Print
حمدي المصطفى

الرصاصة الرابعة

26 نوفمبر 2019
قص
هذي هي المرة الأولى التي يقود فيها حمّود شاحنته وهو مضطرب إلى هذه الدرجة، حتى عندما كان يقودها في المحافظة، قبل أن يستلم شهادة السياقة العمومية، لم يكن يضطرب بهذا الشكل.. قلبُه الليلةَ يخفق بشدة، بانتظار نبأ عن زوجته التي أُدخلت إلى المشفى الليلة، وهو على طريق السفر. عند الدوّار المؤدي إلى مدخل البلدة المقصودة، رنّ هاتف حمود، فزاد قلبه وجيباً، نظر إلى الساعة فكانت الثانية عشرة وأربعين دقيقة، وبالرغم من أن رقم المتصل لم يكن محفوظاً في الهاتف، ردّ حمود بثقةِ من يعرف جهة الاتصال حق المعرفة:
ــ ألو.. نعم.
ــ حمود أبو سعود، زوج زهرة؟!
ــ أي نعم، من معي؟
ــ أنا أمينة، ممرضة في مشفى التوليد...
ــ أهلين أخت أمينة.. طمنيني، زهرة بخير! ولدَتْ، إن شاء الله؟ قولي نعم، أرجوك!
- إطمئن تماماً. أخ حمود، أبشّرك!، نعم، زهرة ولدَت، وقامت بالسلامة..
- ألف الحمد لله، يا رب.
لم تتركني أكمل:
ــ كدنا أن نضطر إلى إجراء عمل جراحي، ولكن الله سلّم. وهي بخير الآن، وأتاك أسعد - الله يحفظه ويُسعده - ولدٌ مثل قمر الليلة، قمر أربعة عشر.. جعله الله مباركاً.
قال حمّود، وهو يستعدّ لركن شاحنته: الله يطمئن قلبك يا أختي، أووه، توًّاً ارتحت، ولك عندي أيّما بشارة، وأين زهرة الآن!
ــ زهرة أمامي، وهي تراني وتسمعني وتتبسم. وأمّك الحجة عندهما. يمكنك أن تأتي الآن إن شئت، ولكن لا تنسَ، عليك أن تكبّر البشارة قدْر ما تقدِر، فقد ولدتْ زهرة ولادة طبيعية، والمولود - باسم الله ما شاء الله - مثل القمر، اللهم صلّ على النبي، ثم إني علمتُ أنه جاء من بعد ستّ سنين زواج وعلاج. أخبرتني الحجة بكل القصة.. هههه، ولا مجال للإفلات.
ــ بالتأكيد، أنا آتٍ، أبشري! سأكون عندكم صباحاً مع الشمس، أفرّغ الحِمل وأرجع من فوري: ثلاث ساعات للتنزيل، وثلاث ساعات للطريق... عند السابعة، بإذن الله، أكون عندكم. أعطني أمّي أكلّمها..
ركن حمّود سيارته المحمّلة بالجَبس، على يمين الطريق، أمام بيتٍ من طابقين بُني حديثاً غربيّ البلدة وسط فسحة مزروعة مسورة، حيث كان يسهر أربعة أصحاب، لم تنقطع العلاقة بينهم يوماً مذ كانوا زملاء في الثانوية قبل عشرين سنة، وقد جاؤوا الليلة يباركون لصاحبهم الأستاذ شعبان ببيته الجديد.
تكّلم حمود دقائق مع أمّه، ثم مع زوجته زهرة، ووصلت إليه صورة ابنه أسعد في رسالة، وقرّت عينه، وسرى في عروقه برود لم يعرفه من قبل، وصار قلبه يخفق فرحاً. أنهى حمود مكالمته، ووضع هاتفه على التابلوه، وقد لمح الساعة على شاشة الهاتف تدنو من الواحدة. ومن دون أن يفكر في شيء غير صورة أسعد، أرسل يده إلى تحت الفرش، وتلّ مسدسه الملفوف بشِماخ قديم، ولقّمه وأخذ يطلق رصاصات في الهواء: هذه لقيام زهرة، وهذه لميلاد أسعد، وهذه للممرضة صاحبة البشرى.. وأطلق الرصاصة الرابعة: وهذه أيضاً... ولكن لمن؟! ولم يخطر في باله أحد، نظر حوله ورأى نور الغرفة التي يسهر فيها الأصحاب يملأ الشرفة، فقال: فلتكن هذه لعيون الساهرين هنا.
شغّل حمود سيّارته، وقلبُه صالة أفراح كاملة: أضواء وأغان وزغاريد، ومضى في طريقه طرِباً إلى سوق الهال عند أطراف البلدة، ليفرغ حمل الجَبس، وهو يحدّث نفسه: سآخذ من الحاج عبد القادر أجرة النقل وأنفقها كلّها، خمسة الآلاف لن أترك منها ليرة واحدة في جيبي.. سأعطي تلك الممرضة ألف ليرة كاملة: طربوشين.. تستأهل. وأشتري حلوَيات بألفي ليرة، أوزّعها في الحيّ على الرائح والغادي، ثم أرسل المال الباقي إلى أمّ عبدالرحمن تشتري لأولادها الأيتام ثياباً للعيد.. هذه ليلة مباركة، هذه ليلة السعد، ولا يكفيني أن يكون قلبي وحدَه السعيد.
الرصاصات الأربع التي أطلقَها حمود، لحظة فرحه، قبل أن يمضي إلى سبيله، كانت مبعثَ خوف وفزع للرفاق الذين كانوا يسهرون عند الأستاذ شعبان في بيته الجديد، كان أزيز الرصاص قويّاً جداً، وكأنه أُطلق في الغرفة، تفرّقت جلسة الأصحاب وتركوا ما في أيديهم، وقد تبدّلت ملامح وجوههم، وصاح شعبان: يا لطيف، يا ربي سترك، أيّ شيء هذا يا ألله؟! رصاص!! معقول؟! ردّ مروان: إي والله، رصاص حقيقي يا جماعة، الله يستر، هذا مسدس عيار 9/ 14 أعرف صوته جيداً، وكلكم يعرف كان عندي، أيام الشباب، أخوه. فقال شعبان: العَمَه! من هذا الذي تجرأ وأطلق الرصاص، والمخفر لا يبعد من هنا سوى كيلومتر واحد؟! وأخرج هاتفه قائلاً: لنخبّر الشرطة يرَوا ما الأمر. انتفض عدنان: أيّ شرطة يا رجل؟! اتركنا منهم، أتريد أن نقضي الليلة في المخفر بين سين وجيم.. لا شك أنهم سمعوا الصوت، وعمّا قريب يأتون. قال مروان: ما هذه البلوى التي جاءتنا يا جماعة؟ وحجب وجهه بكلتا يديه، وتمتم بصوتٍ يُسمع: من يكون هذا؟ قسماً بالله، قبل أيام كنتُ أحدث نفسي بأن لم يبق أحد في البلد عنده سلاح، ما هذا!! ما صدّقنا أننا انتهينا من هذه القصص! قاطعه عدنان: لست أدري، يا شباب، لماذا يطوّقني شعور بأن إطلاق الرصاص مقصود مئة بالمئة.. إي والله، لا يمكن أن يكون مصادفة.. يا جماعة، الرصاص من أمام البيت تماماً، بل كان موجّهاً إلى الشرفة! ثم إن
مُطلق الرصاص كان يُطلقه بمنتهى الثقة، وكأنه في عرس!! أقسمُ إنه كان يعدّها، أربع رصاصات، ونحن أربعة!! لا أحد يستطيع إقناعي بأنها مصادفة؟! مُطلق الرصاص يريدنا، قولاً واحداً، أو أنه في أحسن احتمال يريد أحدَنا!! ارتفع رأس شعبان، وكان قد أطرق، وقال: قل أعوذ برب الفلق، منك ومن كلامك. كانت تنقصنا تحليلاتك الجهنمية لتكتمل المصيبة! وخرج إلى الشرفة حانياً ظهره، يستطلع الأمر علّه يجد ما يريحه ويردّ به على عدنان، لكنه عاد بما يضاعف الخوف، رجع برصاصة كانت قد ضربت سقف الشرفة وهوت.
مضت ساعة كاملة، ولم تصل الشرطة؛ فازداد قلق الأستاذ شعبان وضيوفه، ومن شدة خوفه، عرض على رفاقه أن يمضوا الليلة عنده، فاستجابوا له مرحّبين، وكأنهم كانوا ينتظرون ذلك العرض. وأعدّ لكل واحد منهم مكاناً يقضي فيه ليلته، وجلس هو في الصالون، يقابله مروان على الأريكة، بينما خرج عدنان إلى الشرفة، وجلس سلمان عند باب الشرفة ظهره إلى الصالون، وصار كلّ واحد إلى نفسه، وانقطع كلّ كلام.
أخذ شعبان ينظر إلى كأس شاي أمامه، وقد تراكمت في قعر الكأس أعقاب سجائر مطفأة جعلت سؤره آسناً، وشرع يفكر في الرصاصات الأربع: أنا المقصود، نعم.. لا شك في أن هذي رسالة من ماجد ابن أخي، يؤكد فيها أن السبيل الوحيد إلى الخلاص هو أن أترك له الأربعة هيكتارات، مؤكدٌ أنه هو، لأني أرسلتُ إليه اليوم بأني لن أتنازل عن متر واحد من الأرض، وبأني سأُخرجه منها بالقانون.. يا إلهي، هذا ما لم أحسب له حساباً: ماجد لن يسكت، وسيقتلني لا محالة، مؤكد أنه فقد رشده حين أيقن أني أستطيع أن أخرجه من الأرض.. كان عليّ أن أقبل بشرعة الشيخ رشيد، إذ قرّر أن من حقّ ماجد أن يأخذ حصّة أبيه. لقد كبّرت رأسي وبالغتُ في ردة فعلي، ولم أحسب للعواقب حساباً.. غداً من الصباح أُرسل وراء الشيخ رشيد، وأعتذر له وأعلن قبولي بقراره: أربعة هكتارات كاملات لماجد، وسأعطي لناصر أيضًا حصّته، لن أنتظر أن تُعاد هذه الحلقة، سأنهي موضوع الأرض إلى الأبد، حسبي ثمانية هيكتارات. وليت أن الوقت أبكر، كنتُ فعلت ذلك الليلة.. إذا طالت القصة يوماً آخر؛ فقد أخسر حياتي. هذي رسالة من ماجد إليّ أنا وحدي: أربع رصاصات، رصاصة مقابل كل هكتار، يا ربي داخل على بابك، يا صبحُ لا تتأخر.
من على الأريكة، كان مروان يمرّر نظره ثقيلاً بأثاث البيت الجديد، ولكنه لم يكن يتوقف عند شيء، حتى إنه لم يفكر في قراءة ما كُتب على اللوحة المذهبة الثمينة التي تغطي جزءاً من صدر الصالون، وصل نظره إلى عتبة الصالون، وجعل يتأمل الأحذية المتصاقبة، وحطّت عيناه على شحّاطته التي اشتراها عصر اليوم، وقد علق بها وحلٌ لزج، ثبت نظره في ذلك الوحل، وفتح باب النجوى: يبدو أن "أبو صلاح" أخبر الأستاذ حامد بأني كتبتُ به تقريراً.. ولكن أمعقول أنه بهذا الدهاء؟ ولمَ لا؟ إنه هو نعم، لا أحد غيره، لقد رآني هذا اللئيم في الإدارة والورقة بين يدي، عندما كان يقدّم لي الشاي.. رأيتُه ينظر إلى الورقة غير مرة، ومؤكد أنه لمح اسم حامد في التقرير، إنه يحب حامد ولا شك أنه أخبره بالأمر. كم كنتُ مغفلاً حين ظننت أن "أبو صلاح" درويش ومعتر!! نعم، لقد علم حامد أني كتبت التقرير، وربما علم أيضًا أني سأرسله إلى شعبة الأمن غداً: الرابع عشر من حزيران.. يا ربي لطفك، ساعدني، لقد أطلق حامد أربع طلقات في الهواء، وترك الباقيات لي.. نعم هذا مقصده. إذا كان حامد لا يخاف من الحكومة، ويُظهر امتعاضه من قراراتها ويسخر من مشاريعها ليل نهار؛ فهل سيخاف مني!! لا شك أنه سيقتلني ولا يبالي.. عليّ أن أمزّق التقرير غداً أوّل ما أصل إلى المكتب، وأن أفتح صفحة جديدة معه، وظني به أنه سينسى الأمر، هذا الصنف من البشر يأتي بكلمتين طيبتين.. ليتني أحضرتُ الدفتر معي، كنتُ مزقته الآن ونمتُ على طولي. أول شيء أفعله غداً أن أمزق تلك الورقة.. الورقة! سأمزق الدفتر كله، وأحافظ على حياتي وحياة أسرتي، الأمرُ بيّنٌ أنا المقصود بهذا الفيلم، هذي رسالة إليّ وحدي من حامد، وليس حامد من يُرسل رسالتين، أنا من يعرفه، يا شمس لا تتأخري..
اتخذ عدنان حائط الشرفة متكأً، وأخذ يدخّن بغير حساب، ويتأمل الشارع الخاوي، ويمرر نظره على ما أمامه حتى رأى كيس قمامة أسود مبعوجاً عند الحاوية مقابل البيت، فاستقر نظره على ما نفذ من الكيس، وأخذ يصغي لصوت ضميره: يا إلهي، لقد فعلها طلال.. نعم بالتأكيد إن ليلى أخبرته بأنني آتٍ إلى أهلها غداً الأربعاء لخطبتها! إنه هو بالتأكيد. لقد أكّدت لي أختي ريمة أن الفتاة تحبّه وهو يحبّها، وأن أهلها أجبروها على القبول بي، لا لشيء سوى أني موسر! كيف لم أبالِ بكلامها!! ما أشد حمقي! ما لي وهذه العلقة، ألم يبق في البلدة غير ليلى زوجة؟! سأتركها وحبيبها، موتٌ يأخذهما معاً، وعليّ أن أنهي الموضوع بأي شكل ولن أعدم حيلة.. سأقول أيّ شيء! وليقولوا ما يشاؤون.. هذا الولد مجنون من قبل أن يكون عاشقاً، وبالعشق يكون جنونه مركّباً، وقد يقتُلني، ولم يُطلق أربع رصاصات من عبث. لقد عرف أن موعدنا غداً الأربعاء. هذي رسالة إليّ أنا من دون الجميع... لن أتزوج لا ليلى ولا غيرها.. الموضوع انتهى إلى الأبد، من الصبح أُنهي كل شيء، يا ربّ عجّل بالفرج.
كان سلمان قد جعل ظهره إلى حائط الشرفة الجانبي، وأرسل نظره من بين كفيه، حتى استقرّ نظره على البالوعة قباله في زاوية الشرفة، وعليها منديل مُستهلَك وأوساخ متداخلة متراكبة، ومضى يحدّث أخبارَه: لا بدّ أن خالداً وراء الأمر، يبدو أنه عرف أنني سأقابل ثروت غداً، وعرف أني سأقبض منه أربعمئة ألف! وهذه الطلقات الأربع إشارة إلى المبلغ، كل طلقة مقابل مئة ألف.. يا إلهي حِلمك، لقد علم خالد أني رفضتُ مناقصته، وأنها في طريقها إلى ثروت، ولن يسكت، فهذي ثالث أو رابع مناقصة له أرفضها وأتركها لثروت، أجل، هذي رسالة من خالد وقد وصلت. عليّ أن أتصرّف بأسرع وقت ممكن.. أوّل ما أفعله غداً أن أتصّل بخالد، وأبشّره، وليلعن اللهُ ثروت والساعة التي عرفته فيها، وستنتهي المصيبة هنا، نعم ستنتهي، وسأنهي علاقتي بثروت وبكل من له علاقة به. آهٍ لو أن الوقت أبكر، إذن لاتصلت بخالد الآن، ولمّحت له بأن لا حظ لغيره في المناقصة، ولدعوته إلى المكتب.. ولكن الصباح رباح، يا صبحُ لا تتأخر..

صباح الأربعاء، وصل حمّود إلى المشفى، واستقبلته الممرضة أمينة، وحظيَت بأكثر مما خمّنت، وأوصلته إلى غرفة زهرة. دخل حمود وعيناه تلمعان دمعاً، ألقى السلام وقبّل يدَي أمّه بمحبّة، ثم دنا من زهرة، قبّل جبينها الندي بلطف، وأزاح خصلة شعر نزلت عند شامة خدها الأيمن، وجلس قربها، فتعدّلت ووضعت الطفل في حضنها، تبادل الزوجان النظرات والكلمات، ثم استوى نظر الجميع على وجه أسعد، وقد بدا منيراً كالبدر، مدّ حمود رأس سبابته المتشققة إلى حنك أسعد الغضّ، ومضى يهدهده: "سعّود، عيوني سعّود.. سعّود، قليبي سعّود"، والصغير يتبّسم لترنيمات والده ابتسامات متواترات.. لم يكد أحدٌ يصدّق ما رأى: لقد ابتسم أسعد في يوم ميلاده أربع ابتسامات.