هل ألفْت عيش الأنابيب؟ هل تطلب فيها دينَ الله؟ أم تقتفي أثرَ عظيمٍ؟ أم تطمع في شهوة ولذّة؟ تفرّ من التعدّد، وتهرب من الاختلاف، وتزاحم نفسَك في ألفة الوحدة وضيقها، وأُنس المماثلة وكرْبها، وسكينة الموالاة وفقرها.. ولو خرجت من وثوقك، لعلمت أنّ اعتقادك تمثّلٌ لا حقيقة، وحقيقتك تأويل لا واقع. ولو فكّرتَ في تجربتك، لرأيتَ أنّه ليس في الأنبوب ربٌّ معبود ولا عظيمٌ مقصود ولا لذّةٌ ساحرة، وليس فيه سواك، مكرَّراً وجهُك في الأمثال، مردَّداً صوتُك في النظائر، متمثِّلةً صورتك في الظلال. فأنت وصُوَرك في أنبوب الأيديولوجيا أشباحٌ بلا أرواح، ونظائرُ بلا وجوه، ووهْم يصطدم بوهم، ومحروم يرتطم في محروم.
فاحتجبْ يوما عن آلهة الموالاة وسدَنة الطاعة ودراويش الثقة. واجمعْ ما بقي من صوتك، وادعُ ما خفق من نفسك، شوّقْ روحَك إلى الحرّية، حبّبْ إليها الخروج من ضيق المماثلة وظُلمة المشاكلة وعبوديّة المتابعة. لا تصادر الحقيقة، فعقلك أصغر من أن يحيط بها، وقبْضتُك أضعف من أن تحبسها. اقرعْ باب الشكّ تسمعْ دندنة عقلك، حدّثْه عن دروبٍ لم تسلكها، وآفاقٍ لم تَرَها، وحياةٍ ممكنة لا تعرفها. اربط جأشك، وانتزع وجهك من ظلّك، وفارقْ أشباهك، واطلبْ أضدادك ومخالفيك، فبعضُ حقائق نفسك لا يجلّيها إلّا ضدُّك، وبعضُ طرق وجودك لا يفتحها إلّا مخالفك. ذكّرْ قلبَك حياتَهُ قبل جمود الأنابيب، أيقظْه بأغنية السنّ الجديدة ودعاءِ الهلال الوليد، أحْيِه بأنشودة المطر.. انظرْ إلى الماء مطرا منسكبا وسيلا متدّفقا وجدولا مترقرقا وقطراتٍ راقصةً وبحرا هائجا وشاطئا وادِعا وبرَدا ناصعا وبخارا سابحا وثلجا حالما وندًى رطْبا وفراتا عذبا، فإذا أُدخِل في الأنبوب مُحيت صوَره، ومُسحت وجوهُه، وخُنقت ألحانه، وقُطّعت أعضاؤه، وسُدّت جهاته. فإذا شقّ الأنبوبَ، انبجس واندفع بقوّة التحرّر، وانفسح في الجهات، وتنفّس الصعداء، واستقبل الضياء...
"ترجو انفساحا، وكم للماء من جهة إذا تخلّص من ضيق الأنابيب"