Print
مريم سليماني زرهون

حكاية عن السحرة في زمن حظر التجوال

29 يونيو 2020
قص
سأقول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، وأول الحقائق هي أنه لا يمكننا الاعتماد على الذاكرة لتذكر الحقيقة. ما أسهل أن تخدعنا الذاكرة وما أسهل أن تملأ تجاويف دماغنا بالأوهام التي نحسبها، إذ نسجلها، أنها محض حقيقة.

بعد الفقرة أعلاه هل يمكن أن تصدقوا أنني بالفعل سأقول الحقيقة كل الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة؟
لكن السؤال الأدق: ما هي الحقيقة؟
الحقيقة هي أننا الآن في العام 2040 وعمري 22 عاما، ويفترض الآن أن أحكي لكم عن أحداث وقع بعضها خلال فترة طفولتي، وبعضها وقع قبل ولادتي سمعت الآخرين يحكونها، وبعضها وقع قبل ولادتي علمت به تلقائيا بشكل حدسي. إنها ذكريات ولدت معي.
مع نهاية القرن العشرين اعتقدت الدولة، بمساعدة أميركا طبعا، أنها تخلصت تماما من جميع أصحاب الطفرات الوراثية. حسنا، عملاء أميركا يصنفوننا كطفرة وراثية أما دولتنا فتعتبرنا ببساطة سحرة. أقول بأنها اعتقدت أنها تخلصت نهائيا من السحرة، وقد نجحت في ذلك بسبب خيانة بعض أفراد جنسنا. لكن في اليوم الذي ولدت فيه، في الدقيقة الأولى، علمت أن عهد السحرة عائد لا محالة. علمت بأنني الأول في هذا الجيل، ولن أكون الأخير. المشكلة أننا، ولتجاوز حالات الخيانة التي عانينا منها من قبل، ولدنا بقدرة إضافية لقدراتنا المألوفة، وهي أننا صرنا مخفيين تماما عن بعضنا البعض. كانت لدينا من قبل القدرة على التخاطر مع بعضنا، الآن اختفت تماما. يمكنني أن أقرأ أفكار أي شخص أريد، أينما كان، لكنني لن أعرف أنه ساحر، لو كان ساحرا، ولن يعرف هو أنني ساحر. حتى اليوم، بعد اثنين وعشرين عاما من مولدي، لم ألتق ساحرا غيري.
تتدفق الأفكار والأحداث على ذاكرتي دفعة واحدة. لا أعرف الآن من أين أبدأ. أتذكر القرار، قراري الحتمي بالجلوس وكتابة ما يجب أن يُكتب، لكن السبب انمحى من ذاكرتي. المياه التي نشرب هي السبب. ما تزال الدولة وبين وقت وآخر تلقي في سدود المياه أدويتها السرية التي تثبط النمو العقلي للمواطنين. أنتم تعرفون هذا بالتأكيد، فبعد ثورة الجوع الرابعة تفتقت عقول رجال الدولة الشيطانيين عن حل كيميائي لنزع أفكار الثورة من عقول المواطنين. لكن ما لا تعرفونه هو أن التأثير الجانبي غير المتوقع لتلك التركيبة الكيميائية علينا نحن السحرة هو فقدان أيام عشوائية من مخزون ذاكرتنا وصداع مزمن مع بعض الهلوسات التي تنطبع في عقولنا بين وقت وآخر.
كما وعدتكم، سأقول الحقيقة، لذلك أخبركم بهذا رغم أنه سيؤثر على مصداقيتي.
ربما الأفضل أن أبدأ من البداية، ولو أن الحقيقة الصرفة تقول بأنه ليست ثمة بداية واحدة. ثمة بدايات كثيرة، وبالتالي لا بداية في القصة. سأختار إذًا حدثا عشوائيا وأنطلق منه.
التاسعة ليلا وقشعريرة برد وخوف.
مرت ساعة على انفتاح أبواب جحيم حظر التجوال وأنا ما زلت عالقا في هذا الزقاق المظلم، محتضنا رزمة أوراق لو وجدتها معي الشرطة العسكرية لتم إعدامي فورا في مكاني.
بعد تسع سنوات من فرض حالة الطوارئ ما عادت الشرطة العسكرية تقوم بدورياتها الليلية إلا في أماكن محدودة ذات أهمية استراتيجية معينة. تركت الكورنيش محررا من حظر التجوال لرواد الحانات والعلب الليلية كمتنفس للشباب يعربدون هناك بين الشرب وحفلات التعري. وتركت الأحياء الشعبية محررة للطبقة الشعبية المنسية هناك لمصيرها وللذئاب البشرية التي تصطاد هنالك؛ سرقة للجيوب وخطفا للفتيات اللاتي ينقلن سرا وعلنا إلى بيوت الدعارة الموزعة على شقق العمارات المطلة على الكورنيش.
فرغت الشوارع تماما وانطفأت مصابيح الإضاءة إلا عددا قليلا منها متناثرا على مسافات متباعدة يطلق إضاءة شاحبة تتحد مع ضياء القمر البدر هذه الليلة ليضفي جوا كابوسيا يشعرني كأني غفوت في بيتي ثم استيقظت فجأة لأجد نفسي في المقبرة الصامتة إلا من عواء الرياح والسماء المصبوغة بالأزرق الغامق.
ما أشبه هذه الأجواء بجو الأحلام والكوابيس لكني أعرف يقينا أني لا أحلم الآن. إنه الواقع المرير كما يليق بالمرارة أن تكون.
كان يفترض أن يسبقني إلى هنا ليأخذ مني هذه المنشورات وكتيب الثورة. لكنه لم يأت. أخشى أن مكروها أصابه، لعله صادف دورية للشرطة العسكرية. أم تراني تعرضت للخيانة؟
ما أعرفه الآن هو أنني لا يجب أن أنتظر هنا أكثر، ولا يجب أن أحتفظ بهذه الأوراق معي. ثمة بالوعة لتصريف مياه الأمطار في وسط الشارع. مكان مناسب للتخلص من هذه الأوراق.
الشارع فارغ تماما. لا إشارة إلى احتمال قدوم دورية مراقبة حظر التجوال من هذا الطريق. ألقيت نظرة خاطفة يمينا ويسارا ثم جريت إلى وسط الشارع الذي يستحيل عبوره خلال ساعات النهار.
لكن كيف سأرفع غطاء هذه البالوعة الثقيل الملتصق تماما بإطاره؟ يا لغبائي. أردت العودة فورا إلى مخبئي لكن ضوءًا باهرا سقط عليّ من الأعلى (اللعنة، نسيت أمر الطوافات الصامتة!) ومعه الصوت الآمر: "توقف مكانك. ارفع يديك عاليا".

(مقطع من رواية غير منشورة)

*ناقدة وروائية مغربية

 مريم سليماني زرهون.. التاسعة ليلا وقشعريرة برد وخوف..