Print
إياس غالب الرشيد

من ينقذ البلاد من شحِّ الشتائم؟

6 يونيو 2019
قص
- هل تستطيع التفريق بين الأحمق والغبي والحمار والمهووس والغريزي والتيس و(ابن الستين كلب)؟
- طبعاً لا تستطيع!!
- الأمر بالنسبة إليك مجرد شتائم، تتهم بها المناوئين لك، وإذا هدأت سَوْرة الغضب ترتخي وتسحب من السيجارة نَفَسَاً، ثم تصبح راوية للشعر وتقول: إلا الحماقة أعيت من يداويها.
- طيب.. هل معجم الشتائم عند النساء مختلف عن الرجال؟ وهل يأخذ هذه السيرورة؟ ثم تعود المرأة إلى رشدها وتلخص الموضوع بقولها: إلا الحماقة أعيت من يداويها! وبذلك تعطي عذراً لهذا المذنب، وتُخرجه من حومة الشر المطلق.
- هل كل المواقف يناسبها الشتائم نفسها؟ أم أن هذه الشتائم تدخل في الحالة المَتْحَفية؟ وتفقد عنصر التنفيس؟! يعني إذا كنت في باص مزدحم وداس رجل سمين على إصبعك وهرسه فإنك ستقول لأترابك وأنت تروي لهم الحادثة: الحيوان دعس على إصبعي. طيب لو سرق محفظتك ستقول: ابن الستين كلب سرق محفظتي. طيب إذا تزحلق أثناء توقف الباص المفاجئ وتعلق بثيابك؛ فمزق لك البنطلون وبانت عورتك هل ستقول: هذا الرجل أحمق ترك كل شي ممكن
أن يمسكك به وتعلق بأعضائي التناسلية؟ يا إلهي هذا أحمق كاد أن يقتلع أعز ما أملك، وهل ستقول: إلا الحماقة أعيت من يداويها؟
- عجيب أمر اللغة، وعجيبة قدرتنا أو عجزنا عن التعبير عن المواقف.
- يجب أن تحل الحكومة هذه المشكلة، وتنشئ مَجْمعاً لغوياً هدفه تحديث الشتائم، وتطرحها في سوق البورصة للتداول، وتصبح سلعة مثلها مثل البنزين والباذنجان؛ فنستطيع شراء شتائم من خلال البطاقة الذكية، وهذا الأمر بلا ريب سيطيل أعمارنا لأنك في موقف ما تحتاج لأن تصرخ في وجه المشتوم، وتلعن عظام أجداده منذ العصر المطير، وإن لم تفعل ذلك ربما ينفجر أحد شرايينك، ومن ثمَّ ستحصِّلُ الحكومةُ أموالاً طائلة، ويكون هذا المشروع أحد أعمدة الدخل القومي، وإذا أرادت الحكومة تطوير هذا المشروع يمكن أن تجعل شتائم ذهبية، سعرها أعلى من الشتائم العادية، كأن تقول للمشتوم الغني: يا مُحْدَثَ النعمة يا مُحْدثَ الكروسَّان، وتجعل أيضاً شتائم للبروليتاريا وشتائم لحثالة البروليتاريا، وإذا توفرت لهذا المشروع عقول مبدعة يمكن أن نقدم شتائم بكل اللغات، وشتائم لذوي الاحتياجات الخاصة، وشتائم بلغة الإشارة.
لأننا إذا بقينا نعيش بهذه الطريقة، سننقرض قريباً؛ فالمشكلات كثيرة، ومعجم الشتائم محدود،
فمن غير المعقول ألا تصادفك في اليوم عشرون مشكلة ومعجم شتائمك عشر شتائم فقط، هذا العدد لن يشفي الغليل ولن يطفئ الغيظ، وبسبب هذه الشحّ في معجم الشتائم وتكراره الممل خسرنا كثيراً من أحبابنا، كما خسرت قرية "عين الواوي" حكيمتها.
- مطلع الثمانينيات، أو ربما أواخر السبعينيات، لا أذكر التاريخ بدقة، ولكن في أيام حافظ الأسد بدأت الطبقة الوسطى تتآكل وتضمحل، واختفت من البلاد أي حالة سياسية أو نقابية أو فكرية، أو حتى راقصة تعمل من منطلق الانحراف من أجل الانحراف، وصارت عصا رفعت الأسد تضرب مع عصا أخيه، وتحولت البلاد إلى جلد غزال يدبغ كي يكون على فراش الصفقات السياسية المشبوهة على طريق التقدم والاشتراكية.
- نعم.. نعم.. اضمحلت الطبقة الوسطى، وبدأت الأرياف تتآكل، وصار الناس يبحثون عن إعادة تموضع جديد في البلاد على قاعدة ناولني الرغيف.
- المهم.. مطلع الثمانينيات.. نعم مطلع الثمانينيات تماماً.. هجرت عائلات ريفية قريتَها لتسكن في ريف قريب من العاصمة، وجلبت هذه العائلات معها بقرها وخرافها ودجاجها وشرفها، وكان لأحد هذه العائلات صبية مراهقة تحاول الوثوب إلى الخامسة عشرة. سكنت هذه العائلة في بيت طيني قديم، وبدأت تتلمس الجغرافية، وقريباً من هذا البيت الطيني كانت ثكنة عسكرية لجيش حافظ الأسد، وكانت الفتاة ترافق الخراف قريباً من هذه الثكنة العسكرية، وكان أن اغتصبها أحدُ العساكر؛ فحملت.
- أخفت الفتاة الخبر عن أهلها حتى بدأت بطنها تتكور، ثم ظهر كل شيء.
- تداعت النسوة لاجتماع طارئ لبحث هذه المسألة، وتم الاتفاق على مجموعة محددة من النساء فقط، وهن من سيحضر هذا الاجتماع، ولم يكن من باب المصادفة أن اللاتي حضرن قد تجاوزن الثمانين، ولعل هذا الأمر عائد لحكمة عند هؤلاء القوم، لأن من بلغت الثمانين تكون قد تخلصت من شهواتها، وتحولت إلى عقل فقط، أما باقي الجسد فهو ظهر محماسة، أو جلد دولاب سيارة، لا يمكن أن يتأثر عاطفياً بكل ما يروى، ولأن المصاب جلل لا بد من حل سريع وعقلاني لهذه الكارثة التي سببها الجيش الوطني.
- دخلت النساء إلى غرفة المداولات، وتسللت دون انتباه منهن سيدة تسير في الخمسين ما زالت إبر الصنوبر تئز في دمها وتسحبها إلى تخوم الأنوثة.
- تصدرت امرأة تسعينية المجلس، وهي حكيمة هذه القرية الراحلة من جوع إلى جوع، وأمسكت العكاز بيدها، وبدأت تسأل الفتاة عن الذي اعتدى عليها من بين هؤلاء العساكر الوطنيين، والفتاة في وجوم يقترب بها من الانهيار، وكانت العجوز الطاعنة تركز على سؤال واحد: من الجاني؟؟ والفتاة لا تجيب، والعجوز لم تضق ذرعاً، بل كانت تصمت، ثم تعود إلى
السؤال بصيغة مختلفة، وبين الفينة والفينة تطلب من النسوة التجهز للرحيل وتتفقد الأشياء التي جلبنها معهن من بقر وغنم ودجاج وشرف.
في لحظة صمت وتأمل من العجائز ضاقت امرأة إبر الصنوبر ذرعاً بما يجري، ومن هذا الإيقاع البطيء في حل المشكلة وسألت الفتاة:
- يعني خلص راح شرفك؟.. ما عاد في شرف؟! شو ساوى العسكري؟ وكم مرة؟
أمسكت العجوز العكاز وضربت امرأة الصنوبر، وقالت لها:
- أي شرف إنتي الأخرى؟ البنت حامل. نحن نتكلم عن حمل.. لا نتكلم عن شرف.. اصمتي يا حيوانة. اصمتي يا بقرة.
ثم نظرت في عيون العجائز وقالت: أريد شتيمة تشفي الغليل!
ثم شهقت وماتت.

(سورية)