Print
أسعد الجبوري

عندما تَسَلَّلَ الفيروسُ للمُعجَم

18 مايو 2020
يوميات

1

إذا كانت كائناتُ الأرضِ مُشوَشَةً، وتعيشُ على الأمل الاصطناعي فقط، فإن الكلماتَ مخلوقاتٌ لا يمكن للمعجم التفريط بأي حرف من اللغة المندمجة بكل ما هو حيّ على الأرض وفي الفضاءات.

 

2

ما أن نهضتُ من فراشي في تلك الليلة المذعورة مثلي تمامًا، حتى شعرتُ بأن مجموعة الكوابيس التي نالت مني في الساعات الأولى من النوم، هي من دفع بي إلى البحث عن نفسي بين أسطر الوجود الضيق المختنق، حيث كانت الكلماتُ تتبخرُ مذعورةً من هوّل ما كان يجري لها على أسرّة المستشفى الغارق بروائح الأحرف الميتة والديتول والسعال والدموع الشبيهة بالجمرات. 

كلماتٌ على حبالٍ عاليةٍ. تتبخرُ بسكون جامد. ومنها ما يقفُ مَصعُوقًا على أسطر مرسومةٍ في الجو!!

(هامش)

كانت الكلمةُ مسرحًا في البدء.

وكان الجسدُ أولى الجبال المتنقلة في الطبيعة.

كيف؟

الكلمة تلبسُ جسمَ الجبل، وتتقدمُ مشيًا في غابات القواميس والمعاجم. والجبلُ يمتلئ بالأحرف، ويصوغ منها مجوهراته التي لا تتبدّدُ بفعل الشيخوخة أو العقم أو الأوبئة.

3

فكرتُ مليًّا بما يحدث في الغرفة، حيث كانت اللغةُ تجلسُ أمام المرآة مرتعدةَ الفرائص.

ظننتُ إنها تريدُ التزين بوضع الماكياج والتبرج في حضرة الشاعر. إلا أن ظنوني سرعان ما شُطبت بضربة برقٍ مرفقٍ بريح. حينما رأيتُ بعض الكلمات منهمكةً بارتداء القفازات وبعضها الآخر وهي تضع الأقنعة المُكمِمة للوجه.

فيما الشاعرُ يرتجفُ من الحرارة كالزلزال، جسدهُ بلا أغطية. كان يراقبُ ما يجري في المرآة. وجهٌ عارٍ كصحراء تتناسخُ باللهيب. وعينان ذابلتان من الشجن وقلة النوم. ولسانٌ كسكةٍ مهجورةٍ لقطارٍ مُقطع الأوصال بلا محرك.

(منصة)

هكذا كان الموقف بالضبط. شاعرٌ يحاولُ أن ينتزعَ نفسه من الارتباك، ليعيش فيلمًا عن أعاصير حمى تفتك بممتلكاته الشخصية من تلك الكلمات، دون أن يُحرك ساكنًا، فيستطيع إنقاذ أي حرف من حروف اللغة المندمجة بدمه وبلحمه وبخياله الشاسع المشحون بالتصاوير الانقلابية، تلك التي تتعرض أمامهُ للإبادة بعد تسرب الفيروس الكوروني إلى مجرى المعجم.

(مستشفى)

لا تلجأ الذئابُ إلى الأجساد، إلا حينما تقع أنيابُ بطونها في مَسْغَبة. كذلك الفيروسات، حينما تهاجمُ الكلماتَ، وتجعلُ من أحرفها قطعًا مشلولة الحركة، لا تملك قدرة الالتحام ببعضها، منعًا لنشوء جُمل التعبير!

كانت عيناي تتابعُ هجومَ الفيروس على الكلمات. وسألت:

هل ثمة ما يَجذبُ الكورونا إلى اللغة؟

فإذا كان في الجسد البشري لحمٌ ودمٌ، وتستفيدُ منه الفيروسات طعامًا قد يسدّ رمق توحشها المتخم بالأمراض، فبماذا يمكن تعليل هجومها على الأحرف؟

فأجبتُ بشيء من الظن: ربما تستعملها كقطع غيار لإثارة الرعب، وجعل الكلمات من مصادر الإرهاب الوبائي. 

(مشهد)

هكذا تم التحايل على بعض حواسّ المعجم من قبل فوارس الفيروس المقنع، بعد أن وجد الطريق سالكةً عبر مجرى بعض من الكلمات الرقيقة ممن لا تعرف الخبث ولم تتعلم درسًا عن الاحتيال أو الاجتياح أو التآمر السريّ، فكان الهجوم لضرب أمن الكلمات بغمضة عين.

من يضمنُ صحةَ الكلمات، بعد انهيار الجدار الأول للطمأنينة؟

بعد أن صار الأمل بالتعافي ضربًا من الخيال؟

هل تتمكن اللغةُ من إخراج الكلمات من عنق زجاجة الكورونا؟

كنت أدركُ حجم الخوف من ملامسة أية كلمةٍ من الكلمات المشتتةِ المتألمةِ الغائبة عن الوعي، وهي تنطرحُ على أسرة المستشفى أو تلك الحروف المرمية أرضًا على البلاط البارد. ما اشبه الأحرف تلك بعصافيرَ دخلتْ زوبعةً من دخان كبريتي.

كانت اللغة في ممر القاووش تبكي.

وكنت أنظر إليها في المرآة وأتحسس مفاعيل الآلام العظمى التي زحفت على خواصها، فجعلت من حواس اللغة أفرانًا لسكان المعجم. يا للهوّل!!

(صورة)

أدركتُ في تلك اللحظات الميتة، أن المعجم كهفٌ فاغر الفاه، تساقطت منه الكلماتُ المريضةُ أرضًا على بلاط المستشفى. بينما الطواقم الطبية كانت مشغولةً بتفريغ أجنحة المصابين والمرضى من رياح الموت.

ممرضاتٌ تهرعُ لضخ الأوكسجين بأفواه الكلمات. وأطباء يتطايرون من ردهة لأخرى وهم يحاولون قمع وتيرة الهلاك العالي بواسط زرق الإبر وضخ أنواع من الترياق في جسوم الأحرف الرقيقة.. ومياومون يحملون أجهزة التعقيم المباشر، حيث يتم رش المبيدات في أركان الغرف والصالات وملاجئ الحياة تارةً. وتارةً أخرى بتلقيم عزرائيل بعض الأقراص المهدئة، لمنعه من رفع غلاف المعجم، للحيلولة دون تسلل فيروساته إلى غرف اللغة الأخرى.

4

لم أتمكن من ضبط ساعتي البيولوجية للتخلص من القلق ولا من القلاقل. المعجمُ الذي كان على الطاولة قبل قليل، لا أعرف إلى أين ذهب بالضبط!!

حاولت البحث عنه في محرك البحث غوغل، فعرفت أن سيارة إسعافٍ دخلت الغرفة، وحملته معها، وأدركتُ أن السبب في ذلك كان الجنون. أجل. قيل إن المعجمَ قد أصيبَ بمسّ أفقدهُ عقلهُ. كما قرأت عن ذلك في التقرير الموقع من قبل الدكتور سيغموند فرويد الذي كان حاضرًا في عيادته الخاصة بالأمراض العصبية.

            ·       ماذا تخبرنا عن أحوال المعجمِ دكتور فرويد؟

            ·       لقد أصيب بعدد من الصدمات العنيفة، مما أدى به إلى التنازل عن عقله دون ضغط. كانت تلك إرادة المعجم بالضبط..

            ·       وهل كانت الصدمات عنيفةً؟

            ·       أجل. وقاسية تعادل 6 درجات على مقياس ريختر.

            ·       وما سبب ذلك بالضبط يا سيد فرويد؟

            ·       حدث له ذلك، عندما رأى المعجمُ أطنانًا من الكلماتِ غارقةً بدموعها وهي تئنُ في الأكواريوم الجاف لمختبرات الفحص والتحليل.

(سيناريو)

ما أن انتهى حواري مع الطبيب فرويد، حتى رأيت المعجم ينهض من على كرسي الفحص، ويهرب من العيادة مقتفيًا أثري وهو يصرخ:

لا تكن قاسيًا وتتركني في عيادة فرويد أيها الشاعرُ. لا أريدُ انتظارَ قوافل التوابيت التي تبرعت بها الغاباتُ للموت.

التفتُ صوب الصوت، فرأيتُ المعجم. حاولتُ مدّ يدي إليه وانتشاله من هناك، إلا أن صوته الثقيل أفشل تلك المحاولة. رفع لي أصابعهُ منهارًا وأطلقت بوجهي حشرجة وهو يقول بصوت مختنق:
 أما من خيّاط يعيدُ خياطة غلافي، فأحمي ما تحته من ذهب اللغة، وأحافظُ على سلالات المنجم الذي يتعرضُ للإبادة ونوائب الأمراض؟

قلتُ له: لا تخف. فالأجسادُ أقفاصٌ، منها ما هو من حديد، ومنها ما هو مخلوق من نايلون. وما أنت مثل الأول، ولا أنتَ كالثاني. فالمعجمُ مرآةُ النفس اللغوية، وفيها الحياةُ إلى أجل غير مُسمى.

(خط ساخن)

حرف (الباء) المشكوك بإصابته بالفيروس الكورونوي، رأيتهُ محمولًا على ظهر عربة خشبية يجرها حصانٌ جامحٌ، لم يتوان عن شق طريقه في شارع الحواس. إذ سرعان ما طاردهُ حرف (الحاء) بقميصه المشقوق. وما أن لحق بالعربة وأمسكها من الخلف، حتى التقط من على ظهرها حرف الـ (باء) سريعًا.

وما أن بدأ الحرفان بالاندماج وأصبحا كلمة واحدة (حب) دون تفرقة أو مرض أو عدوى، حتى هربا من المستشفى متعانقين ككتلة من أصوات التينور الرجولية المندمجة بملايين من أصوات السوبرانو النسوية.

كان مشهدًا خياليًّا مذهلًا. أن تظهرَ للعَيان كلمة (حب) جمرةً موسيقيةً، وهي تأخذُ الفيروسَ الكورونوي بنيرانها، مغادرةً أسرةَ المرضى ومستودعات التوابيت، كأعظم نغم أوبرالي مضادّ للعدم.