Print
عبد الله جنّوف

بطاقة التعريف

2 يونيو 2020
قص

المحطّة أرجلٌ تائهة، وأجسادٌ متحفّزة على كراسيّ الانتظار، ونظراتٌ عابثة لا تهدأ، وشاشةٌ كبيرة عليها مواعيد سفر الخطوط البعيدة.. قرأها أنور كأنّه مسافر.. جدرانُ المحطّة سميكة، وأبوابُها قديمة صلبة، وحديدُ نوافذها عنيف.. لا يحبّ أنور حديد النوافذ.. وصورة الرئيس فوق شبابيك التذاكر.. لم يشتر تذكرة فقد قرّر منذ خروجه من ألمانيا قبل ثلاثة أعوام أن لا يدفع إلّا إذا رأى المفتّش..
تدافع الناس على باب الحافلة، فلم يجد أنور كرسيًّا فارغًا، وقف قرب نافذة مفتوحة.. الحافلة خليط غريب من الألوان والأحذية، تسلّيه فيها عيون الجميلات، ويكدّر مزاجَه ممرُّها الضيّقُ وزرقةُ لباس سائقها.. نزل في محطّة الوصول ومشى على مهل.. الناس لا يلتفتون إليه إلّا قليلًا.. والمدينة كأنّها لا تعرفه.. مشى وحيدًا حتى وصل إلى نهج فرنسا، وقف أمام باب دكّان مغلق ألفه حتّى عُرف به.. فتح كيسه وبسط سلعته، وامتزج صوته بعشرات الأصوات.. بريكيّات.. غلاف نوكيا أصلي.. ليغو..
ليس هذا اليومُ يومَه.. مصادرة مزاجيّة تقنعه بحمل كيسه والانصراف في أيّة لحظة، فلم يشعر يومًا بأنّه خلق لهذه المهنة، ولم يحصِ يومًا كم أنفق وكم ربح، وظلّ يطالع ويشارك ثلاث سنوات في مناظرات الوظائف، فنجح فيها جميعًا، ولكنّه لم يوظّف.. ذهب إلى المقهى.. وجلس يقلّب بطاقة هويّته ويعيد قراءتها ويختبر حفظه لرقمها وتاريخ صدورها، حتّى صورتُه حدّق فيها، والأعلام السبعة والحمَامات السبع عدّها، وبصمة إبهامه تتبّع خطوطها بمفتاح البيت خطًّا خطًّا.. مرّت عليه مدّة طويلة وهو يعصر مخّه ليُصالح بطاقة تلازمه وتكبّله.. كلّ شيء فيها صحيح.. وليس فيها ما يمكن تغييره.. مواطن باسمه وصورته ورقمه.. أعادها إلى جيبه، واستغرق في التفكير ثانية ويده تنقر الطاولةَ بكأس القهوة الفارغ.. هويّتك وتعريفك في شخصيّتك لا في البطاقة.. وقف وحمل كيسه ومرّ بمكتبة فاشترى جريدة القدس ومضى يقرأ عناوينها ويسترق النظر إلى الطريق... وفجأة رأى اللباس الأزرق في مفترق الطرق، فتظاهر بتعديل كيسه وألقاها فيه..
- بطاقة التعريف.
وضع كيسه، واستخرجها من جيبته.. فبادره أحد الشرطيّين عابسًا:
- هذي بطاقتك؟
- نعم.
 بيضاء؟ لا اسم فيها ولا تاريخ ولا طابع؟
لم يجب، فأخذه الشرطيّ من يده وقاده إلى السيّارة.. جلسا متقابلين..
- مثبِّتْ هذي بطاقتك؟
- نعم، بطاقتي.
- إمّالا آش بيها؟
لم يعد يخاف الشرطة، ولكنّه شعر بأنّه يختنق.. أخذ برقبة قميصه كأنّك يوسّعه ليتنفّس.. همّ بقول أيّ شيء فلم يستطع..
- آش اسمك؟
- أنور المسعودي.
- آش تخدم؟
- متخرّج من كلّيّة الآداب، بطّال..
- عندك باسْبُورْ؟ رخصة سياقة؟ أيّ وثيقة هويّة؟
- الباسبور ليس معي.. والرخصة ما عنديش..
- وهذا الكيس آش فيه؟
- قدّاحات ولعب أطفال وأغلفة جوّالّات.. سلعة بسيطة أعيش منها، وجريدة القدس ووثائق خاصّة..
- القدس؟ هات.. افتح..
فتح الكيس.. القدس ابيضّت.. والوثائق كلّها ابيضّت حتى شهاداته الجامعيّة... غضب الشرطيّ فجذب الكيس بعنف وأفرغه.. نبش السلعة والأوراق البِيض فسقطت منها ورقة مطويّة.. اختطفها فإذا هي سليمة.. بحروفها وخاتمها وتاريخها.. نظر فيها مليًّا.. قرأها مرّة بعد مرّة.. كرّر سؤاله عن اسمه وعن رقم بطاقته التي ابيضّت... أخذ اللاسلكيّ على عجل، مكالمة قصيرة، طواها.. اقترب منه وقال:
- سلعة بسيطة يا مْعلّم؟ وأنت محكوم بمحاولة قلب نظام الحكم.. وضربه بالورقة على وجهه.
غضب أنور وصاح: علاشْ تضربني؟ مانيشْ مواطن؟
- أنت عندنا مش مواطن.. هيّا.. امشِ بِيعْ سلعتك.. وبِيعْ حتّى بطاقتك كان تحب..
جمع سلعته.. ارتعشت يداه لمّا وقعتا على شهاداته الجامعيّة.. أوى إلى شجرة في الحديقة العامّة القريبة.. رأى الناس يتحدّثون ويضحكون.. ولا يلتفتون إليه.. همّ بأن ينقضّ على أحدهم.. فتح الورقة العنيدة وقال: لم يعرفني الشرطيّ إلّا بشهادة خروجي من السجن.. من ألمانيا كما كان يسمّيه البِرْتِلِّي.. تذكّر كتبه في البيت.. ترى هل ابيضّت جميعًا؟ وجواز سفري المحتجز في خزائن الداخليّة منذ ستّ سنوات؟ وملفّي فيها؟ الشرطيّ سألني عن رقم بطاقتي وأملاه على مخاطبه باللاسلكيّ.. تبيضّ بطاقتي في جيبي ولا يتغيّر الملفّ عندهم؟ لمعت في ذهنه فكرة الحَرْقة إلى إيطاليا.. اقشعرّ بدنه وهو يتحسّس وجهه.. هل اختفت ملامح وجهي أيضًا؟ انتبه لساعته ورفعها إلى أذنه بسرعة فسمع قلبها ينبض كقلبه..