Print
وداد نبي

رائحة أزهار الفيلدر بعد الوباء

19 مايو 2020
يوميات

أعيشُ في شارلوتنبورغ. حي فخم من أحياء برلين. لكنني فعليًا أعيش داخل فقاعة خاصة، داخل ذاكرة الحي. بين قصصه وآثار أبنيته القديمة التي لم تستطع الحداثة محوها بعد. إنها حياة افتراضية متخيلة، لكنها كانت ذات يوم حية وتتنفس. فكرت كثيرًا في ما يمكنني كتابتهُ حينما وصلتني دعوة من مؤسسة هاينريش بول. ماذا يمكن أن أكتب عن مكاني المفضل في هذا الحي البرليني الأنيق، أنا التي عشت طفولتي في أحياء حلب الشعبية، حيث رائحة العرق البشري مختلطة بالبول والقمامة والخبز الطازج من الأفران في كل شارع وحي. هنا في شارلوتنبورغ، الحي البرجوازي الجميل، الزاوية الجمالية التي يمكن أن أنظر بها إلى المكان مختلفة.
هذا الصباح، برلين في ما يشبه الحجر الصحي. الشوارع والمحطات شبه فارغة. متسولو برلين الذين كانوا يذكروني بفقراء الأحياء الشعبية في حلب، بالكاد أتعثر بهم بعد الكورونا. إنه زمن الوباء، حيث كل شيء مختلف. حتى نظرتي إلى المكان والشارع وتاريخ المكان وذاكرته اختلفت.
لم أعد أشم روائح العرق والبيرة واللحم المقدد المقلي في شوارع برلين، برلين مدينة مختلفة هذا الصباح بسبب وصول الوباء إليها.
قبل الوباء، اعتدت لقاء الأصدقاء في كرويزبرج، أو برونزلاوربيرج. فشارلوتنبورغ، الحي الذي ما إن يسمعني أحدهم أقول أنني مقيمة فيه، حتى يفتح فمه ويقول: واو.. الحي البرجوازي الغني.
لكن الحقيقة أنني خلال إقامتي فيه منذ عامين لم ألاحظ ولو لمرة إنني وشريكي نسكن حيًا غنيًا. فنحن نقيم في حي كلاوزنر بلاتس، الحي الجميل المليء بالمحلات الصغيرة والمعارض الفنية وروضات الأطفال ومحلات الآيس كريم والمطاعم. كما إنه مليء بالفنانين، الكتاب والرسامين والموسيقيين، وفي إمكاننا القول إن معظمهم فنانين مفلسين. ولكنهم يعيشون في بيوتهم الفخمة بفضل إيجاراتها القديمة والرخيصة.
وبسبب التغييرات التي طرأت على حياتنا، بعد قدوم الوباء، لم يتبقَّ لي ولشريكي من مكان نتنزه فيها ونمشي فيه سوى حينا البرجوازي المفلس.
من خلال سيرنا اليومي في شوارع حي كلاوزنر بلاتس، بدأت ألتقط بعض التفاصيل التي لم أكن سابقًا أعيرها انتباهًا، فسكان الحي أصبحوا أكثر حميمية في التعامل مع بعضهم. إنهم يجلسون أمام عتبات الأدراج الأمامية لبيوتهم مع أطفالهم النزقين، ويتبادلون الأحاديث مع الجيران الذين يمرون أمامهم، يعتنون بالمساحات الخضراء بين المباني، يسقون أزهار النرجس والتوليب والأقحوان، فتبدو تلك المساحات قطعًا صغيرة من الجنة.
الجيران يخرجون مع أطفالهم للتنزه، وشراء الآيس كريم، يتبادلون النكات والضحك عن بعد

وهم واقفون في طابور طويل. إنهم يحافظون على المسافة الاجتماعية، لكن شيئًا ما في تعاملهم مختلف اليوم، كما لو أنهم يبحثون في تلك الأحاديث القصيرة في الشارع عن عزاء ما عن ملامسة يفتقدونها بسبب الوباء. في الحقيقة، ورغم المسافة، إلا إنهم بدوا لي أكثر دفئًا إنسانيًا عن ذي قبل. كأن الكورونا قد أزال عن عيونهم شيئًا لم يكونوا يدركونه. كأن المسافة المفروضة عليهم منحتهم قدرة على لمس ما كانوا يفتقدونه في حياتهم وعلاقاتهم بشكل أكثر وضوحًا.
منذ أسابيع، في تقاطع الشارع الذي أقيم فيه، شاهدت طفلًا يرسل طردًا لطفل آخر مقيم في البناء المقابل له عن طريق ربط خيط بين الشرفتين، بحيث مرّر الخيط بهدوء وتروٍّ حتى وصل الطرد إلى صديقه. كان الآباء واقفين لمساعدتهم، أمام أنظار عدد من سكان الحي وقفوا ليتابعوا نجاح عملية التبادل البريدية المبتكرة بين الطفلين. صفَّقنا حين نجح وصول الطرد. لقد تمت المهمة الصعبة في زمن الوباء من دون أدنى ملامسة، وبمسافة تتجاوز عشرات الأمتار. الحب ساعد في وصول الطرد بينهما. بينما الصداقة كانت تنمو في ذلك الفراغ بين البنايتين، رغمًا عن أنف الكورونا.
أكملنا نزهتنا، أو مشينا اليومي، إلى الهوف الداخلي "مساحة خضراء بين البنايات"، الذي يسمى بهوف العنزات، حيث تسكن فيه 6 عنزات، وعدة دجاجات. نعم، إنه يشبه مزرعة عائلية بين بنايات حينا الفخم المفلس. إنها عنزات برجوازية مفلسة، لكنها تمنح البهجة لجميع زوار الهوف، وتحديدًا أطفاله.
هذا الهوف الجميل لا يزال موجودًا بعنزاته ودجاجاته بفضل مبادرات سكان الحي الذين لم يتخلوا عنه في الثمانينات، حين كان مهددًا بالهدم.
في إمكاننا القول إنها آخر مظاهر التضامن الاجتماعي في العالم الجديد، حيث يقوم الناس طواعية بالاهتمام بالهوف، وزراعة النباتات والأزهار، والإعتناء بالعنزات والدجاجات. ما بدا لي غريبًا خلال مشيي اليومي في الحي أن نظرتي إلى المكان اختلفت بعد الوباء، كأن الوقت الآن أصبح مكثفًا مثل شمس نيسان الساطعة بقوة الآن في سماء حيِّنا. حيث في إمكانك أن تراقب لفترة طويلة لمعان الفضة على أوراق شجر الحور وهي تنمو بهدوء في عزلة الوباء. وفي إمكانك أيضًا ملاحظة أن كل المساحات الخضراء المخصصة لزراعة الورود بين المباني قد أصبحت أكثر جمالًا. يبدو أن الناس نتيجة جلوسهم في البيت وجدوا وقتًا أكبر للعناية بالمساحات التي أمام بيوتهم.
أثناء المشي اليومي لي منذ أسبوعين، وقفت أمام بناء neuferstr 13، البناء الذي كان في

ثمانينيات القرن الماضي بيتًا محتلًا. لا تزال ألوان قوس القزح ظاهرة على واجهة المبنى. تعود هذه الألوان إلى عقد الثمانينيات، حين كان البناء محتلًا مع 15 بيتًا أخر في كلاوزنر بلاتس. شعرت أنني أسمع الأصوات الباهتة للسكان القدامى وهي تحدثني عن زمن الثمانينيات، عن أحلام الرجال والنساء الذين احتلوا هذا المبنى، وغيره من مباني كلاوزنر بلاتس. متمردون على القوانين الجامدة والتوحش الرأسمالي، حالمون باحثون عن حياة حرة وأكثر دفئًا وتضامنًا. في ذلك الزمن، لم يكن الوباء قد أتى بعد. لكنه كان زمن الثورات والاضطرابات والتمرد والحركات الطلابية. كان هنالك تغيير ونبض وحركة في كل شيء. كما يحدث اليوم تمامًا، كل شيء يتغير. شكل العلاقات البشرية والاقتصادية والسياسية. الوباء يعد شكلًا آخر من أشكال التغيير في حياتنا، كما كانت حركة البيوت المحتلة تغيّر تاريخ حيِّنا.
خطر لي ذلك، وأنا أمر أمام الأبنية التي كانت محتلة في الثمانينيات في حيِّنا. إن حركة البيوت المحتلة في تاريخ المدن، مثل برلين، وأمستردام، وغيرها من المدن، يجب أن تبقى حية في الذاكرة الجمعية لسكان هذه المدن، فهي التعبير الأكثر قوة عن أهمية التمرد والتضامن في زمن الخطر والتهديد.
في حيِّـنا أيضًا كثير من أشجار الفيلدر. أزهارها البنفسجية والزهرية والبيضاء تملأ الشوارع برائحة نفاذة رائعة. هذه الشجرة التي عرفت اسمها بالألمانية لأول مرة من صديقتي الكاتبة، أنييت كروشنير. كنا في محطة برينزلاور بيرج العام الماضي حين أخبرتني أنها زهرتها المفضلة. اليوم، بسبب الحجر الصحي وكورونا، لم ألتقِ أنييت منذ فترة طويلة، ولم أزر حي برينزلاور بيرج أيضًا، لكنني حين شاهدت شجرة فليدر في الحي، وفي حديقة قصر شارلوتنبورغ القريبة منا، تذكرت صوت أنييت وهي تتحدث برقة عن زهرة الفيلدر.
أحيانًا، نصنعُ البيوت والأوطان والملاجئ. لكننا نعيش حقًا في ذكريات الأشياء والأشخاص الذين نحبهم ويحبوننا. تمامًا كرائحة أزهار الفيلدر في زمن الوباء.

(نيسان/ أبريل 2020، برلين).