Print
مها حسن

فيروس العزلة

27 مارس 2020
يوميات
لم يعد في إمكان أحدنا، اليوم، التفكير في أي موضوع آخر، خارج هاجس هذا الوباء، فيروس الكورونا، الذي سيطر على أفكارنا جميعاً، نحن النوع البشري المندهش والمصدوم والخائف، من وباء غامض يفترس حيوات البشر بشكل يومي، وترتفع أعداد ضحاياه، من دون القدرة على التصدي له، أو إيجاد علاج له، حتى اللحظة.
تغيرت حياتنا فجأة، أو على الأقل، تغيرت حياة نصف سكان العالم، إذا لم يكن ثمة مبالغة في التصورات، حيث لا يُعرف بعد، الرقم الحقيقي للمصابين بهذا الفيروس، أو عدد الإصابات خلال الفترات المقبلة، لكن التغيير طال أغلبنا، خاصة نحن المقيمين في أوروبا.
في فرنسا، البلد الذي أعيش فيه، فرضت الحكومة حجراً صحياً على الجميع، وحصرت مغادرة البيوت لأسباب محددة، يتطلب توفر إحداها اصطحاب وثيقة موقّعة من الشخص الراغب بالخروج من بيته، في حال تم توقيفه من قبل البوليس. وفي حال غياب تلك الوثيقة، هناك غرامة مالية مفروضة على الشخص المخالف للتعليمات.
التعليمات واضحة وصارمة، يتحدث رئيس الحكومة، إدوارد فيليب، بملامح وجه قاسية، وهو يرد على بعض الاستفسارات، لأن القرار في بدايته كان غامضاً، وغير متوقع، ليجيب على سؤال أحد المواطنين: مات قريب لنا، وينبغي أن نذهب إلى دفنه، يرد رئيس الحكومة، أنه من غير المسموح القيام بأي تجمّع، مهما كانت الأسباب، حتى لدفن قريب مات في هذه الأثناء.
ابقوا في بيوتكم، انتشرت هذه العبارة بجميع اللغات في وسائل التواصل الاجتماعية، وتحولت إلى "هاشتاغ"، بل وظهر عدد من الأطباء ومن المشتغلين في الحقل الطبي، على البث المباشر في (فيسبوك)، وغيرها من وسائل التواصل، لتوضيح حجم الخطر المترتب على مغادرة أحدنا منزله.
اقرأوا، قال الرئيس ماكرون في كلمته الموجهة للمواطنين، وهو يعلن عن قرار الحجر الصحي، مقدماً إحدى النصائح التي تساعد الناس على الاعتصام في البيوت، كما سهّلت الحكومة كثيراً من القضايا العالقة، على الصعيد الاقتصادي خاصة، لتمنح المواطنين بعض الاسترخاء، وتخفّف من قلق العيش ومتطلبات الحياة، بغية التركيز على هدف واحد: ابقوا في البيوت!
نبعت كثير من الطرائف والنكات المتعلقة بموضوع التزام البيوت، ليتحدث الناس عن خطر تدهور العلاقات الزوجية خصوصاً، والعلاقات الأسروية عموماً، في ظل البقاء طيلة الوقت، ولأجل غير معلوم، في المكان ذاته: البيت.
انتشر التذمر بشدة من قبل الجميع. لم يمتدح أحد فكرة البقاء في البيت. كأن البيت، هذا المكان الذي نعمل طيلة حياتنا لنؤسس للراحة فيه، النوم والاسترخاء والقراءة ومشاهدة التلفزيون،
والتخفّف من أعباء الحياة الكثيرة في الخارج، انقلب مفهومه، ليتحول إلى سجن نُرغم على المكوث فيه.
لم يمض كثير من الوقت على تطبيق الحجر الصحي في فرنسا، ولا تزال، حتى تاريخ كتابة هذه المادة، كثير من الدول الأوروبية والعربية تتيح لمواطنيها الخروج، ولكن تحذّر فقط من الاختلاط، وتطالب بتطبيق التعليمات الطبية، وإرشادات النظافة، وحفظ المسافة بين الناس، من دون أن تُرغم مواطنيها على البقاء في البيوت، كما الحال في فرنسا وإيطاليا، الأمر الذي يُتوقع فيه ازدياد عدد الإصابات، بسبب مغادرة البيوت، والإصرار على التجمعات. ويُتوقع، في الوقت ذاته، ذهاب تلك الحكومات إلى تطبيق قانون الحجر الصحي. وفي هذه الحالة، فإن فكرة البقاء في البيت ستصبح قانوناً مُلزماً لكثير من الناس، ستقلب حياتهم اليومية، وعاداتهم.
وهنا يأتي السؤال الأهم: إلى أي حدٍ ستتغير حياة الناس أثناء الحجر، وأية عادات جديدة ستدخل حياتهم، والسؤال الأصعب ربما: كيف سيخرج أغلبنا من هذه العزلة، بعد زوال خطر الفيروس القاتل؟
ها قد أصبحت لدى أغلبنا عادات جديدة، تتعلق بشكل رئيسي بطريقة قضاء الوقت، والعمل ضمن ظروف العزلة، وكذلك بطريقة التعامل مع كل ما هو قادم من خارج البيت.
ما هو قادم من خارج البيت هو كل ما نجلبه معنا من احتمالات نقل الفيروس في مشترياتنا، وملابسنا.. تحوّل الأمر إلى هوس جديد لدى أغلبنا، ليتضاعف تدقيقنا على ما لمسناه، وغسل كل ما وقعت يدنا عليه قبل الغسل. مثلاً، عدت من التسوق، لأخرج بطاقتي المصرفية من جيب بنطالي، وأمسحها بمنديل معقم، ثم فكرت بأنني يجب أن أغسل بنطالي، لأنني وضعت البطاقة في جيبه، وقد وضعتها من قبل في الجهاز الذي لمسه قبلي العشرات، وضغطت على أزرار "الكود" المصرفي، بأصابعي التي ربما حملت بعض الفيروسات من الجهاز، إلى البطاقة، إلى جيبي.. ثم رحت أراجع كل ما لمسته قبل غسل بنطالي، غسلت علبة الملح، وكيس المكسرات.. لم أتخيل يوماً أنني سأغسل كيس المكسرات بالماء والصابون، أو حتى علبة الجبنة المغلّفة بالبلاستيك، أو المعلبات.. هل أغسل البيض قبل استعماله؟ كلا، يكفي أن أغسل يدي بعد كسر البيضة، لأنني لمست غلافها الذي ربما كان ملوثاً، لا، لا يمكن أن تكون البيضة ملوثة، لأنها محفوظة في عبوة كرتونية مغلقة... هكذا أمتلئ بمئات التفاصيل التي تحتل
تفكيري، حول محاربة خصمي الذي قد يتسرب إلى جسدي من أي غرض لم أنتبه له.
هذه العادات الجديدة سوف تخلق مكانها في حياتنا القادمة، إن عبرنا هذا النفق، وغالباً سوف تجد البشرية حلاً، ولكن مقابل مئات الأرواح التي سيحصدها هذا الفيروس.
هذه العادات، العزلة، عدم المصافحة، عدم تبادل الزيارات، البقاء مطولاً في البيت، اكتشاف مهارات جديدة بسبب وفرة الوقت، وكل ما يتفرع عن تطبيق قرارات الحجر الصحي، سوف تصنع تفاصيل حياتنا القادمة. ماذا لو اكتشفنا أننا كنا نضيع الكثير من الوقت في أشياء لا أهمية لها، وربما نكتشف أننا كنا غافلين عن أشياء وعلاقات، لم نكن نمنحها حقها في غمرة انشغالاتنا من قبل. أي أن أولوياتنا أيضاً سوف تتغير.. ولكن هل سننجو من الفيروس الجديد، الفيروس النفسي الذي سيعيش بداخلنا، ويرنّ تلقائياً، كجرس إنذار سيعتاد العمل، حتى بغياب الفيروس، الذي لا يمكن لأحد حتى اللحظة، التكهن بإمكانية غيابه النهائي، أو عودته.
أتذكر بقوة هذه الأيام، كلام جارتي عن ابنها الذي أصيب بمرض السل. كان الصبي مقرباً إليّ، رأيته وهو ينحل وتنسحب منه عافيته ولونه، نقلته عائلته الفقيرة إلى مشفى حلب الجامعي، ليُعزل لمدة قرابة الستة أشهر في المشفى، من دون أن يزوره أحد، إلا أمه من وقت لآخر.. كانت تحكي بألم، ناقلة كلام الممرضات: يجلس قبالة النافذة، يرقب الطريق، ويسأل كلما دخلت ممرضة عليه السؤال ذاته: هل رأيت امرأة مرتدية معطفاً كرزي اللون؟
كانت جارتنا صاحبة ذلك المعطف، وكان ابنها ينتظرها في كل يوم، على أنها الأمل الوحيد القادم من العالم المُعافى..
تعافى ابن جارتي من مرض السل، لكنه لم يتعاف نفسياً، تحول إلى شخص انطوائي بشدة، يفضّل البقاء في غرفته، ولا يختلط بإخوته، بل صار مهووساً بموضوع النظافة. كان يرفض مصافحة أحد، وإن حصل واضطر محرجاً ليفعل، كان يهرع لغسل يديه، كأن أيدي الآخرين تحمل السل الخفيّ.. كان يخاف من كل شيء، يعيده إلى المشفى، والعزلة، والنبذ العائلي..
لم ينجُ صديق طفولتي من آثار العزل الصحي، بعد أربعين عاماً على مرور هذه الحادثة، لا يزال يغسل يديه عشرات المرات كلما لمس شيئاً: رسالة مسجلة أحضرها موظف البريد ـ كيساً ناوله له أحدهم ـ بقايا العملة الورقية أو المعدنية التي يردها له الباعة.
نحن الآن، أغلبنا، نتحول إلى هذا الصبي القابع في العزلة، نحارب فيروساً مجهول الطباع والأوصاف.. تكثر الشائعات حولنا، وتتضارب المعلومات... سننجو على الأغلب، صحياً على الأقل، لكننا لن نكون نحن أنفسنا، بعد الفيروس، كما كنا من قبل.

 

(فرنسا).