على الأمور بشكل متّزن، أو معرفة ما يجب أو لا يجب القيام به. كل ما بقي يمكنني عمله بغير عواقب وخيمة هو، العمل في مكتبي، أو الجلوس في بيتي إلى طاولتي أمام النافذة الكبيرة، حيث سيتسنى لي قراءة تلك المقالة التي ما شّد انتباهي إليها بالتحديد، هو التفصيل المتعلِّق بتاريخ وقوع الحادثة التي تأتي على ذكرها.
* مقتطف من رواية بالعنوان نفسه