Print
محمود الريماوي

المبيت في حيفا

12 فبراير 2020
قص

(1)

ــ هل ترسم يا راسم؟
ــ لا. أحب الرسم فقط.
ـ أهلك سوف يزعلون منك، فقد سمّوك راسم كي ترسم، لا كي تحب الرسم فقط.
ــ طيب.. يمكنك أن تعتبريني اسماً على غير مسمّى. هل ترسمين أنت؟
ــ أنا راسمة على شيء (عازمة على فعلٍ ما).
قالت ذلك ضاحكة بعد أن انفردت به، وعاودت الترحيب به:
ـ أهلا بالأستاذ راسم. نحن بلديات، إذاً.
هذا ما قالته ميسون مزهوة، بأسنان لامعة رغم التدخين، وبعينين مشعشعتين رغم الانكسارات، وهي ترمق قميصه السماوي، فيما هز راسم رأسه بشعره نصف الأشيب مبتسماً، وهو يردد: الجلمة والسنديانة، لم أتوقع أن أصادف أحدا من جلمة حيفا. لكني أقيم في حيفا، ولدت ونشأت فيها. تستطيعين القول إني حيفاوي.
ـ انا لم أر الجلمة ولا السنديانة.
ـ لم يعد من الممكن رؤيتهما. الجلمة أنقاض بيوت، وقد أقاموا معسكراً للجيش فيها. أما السنديانة فعليها مستوطنة.
ــ الجلمة تبقى جلمة فهي ليست مجرد بيوت وشوارع. وكذلك السنديانة. أنا رأيت المخيم البائس والسعيد بروابط أهله. وحتى هذه السعادة لم تعد موجودة. هذه زيارتك الأولى إلى عمّان؟
ـ الأولى؟ جئت هنا 13 أو 14 مرة. أنا مدمن على زيارتها، إدمان صحي. أستغل كل إجازة من عملي لتمضيتها هنا. والأهل والأصدقاء والمعارف في البلاد نصّبوني دليلاً سياحياً لهم حين يزورون عمّان، أو يهمّون بزيارتها. أي الفنادق أفضل، أين يتناولون المنسف، أي الجامعات أفضل لأبنائهم. أين يأكلون أطيب كنافة. أين يجدون أفضل عباءات رجالية. أين يعثرون على أحسن جميد. أين يمكن أن يجدوا أقاربهم. كيف يمكنهم شراء شقة صغيرة فيها؟.
ـ أنا المقيمة الدائمة في عمّان لا أعرف الإجابة على بعض هذه الاستفسارات. كان الله في عونك. تأتي دائما لوحدك؟.
ــ أجيء أحيانا برفقة صديق أو رفيق سفر. فأنا أرمل منذ أربع سنوات. أتت معي المرحومة زوجتي مرتين، لها من الأقارب قريبة واحدة ذهبت إلى زيارتها، ووجدتُ العنوان بصحبتها بصعوبة في جبل الزهور، ولم تشعر برابطة القرابة. ثم جاءت معي مرة ثانية ومات خالها في البلاد في أثناء الزيارة، ثم أخذت تفضّل حين أسافر، أن تذهب هي إلى أهلها في الناصرة بدلاً من المجيء معي.
ــ رحمها الله ـ عندك أولاد؟
ــ عندي بنت متزوجة، وشاب عازف وممثل لا يكفّْ عن السهر والسفر. ألم تذهبي إلى حيفا؟
ــ أقاربي ذهبوا: خالي وأولاده وعمتي وأولادها. أنا ذهبت إلى الضفة مرتين. لم أذهب إلى الـ48 *. تؤلمني فكرة الذهاب إليها. لا أريد الحصول على فيزا منهم.
كانا قد تعارفا في إحدى أماسي الصيف، في المركز الثقافي الملكي وسط عمّان، مع أصدقاء مشتركين على هامش افتتاح معرض مشترك للرسم. في الليلة نفسها سارعتْ إلى إضافته على قائمة الفيسبوك، وسارع لقبول صداقتها وتصفح صفحتها، وكانت هي قد تفرجت مرات على صوره.
وفي تلك الليلة الصيفية لم تنم ميسون. لقد عرفت ما تريد، مما يوجب عليها اليقظة والاستعداد!: إنها تريد الذهاب إلى حيفا، وتريد وهي المنفصلة منذ سنوات وبلا أبناء ـ تريد راسم. صديقاتها اللاتي وصفنها بأنها مجنونة، عليهن الاطمئنان لصحة هذا الوصف. الوصف صحيح. لقد سئمت عبودية العقل، وميسون الشابة السمراء التي تبحر بثقة في أربعينات العمر ببنطلونات الجينز وبخطى متعجلة وبصوت رنّان، علِقت من قبل بالسياسة وبالأحزاب والفصائل، وخسرت وظيفة ثم تخلى عنها زوجها، ولم تعد تؤمن كما كتبت مرة على صفحتها "إلا بالبشر والحجارة والخبز والماء والرسم.. أما الهذر المصفوف والمُفخّم فهو مثل زبد البحر".
ونام راسم تلك الليلة نومه الطويل، شاكراً في طويّته لميسون مبادرتها في الصداقة وهو ما كان يتحرج المبادرة إليه بعض الحرج. وإلى هذا فثمة مشاعر غريبة تنتابه، فحين يحل في عمّان يشعر أنها مدينته وسبق له الإقامة فيها، لكنه لا يلبث بعد أيام أن يشدّه الحنين إلى حيفا، وبرجوعه إليها يلوم نفسه لأنه تعجّل الإياب. فيما تحنّ ميسون إلى مخيم البقعة، حيث ولدتْ ونشأتْ (ولم تترعرع!)، من دون أن تحب العودة القهقرى إليه أو الإقامة فيه. تحِنّ فحسب إلى الطفولة المُبدّدة إلى الجيران الأقربين إلى الأحلام الأولى إلى مدرسة الفقر السعيد والشيطنات المبكرة، لا إلى المكان العشوائي، والتعيس، الذي يتزاحم الناس فيه وقوفاً على مياه الغسيل المدلوقة على الأزقة، أو على أحشاء عجل ذبيح يقطُر دماً. حتى أنها لا تزور المخيم إلا مضطرة بعد أن هجرته إلى العاصمة، وسرعان ما فتحت قلبها لراسم عبر الفضاء الأزرق.. وتجاذبا دبيب العواطف ما إن عاد إلى مدينته يومين على لقائهما. ولم تلبث أن أخذت تداعبه بعبارات مثل "تعال. أنتظرك. تعال". بهذا كانت تختتم محادثاتهما كل ليلة تقريبا. وراسم يتشوق للمجيء لكن لديه ما يشغله. فما زال يتعاون مع مكتب محاماة، وينشط في جمعية للمساواة. وميسون تقول: لو بِيدي المجيء لجئت مثل الطير الطاير في عطلة كل أسبوع. تعال أنت يا بلدياتي سوف تجد ما يسرّك. وجدتُ لك فندقا ممتازا. قريبا جدا عرض مُغرٍ للتخييم في وادي رم.. اغتنموا الفرصة. وجدت مطعماً لأكلة المسخّن على طريقة الجدّات ومطعما آخر يقدّم الشيش برك على طريقة العمّات والخالات.... ومرة سألته: ألن تحضر أسبوع الفيلم الفيتنامي؟ ولم يكن هناك من أسبوع لهذا المصنف. وفي مرة سألته: لماذا لا نفكر أنا وأنت بالزواج.. شو ورانا؟. ولم يقل لها إن لديه صديقة عزيزة جداً في البلاد (من دون التصريح عن الصديقة الثانية شبه السرّية: اليهودية "التقدمية"). واكتفى بالقول إن اهله هم الذين زوّجوه حين تزوج، وأنه لا يصلح للزواج. ليش من غير شر؟ سألته فأجابها: جينات.. بالوراثة!.. وعلّقت: والله إنك محامٍ.. تأخذ الواحد إلى البحر وتعيده عطشاناً.


(2)
 لا يقصد راسم بحر حيفا كثيرا. يفعل ذلك في المناسبات. جذوره الريفية الجبلية تجعله يألف الينابيع والسواقي، ويتوجس بعض الشيء من البحر. وعلى العموم فإنه يؤثر.. اليابسة، والانغماس في بحر حياة الناس والأصوات والروائح البشرية.

"لا يقصد راسم بحر حيفا كثيرا. يفعل ذلك في المناسبات. جذوره الريفية الجبلية تجعله يألف الينابيع والسواقي"(Getty)


















لن أترك مستقبلي في حيفا. فهي كل حياتي ومتعلقاتي..
لكنك من السنديانة، ولست من حيفا. أنت لاجئ إليها.
لا مكان لكلمة اللجوء في حياتنا. يمكنك أن تقولي إعادة انتشار.
هذا تعبير عسكري.. عليك الحذر!
ما عليك.. بيننا وبينهم دائما حرب كلمات
تعالي إلى حيفا.
أنا؟ كيف.. بـ طاقية (بقبّعة) إخفاء؟

 

(3)

مضت شهور وشهور نجحت ميسون بعدها بمزيج من التوسّلات النسائية وإطلاق الشتائم والأكاذيب الارتجالية في الحصول على تصريح من السلطة لزيارة رام الله. وتنفست هناك الصعداء. مدينة صغيرة بحجم منطقة مرج الحمام. وأخذت تنتظر هناك راسم. وقد جاء في اليوم التالي بسيارته الإسبانية البيضاء وباللوحة الصفراء. دعنا نبقى في رام الله.. يعني حل وسط بين عمّان وحيفا.
هي مكان وسط حقا في الجغرافيا، لكنها ليست حلا. فلا أنا أريد الانتقال إليها، ولا أنت تستطيعين الإقامة فيها.
ما بك؟! لماذا تغلق الطرق أمامي. كم أنت بارع في الإغلاقات.
أنا لا أغلق شيئا. هي المغلقة يا صديقتي.
وسألته ماذا أحضرت لي معك من البلاد؟ صرتُ أقول مثلكم: البلاد، لا فلسطين ولا إسرائيل.
ــ وهي تقريبا هيك بالنسبة لنا!. قال ضاحكا ومتأسّياً. وأراها تصريحاً لها لزيارة حيفا، فارتمت على صدره أمام الناس في كافتيريا الفندق. وأزاحها ضاحكاً برفق عنه، مستشعراً جمال انسدال شعرها على عينيها الناعستين. تصريح لـ24 ساعة بدون مبيت. كيف يعرفون إذا بتّ أم لا؟ يعرفون من كشوفات الفنادق، والأماكن شبه الفندقية. وإذا خرجتِ في ساعات الصباح من حيفا باتجاه رام الله، فهذا يعني أنك بتِّ وخالفت المسموح بالتصريح. لن أنام، لن أبات يا راسم. قل لهم أن يطمئنوا. لا. رح أبات يا أستاذ في الهواء. أبات.. على ذكراك.


(4)

 كتبت ميسون تباعاً على صفحتها "حيفا الفلسطينية مدينة عالمية. فيها بقايا لألمان وبهائيين وأحمديين وعرب ويهود وسياح من العالم كله. وبالنسبة لهم فأنا مجرد زائرة أو سائحة في وطن أجدادها. تخيلت أجدادنا يجيئون ويذهبون في شوارعها. بل رأيت أطيافهم. وددتُ أن استوقف أحدهم وأعرّفه على نفسي، أقول له من أنا، وأرى إن كان سيرحب بي، وأن ينصحني إلى أين أذهب.. وماذا بوسعي أن أفعل فيها.
"فيها أحياء عربية أو فلسطينية مثل: وادي النسناس وعباس ومحطة الكرمل والكبابير والحليصة ووادي الجمال ووادي الصليب. الأحياء التي بقيت بعد النكبة.. وقد استعنت بالويكيبيديا حتى لا أغفل عن أي اسم.
"أحببتها وخفت منها. من اتساعها وضخامتها مع أنها أقل اكتظاظاً من عمّان. وهي شرقية وأوروبية وآسيوية، وما لا أعرف. العرب هنا يتكلمون عربي وفلسطيني وعبري، واليهود يعرفون العربية بدرجات ويختلط العرب واليهود بعض اختلاط.. وقد ظننت بعضهم عربا مثلنا. السحنة السمرا مثل سحنتي تخدع.
"حدث معي في زيارتي لحيفا أن سيدة ترتدي قبعة كبيرة سوداء، استوقفتني وتحدثت معي بالعبري وظنتني لا بد إسرائيلية. وحين أشحتُ بيدي، لبّخت هي بكلام لا أعرف ما هو. لا بد أنها شتمتني. إسرائيلية؟ جئت إلى حيفا كي يحتسبوني منهم؟ هذا ما ينقصني".
راسم الذي احتفى بها باحتشام دعاها لرؤية الواقع كما هو، "مع حقك في مشاعرك الخاصة ولديّ بعض منها، فنحن نعيش في دولة عصرية وعنصرية يحق فيها للواحد الاشتكاء من العنصرية، وأن يلجأ للقضاء الذي ينصفه في بعض الأحيان". كانت تسمع كلاما غير مألوف. وسألته: تريدني أن أنسى الجذور، أنسى الماضي، وأن أكون من أبناء إسّا (الآن)؟ وضحكت. وأبلغها أن لا تنسى جذورها وأن لا تنسى الماضي أبدا، فهم أيضا لا ينسونه.. لهم ماضيهم الخاص المفضّل لديهم.
أما عاطفة ميسون نحو راسم فقد اصطدمت بعاطفتها المضطربة نحو حيفا... وتناثرت. وقد بدا مختلفا عما رأته عليه في عمّان وحتى في رام الله. لقد سمعته يرطن بالعبرية بطلاقة على التلفون. وقد أغاظها ذلك قليلا، لكنها اغتاظت أكثر حين سمعته يضحك خلال تلك المكالمة. يضحك من قلبه ابن الناس... كان تقريبا يضحك بالعبري. يمّا منكم ما أقواكم (ما أمكركم!) يا أهل الـ48.. يا أهل إسّا!.

 (5)
في مطعم عربي بلا ديكور يُذكر، تناولت ميسون وجبة سمك السلطان إبراهيم مع راسم ليس بعيدا عن البحر. قالت له الآن أشعر أني في حيفا. صاحب المطعم قال إن كثيرين من أهل البلاد يقصدون عمّان، لكن الذين يأتون من عمّان قلة قليلة. وميسون شعرت بالإحراج. ماذا يسعها أن تقول. قالت لراسم: أجبه، رحم الله والديك، أجبه عني. فأجابه أنهم يحتاجون فيزا، وليس مثلنا نذهب بالباسبورت فقط. وسحب من جيبه جواز سفره فقالت ميسون: دعه في جيبك.. لا أريد رؤيته. وامتقع راسم قليلا. فتبسمت ميسون: لا تزعل. هذه أمور صعبة. قصدي غريبة، لا نستوعبها. كُل. أنت لا تأكل. أنا أكلت الأكل كله. أنا القطة التي تأكل غداك.
 قال لها أريد أن أريك شيئا قبل أن تسافري. وادي النسناس. سألته وادي إميل حبيبي؟ أحببتُ المكان لكثرة ترديده لاسمه، ووصفه له. بنايات قديمة وشوارع فرعية نظيفة تنبض برائحة الألفة. وفي الهواء طعم حموضة قديمة. ورجْعٌ لأصوات خافتة. وقف أمام بناية بطابقين وقال لها هنا اجتمعوا (لجنة الدفاع عن الأراضي) وأقرّوا عام 1976 يوم الأرض الذي نحتفل به كل عام. سمعت وشهقت. وجلسا بعدئذ في مقهى مفتوح على مقربة من البناية. سمعت على طاولة قريبة دردشة بالعبرية بين رجل وامرأة مكتهلين. فيما نهض راسم وعاد مصحوباً برجل نشيط متأنق وهذا أقبل على ميسون، انحنى وصافحها ورحّب بها: البلاد نوّرت ببنت بلادي. أنت في حيفا الباقية. حتى اسمها عجزوا عن تغييره، وغيّروا أسماء أخرى. شو اسم الأخت بلا زغرة: ميسون. يعني لو غيّروا اسمك يا ميسون فهل تتغيرين؟ هل تصبحين شخصا آخر؟ وميسون لا تعرف ماذا تقول. تهز رأسها مذهولة. لا تعرف لماذا اشتد عليها الشعور بالوحدة فيما يقف راسم المضياف على يسارها، ومأمون صاحب المقهى على يمينها. داهمتها حاجة إلى البكاء... أخذت تبلع ريقها بصعوبة مرة بعد مرة، وتنهر نفسها في الأثناء: لا تقلبيها مناحة يا بنت الناس، حتى لا يتشاءموا منك ويكرهونكِ. فالناس هنا تقاوم بالضحك لا بالبكاء. ليس مثلنا. ورمقت راسم بقربها وهي تغرغر بعينيها العسليتين، وتمنت أن يحضنها وقد اكتفى بوضع ذراعه حول كتفها. كانت ذراعه أخف مما توقعت. هذا صاحب المكان. توقعت ذلك. إنه يشبه ممثلا شهيرا، نسيت اسمه. وسارع الرجل للقول: شون كونري. أنا كونري الحيفاوي لكني مش جيمس بوند. وبيتنا قريب من هنا. تفضلوا عنا. إلى فرصة ثانية. اشربي الزهورات، بردت. وشربتها دفعة واحدة. هيا نمشي. أريد أن امشي في هذا الشارع الضيق. تعودتُ على الضيق في المخيم وأجد نفسي فيه. كانت ترغب في المشي على غير هدى. على هواها. وتقول له: كن قريبا يا راسم لا تبتعد عني. وراسم لا يبتعد لكنه لا يجيد المشي البطيء. تتفرس ميسون في وجوه كبار السن وهؤلاء يمشون إلى حالهم بأقل التفات. وتتمهل في مشيها وتعاود التفرس في وجه سيدة شرقية الملامح وتسأل راسم: من هذه؟ وراسم يضحك: أعرف كثيرا من الناس، لكني لا اعرفهم كلهم.. وتسأله متى يجب أن أغادر. ما زالت هناك 3 ساعات. وتدلف حانوتا: أعطني قنينة ماء صغيرة وعلكة بنعنع. علكة حرّاقة.. ويذكر لها البائع الشاب أصناف الماء بالعبرية كي تحدد طلبها، وهي تلتفت مستنجدة إلى راسم الذي يبادر بالتفاهم معه بمزيج من كلام عربي وعبري، وشراء عبوتين وعلكة. وتسأله أين يسكن؟ فيجيبها في وادي الصليب. ويشرح لها أن احياء عربية قليلة بقيت. وتمت السيطرة على بعض الأماكن مثل المدارس ومبنى البلدية القديم ومساجد. وتسأله الجلمة بعيدة؟ لا، ليست بعيدة. لكن الاقتراب منها ممنوع. منطقة جيش. طيب لن أذهب إليها. وبما أن الوقت يمضي بسرعة هل تعمل معي معروفا؟ أأمري. نقوم بجولة في سيارتك الحلوة مثل جولة إميل حبيبي حين ودّع حيفا الوداع الأخير. ويجيبها: عمرك أطول من عمري.. كنت أفكر بهذا ولكن بدون أفكار سوداوية لو سمحتِ. في السيارة قال لها: لماذا تذكرين جولته الأخيرة. هذا لقاء أول لك بحيفا، وليس وداعا يا ميسون. أنت عاطفية. عاطفية زيادة. وقد سمعتْ عبارته الأخيرة وأجهشت بالبكاء مثل طفلة... ثم خَفَت صوتها وارتخى جسمها

(6)
 لم تعرف ميسون بوضوح ما حدث، عرفت فقط في الليل أنها نزيلة المستشفى، وتهيأ لها أن حادثاً ما قد وقع لسيارة راسم، ثم انتابها شك قوي بأنها قد تكون قيد التوقيف. ما يدريني.. لهم أساليبهم. وظلت تتساءل مع نفسها: أين حيفا.. هل هي هذه؟
في السابعة صباحا تقدم منها راسم متبسما، تسبقه باقة ورد بألوان بهيجة، أخذت الباقة بيد قوية وجذبته نحوها وقبّلته واستنشقت رائحته، وشرح لها وهي تجلس على حافة سريرها أنها غابت عن الوعي وهي برفقته مساء أمس في السيارة، وقد خشي كثيرا عليها، وقاد سيارته بسرعة عالية، إلى أقرب مركز صحي ثم من هناك إلى مستشفى حيث تم وضعها تحت المعاينة. وإنها الآن بصحة جيدة. ويمكنها السفر مع قليل من الأدوية المنشطة..
اعتذرت له عما تسببت به له من إزعاج. وهمست له بعد أن طلبت منه الاقتراب: في بالي شيء يجب أن أقوله. جميعنا في ورطة. أهلنا في الـ48 إذا أرادوا زيارتنا فلا بد لتسهيل قدومهم، من توقيع سلام عربي مع المحتلين. وإذا رغبنا نحن بزيارتهم فلا بد أن نصبح مُطبّعين ونحصل على فيزا من سفارتهم هذا إن منحونا فيزا... لكني لن أقع في الورطة. أقع فقط في حب البلاد كل البلاد. وفي حب من أحب.
شعر راسم بسخونة في أذنه من أنفاسها، وبحرارة أخرى في رأسه بعد أن نجحت ميسون في تسخين وعيه، ثم في تسخين عاطفته نحوها فطوّقها بذراعها وخطف قبلة دافئة منها، وقال مغالباً انفعاله: كان يمكنك التكلم بصورة عادية. الكلام مسموح وليس عليه جمرك هنا.
ــ إذاً فقد فعلتها أنا؟.
ـ فعلتِ ماذا؟
ـ كنت راسمة في دماغي، أن أبيت في حيفا من دون أن أعرف كيف. كنت أرغب صراحة في أن أكسر تعليماتهم. وكما ترى فقد تسهّلت الشغلة بتسهيل رّباني.

*المقصود فلسطين الداخل التاريخية، التي نشأت عليها الدولة الإسرائيلية عام 1948.

كتبت ميسون تباعاً على صفحتها "حيفا الفلسطينية مدينة عالمية. فيها بقايا لألمان وبهائيين وأحمديين وعرب ويهود وسياح من العالم كله.
وبالنسبة لهم فأنا مجرد زائرة أو سائحة في وطن أجدادها" (Getty)