Print
كاهنة عباس

حديث الحيرة

15 يونيو 2020
يوميات
كان جالسا إلى جانبي، وبعد فترة من الصّمت عنّ له أن يسألني: "ما الذي يلهمك السّعادة؟". لم ألتفت إليه وأسرعت بالإجابة: "الصّخر".
قال بنبرة لا تخلو من التّعجّب: "الصّخر؟".
- نعم، لأنّه الحامل لرائحة القدم ولفواصل الصّمت بين القول والقول، أعتقد أنّه مستعد للتفتّت أي أن يتحوّل رملا، لا اشتياقا للفناء، بل من أجل أن يحيا لمحة واحدة من الحياة حتّى وإن كانت مفعمة بالألم.
- ما اللّغة؟
- إشارات نطاردها كي ننسى أنفسنا، تقول لنا ما لم ندركه نحن وما لم تدركه هي ومع ذلك نصدّقها، هي ما يجمع بيننا وما يفرّقنا، ما يؤثّث عالمنا الدّاخلي وما يجعل لقاءنا بالآخرين ممكنا، العدسة الّتي تصوّر لنا العالم عبارات وكلمات وتؤوله باستمرار.
- ما الّذي ترغبين في تحقيقه؟
- ما يملؤني بهجة ويغنيني عن كلّ شيء مثل الزّهور والسّحاب، لذلك فهما يلتقيان حين ينهمر المطر، رغم كلّ المسافات.
- والحّب؟
- هو قليل في الأنفس، كثير خارجها، فلنسمه المحبّة لأنّ العبارة أشمل، السّر الأعظم، القداسة الّتي ما فتئنا ندنّسها، الشّهوة وما يفوقها، الرّغبة وما يتجاوزها، الوهم ووجه من وجوه الحقيقة، ما لا يفقهه العقل.
- وماذا أيضا؟
- المحبّة هي ما ندركه بالفطرة بالبداهة دون حاجة إلى علم أو تعليم، لكنّنا نعجز عن فهمها، هي مصدر الأحاسيس، منها ينبع كلّ ما هو جميل ومضيء فينا.
- ومنها ينبع أيضا ما هو عنف ورغبة في التملّك.
- لا أعتقد أن مثل تلك الأحاسيس تعبّر عن المحبّة.
صمت طويلا ثم تنهّد وقال: ما معنى الخيانة؟
أدرت وجهي عنه دون أن أنظر إليه، قلت: الخيانة هي أكثر طباع الإنسان تأصّلا.
أردف بسرعة مستنكرا: أكثر طباع الإنسان تأصّلا؟ أتجرئين على قولها بكل بساطة وسهولة دون تريّث ولا تفكير؟
- بل بعد طول التّجربة، من هو الكائن الذي لا يتحّمل عبء أوهامه ومسؤوليّة تبنّيها؟ من هو الّذي يقول ما لا يفعل، ويفكّر بما لا يقول؟ من هو الكائن الّذي يعيش كلّ المشاعر المتناقضة يوميّا إلى أن يفقد إدراكه بها؟ من هو الكائن الّذي يتعلّق بالمكان والزّمان وبالذّكرى حتّى لا يتنكّر لذاته؟ من هو الكائن القادر على خيانة كلّ شيء بدءًا بنفسه؟ من هو ذلك الذي دمّر جلّ الحيوانات والنباتات والغابات وكلّ ما يحيط به لكي يستعملها وهو جزء منها؟
قال بنبرة لا تخلو من التّهكّم: وفي الوفاء مذلّة، بل وسذاجة وغباء أحيانا.
- إنّه رأيك.
- بل هي تجربتي، الحقيقة الّتي خبرتها.
- أوتدري يا صاح، ما هو مصدر مأساة الإنسان؟
قال مستهزئا: أعتقد أن لمأساته عدّة مصادر، لا مصدر واحد.
- فلنفترض أنّها مصادر ولنقل من أهمّها: الكبرياء.
- قد يكون.
- الإنسان يرغب في أن تكون له سلطة على من حوله حتّى يحقّق كلّ ما يريد في حياته بل إنّه يحلم أن يتحّول موته إلى سفر لبلوغ الخلود، تلك هي أمنيته مهما كانت معتقداته، سواء آمن بالآخرة وبالعقاب والجزاء أو بالتّاريخ أو باستمراريّة النّسل.
فأجاب ضاحكا: ما رأيت أمرا حرّرني من كلّ قيود مثل النّسيان ويا ليتني أنسى بعد موتي فلا يذكرني لا القريب ولا البعيد.
- أنت تعترف إذًا بالعدم على وجه الإمكان؟
- لم أفهم مقصدك، ما العدم على وجه الإمكان؟ لم يسبق أن فكّرت في مثل هذه المسائل المعقّدة.
- أن نكتشف الزّوال وما يتركه من فراغ تام مع إمكانيّة أن ينبعث منه الوجود.
- لا تسخري منّي.
- طبعا لا.
- التفكير فعل محظور، أن تكون لك فكرة هي فكرتك أنت تعبّر عن ذاتيتك وتجربتك ولو نسبيّا، أن لا ترتبط بحاجياتك الآنيّة ولا بشؤون الحياة الماديّة، فذلك أمر لا جدوى منه ولا منفعة لأنّه يجعلك مغتربا عن الجماعة الّتي تملك الوعي والعلم والمعرفة وجميع مراجعها وتواريخها، لذلك لم أعتد التفكير، إنّه غالبا ما يبدو لي أمرا غريبا عجيبا، أردت أن أقول لك لم أفهم شيئا لأنّني لم أسع لذلك لانعدام الجدوى.
- أعتبر التفكير أمرا ضروريّا حتّى يصبح لنا تصوّر للواقع للتّعامل معه، لكنني أعتبره أيضا أحد سبل البحث والتّساؤل فإذا ما تحوّل إلى يقين أضحى معضلة بل وهما.
- وهل يمكن لفكرة ما أن تصوّر لنا الواقع؟
- نسبيّا، في مكان ما وزمن ما وانطلاقا من زاوية ما.
- وما حاجتنا إلى تصوّر الواقع؟
- أن نحيا ونستمرّ.
- وما هو مصير الإنسان الذي يعجز عن التّفكير أو يرفضه؟
- اتّباع غيره من النّاس، دون إرادة ولا اختيار.
- ولم لا نسلّم بما هو موجود، ما جدوى الصّراع بين الإنسان وواقعه؟
- السّيطرة.
- لكنّها أدّت إلى الخراب وإلى انقراض عدّة حيوانات وزوال الغابات وتلوّث البحار.
- إلى حدّ هذه السّاعة، نحن مجبرون على خلق تلك الفجوة بيننا وبين العالم، أن ندخل في صراع مع الواقع انطلاقا من تصوّراتنا، لا أدري إن كانت الإنسانيّة على وشك اكتساب وعي جديد يجعلها أكثر انسجاما معه أم لا؟
- بمعنى أنّنا لم نخرج من دائرة الأفكار سواء تلك النّابعة من الأقليّة أو التي اتّخذت منهج إتّباع الأغلبيّة.
- من نتائج الاتّباع: التّعصّب أي التّعلّق الشديد بالأفكار الشائعة وعبارة التّعصّب تحيلنا إلى الإعتصاب أي ما يؤلّف الجماعة التي تؤمن بتلك الأفكار لأنّها الرّابط بينهم.
ابتسم وهو يرّد: أنت إذا خارج هذا الرّابط.
أجبت: ما يؤلّف بين الشّعوب لا بين الجماعات أو القبائل هي عناصر أخرى: تاريخها، لغتها، جغرافيتها، تلك التي توحّد بينها وتقيها شر الصراعات، إن اختلفت رجحت العقل والحكمة دون الالتجاء إلى العنف.
- بمعنى أنها تعلي من قيمة التسامح.
- يقلقني معنى التسامح كأن هناك مسألة ذنب ارتكب فاتفق الناس على أن يسامحوا في شأنه، الاختلاف حق، ليس هبة، نحن بطبعنا مختلفون.
- كيف التوفيق بين الأفكار والرغبات والشهوات لدى الإنسان؟
- من قال لك إن الأفكار ليست إلا تعبيرا عن تلك الرغبات؟ ألا تنبع الأفكار من أجسادنا؟
- نعم، أجسادنا يا صديقتي لا تحتاج إلى كل هذا التفكير، فقط إلى لقمة خبز وملجأ وشيء من أمان وربما المودة.
- تثير يا صديقي قضية كبيرة، لماذا لم تفلح كل الأديان والتجارب والقوانين والسنن في الحد من عنف الإنسان ولم تجعل منه كائنا أفضل؟
- ما هو السبب حسب رأيك؟
- لا أدري، ربما الجهل بطبيعته.
- ربما.

*روائية وكاتبة تونسية