Print
سمير الزبن

أنا كتبي

9 يونيو 2020
سير
صنعتني الكتب أكثر من تجربة الحياة، وكانت عشقي الدائم في كل الظروف. كلما ضاق بيتي على الكتب، بسبب ضيق المكان، كنت أضطر إلى الاستغناء عن بعضها بكثير من الغصة. فكرت كثيرًا في أزماتي المالية، وما أكثرها، أن أبيع مكتبتي (كانت أغلى ما أملك بالمعنيين المعنوي والمادي)، جاء بعض تجار الكتب وعاينوها، لكني لم أجرؤ على بيعها. كنت أنا كتبي، شعرت أني إذا بعتها، أبيع نفسي، لا يمكن لي العيش من دون أن تكون الكتب في كل مكان. تبدو فوضى للآخرين، لكني أنا أعرف موقع كل كتاب منها.
تعرفت على الكتب بطريقة غريبة ومؤذية. في طفولتي، أحببت الألغاز، وتعلقت بـ"تختخ ولوزة والشياطين الخمسة". أثناء دراستي الإعدادية، قاطعت الدول العربية مصر بسبب توقيعها معاهدة كامب ديفيد، فلم تعد الكتب والإصدارات المصرية تصل إلى دمشق، ومنها سلسلة الألغاز. أعدت قراءة بعض الألغاز، لكني شعرت بالملل. في عطلة الصيف، وأنا في الصف الثامن، توفر لي بعض المال من عملي الصيفي، أحببت أن أحصل على شيء جديد، فكرت بشراء كتاب. دخلت مكتبة في وسط دمشق، بحثت بين الكتب، كانت كثيرة جدًا بالنسبة لي، أول مرة في حياتي أرى هذا العدد الكبير من الكتب، بحثت كثيرًا عن لا شيء، لم أكن أعرف عما أبحث. ولم أعرف ماذا أشتري، ولم يكن عندي مرشد في هذه المتاهة التي دخلتها للتو. لم أبحث عن كتب للأطفال، إنما بحثت عن كتاب، كتاب لا يوجد فيه صور توضيحية، كتاب جاف. في النهاية، قرّرت أن أشتري الكتاب الذي تقع يدي عليه وأنا مغمض العينين. وكان من سوء حظي أن وقعت يدي على كتاب لكاتب لبناني اسمه عبد اللطيف الحمزاوي، بعنوان "في سبيل تخطيط تربوي أفضل". وعلى الرغم من عدم أهمية الكتاب، فهو أكثر كتاب أثَّر على
حياتي، ليس لقوة منطقه، بل لوقوعه في يدي في لحظة حرجة. الكتاب ينتقد العملية التعليمية والتربوية في العالم العربي، ويدعو إلى إصلاحها، وأنا الطفل، فهمت أنه يعتبر التعليم (كل التعليم) مجرد قمامة تلقينية. وافق هواي، فاعتبرت التعليم قمامة، فأهملت المدرسة، وبدأت أغيب عنها. في العام التالي، بالصدفة المحضة نجحت في الشهادة الإعدادية. كاد الكتاب أن يطيح بحياتي كلها، ويغير مسارها، فقد قرأته في الوقت الخطأ، والسن الخطأ، لم أفهم في حينها الفرق بين نقد العملية التعليمية، وبين رفضها المطلق، وهذا ما كان سيكلفني دراستي كلها.
في بداية المرحلة الثانوية، بدأت التعرف على السياسة، ومنها على الكتب الماركسية. ومثل كل جيلي، تعرفت على الماركسية من خلال الكتب الكثيرة والرخيصة التي يطبعها الاتحاد السوفييتي للتعريف بالماركسية ـ اللينينية، إضافة بالطبع إلى كتابات ماركس وأنجلز ولينين. كان من المهم أن نعرف الشروط الموضوعية للثورة، والشروط الذاتية، ولأننا شباب لا نؤمن بقدرة أحد، أردنا أن نعيد التجربة اللينينية ببناء الحزب من بدايتها، باعتبارها التجربة الأنجع في صناعة الثورة. فكان علينا أن نشكل خليتنا الماركسية. مجموعة من الأصدقاء في الثانوية تتعرف على الماركسية والسياسة، تريد تغيير العالم الغاضبة منه لألف سبب وسبب. فكانت الماركسية بدعوتها إلى الثورة والتغيير الجذري تناسب جموح هوى فتيان الثانوي ذا الطابع التدميري.
شكلنا أنا وبعض الأصدقاء خلية سرعان ما انفرط عقدها. حاورت آخرين، وآخرون حاوروني، إلا أني لم أجد نفسي داخل أي بنى تنظيمية، فبقيت على الهامش، هامش الفصائل الفلسطينية، وهامش المعارضة السورية. لم أجد نفسي هنا، ولم أجد نفسي هناك، وهذا ما عدَّه البعض انتهازية صرفة، وميوعة في الموقف.
حررتني ميوعة مواقفي من القراءات الحزبية التي تلزم الأحزاب أعضاءها بها، فكانت قراءاتي انتقائية، من دون مرشد، وكثيرًا ما قرأت كتبًا رديئة لا لزوم لها، وكثيرًا ما عثرت على كتب في غاية الروعة، في إطار التجريب. لم أكن أفوت كتابًا، أو منشورًا، من دون قراءته، من الصحف إلى مجلات الفصائل الفلسطينية، إلى نشرات المعارضة السورية وأدبياتها، إلى الدوريات الرزينة، إلى كل الكتب التي أستطيع قراءتها.
بعد الخروج من بيروت، تغير العمل السياسي الفلسطيني في سورية، باعتماد فصائل اليسار
الفلسطيني دمشق مقرها الرئيسي بعد بيروت. وزادت اهتماماتي الفلسطينية بحكم الانغماس في الوضع الفلسطيني. وهذا أثر على خيارات القراءة لديّ. ومع عملي في مجلة "الهدف" في عام 1983، التي انطلقت من جديد في دمشق، وجدت نفسي، داخل اليسار الفلسطيني، بجبهتيه، الشعبية والديمقراطية. فمن مفارقات عملي بمجلة "الهدف" (كنت أعمل مدققًا للبروفات) أن مجلة "الهدف" كانت تطبع مقالات مجلتها في مقر مجلة "الحرية". فكنت أقضي نصف وقتي في مجلة "الهدف"، ونصفه الآخر في مجلة "الحرية". الانغماس في الكتب فتح لي أبوابًا كثيرة ممتعة. وما إن فتحت أبواب الأدب عبر أميل حبيبي بنصه الآسر "المتشائل" حتى فتحت نوافذ كثيرة على هواء مختلف، غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وسحر خليفة، وفدوى طوقان، وتوفيق زياد، وراشد حسين، وسميح القاسم، ومحمود درويش طبعًا. ولم تكن النوافذ الفلسطينية وحدها كافية. فتحت نوافذ على العالم سحرتني، فأثناء خدمتي العسكرية في جبل الشيخ بين عامي 1986 ـ 1988، كنت أقضي كل أيام الأسبوع هناك، وأعود يومًا واحدًا إلى دمشق. هناك، على مدى عامين، وبعد أن عينني رفاق السلاح "مفكرًا!" للسرية التي نخدم فيها، أعفوني من تحضير الطعام، ومن كل الأعمال الأخرى، وفرغوني للقراءة، هذه مهمتي الوحيدة حسب قرارهم. قرأت من الكتب ما لا يحصى. هناك كتب هزتني جدًا، رواية "دكتور جيفاكو" لباسترناك، ورائعة دستويفسكي "الأبله"، ماياكوفسكي في "غيمة في بنطلون"، وأدب أميركا اللاتينية، ماركيز، بورخيس، يوسا.. إلخ. والياباني الساحر كاواباتا في "ضجيج الجبل"، و"جميلات نائمات". وبالطبع، كثير من الكتاب العرب، من شيخ الكتاب نجيب محفوظ، خاصة في "أولاد حارتنا"، و"الحرافيش"، ويوسف إدريس، وصنع الله ابراهيم، وبهاء طاهر، وحنا مينة، وهاني الراهب، وإلياس خوري، والطاهر وطار، ورشيد بوجدرة، وغيرهم كثير لا يمكن سرد أسمائهم.
كانت الكتب الفكرية واحدة من أكثر الكتب تأثيرًا عليّ، خاصة في فترة سقوط الأيديولوجيا الماركسية، هشام شرابي ونقده للمجتمع العربي، وإدوارد سعيد واستخدامه لأدوات الغرب الفكرية في مواجهة الغرب المتعالي، وعبدالله العروي بقوة منطق كتابه "الأيديولوجيا العربية
المعاصرة"، وغيرها من كتبه. كان تأثير الفكر المغاربي في المشرق واضحًا في الثمانينيات، عبر الثلاثي، محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، وثالثهم العروي. تحول الجابري عبر سلسلة كتبه في "نقد العقل العربي" إلى نجم ثقافي، وهي ظاهرة لم تشهدها الثقافة العربية مع مفكرين آخرين، رغم أنها شهدتها مع شعراء. وكان لصادق جلال العظم تأثيره خاصة في كتابه "ذهنية التحريم".
بعد سقوط الأنظمة في الدول الاشتراكية، باتت المراجعة ضرورية، فكان يجب توسيع الاطلاع على مدارس النقد، فقرّرت قراءة ميشل فوكو والنقد الحديث، والوجه الآخر لفوكو في الثقافة الغربية، هابرماس. عندما اشتريت كتب فوكو، وبدأت القراءة، بدت كطلاسم، التنوير الذي ينتج ظلمة، والخطاب الذي يملك سلطة، ولا مركزية العقل مع ديريدا.. إلخ. أي جحيم أدخلت نفسي فيه، وعندما سمعت من صديق روايته عن ناقد كبير أقدره وقراءته لفوكو، وأنه اعترف أنه لم يفهم شيئًا بعد أن قرأ كل كتبه المنشورة باللغة العربية، وكيف طلب منه أن يأخذ كتب فوكو معه، لأنه لا يريد أن يراها ثانية. فهمت من أين يأتي عدم الفهم، إنه يأتي من عدم معرفتي بالتاريخ الثقافي الغربي، والذي يتعامل مع المعطيات كلها بوصفها قابلة للنقد والنقض، فما بعد الحداثة هي نقد ونقض لحداثة مستقرة، لا تخاف من مراجعة نفسها. فكان عليّ أن أعيد القراءة من أجل معرفة التاريخ الثقافي للغرب حتى تتضح الصورة، وجاء كتاب "الخطاب الفلسفي للحداثة" للألماني هابرماس حتى تكف الصورة عن كونها طلاسم، من دون أن تكون في غاية الوضوح.
في المراجعة الأيديولوجية، في نهاية الثمانينيات، ومطلع تسعينيات القرن الماضي، كانت الهزة
العنيفة لي ولكثير من الأصدقاء. كانت الأيديولوجيا داخلنا أقوى مما أتصور، ولأن الأيديولوجيا استبدادية، سواء كانت دينية، أو دنيوية، لم يشعر بعض الأصدقاء بالصدمة من انتقالهم من أيديولوجيا شمولية مثل الماركسية، إلى شمولية قوى إسلامية. حتى أني استمعت في ذلك الحين إلى صديق انتقل من الجبهة الشعبية إلى الجهاد الإسلامي. كان يردّد ذات الخطاب السياسي السابق، مستبدلًا الإرادة الإلهية بالحتمية التاريخية، لكن الهيكل العظمي للخطاب هو ذاته. وهو ما جعلني على قناعة بأن الهيكل العظمي للتطرف واحد، بصرف النظر عن الحمولة الأيديولوجية الدنيوية، أو الدينية. وعرفت أن المحصن ضد التطرف هو من يحمل القيم لا الذي يحمل الأيديولوجيا. وأنا أعتقد أن الكتب هي التي حمتني من التقوقع في دائرة الأيديولوجيا.
اليوم، لا أعرف مصير كتبي التي كانت في منزلي، ومكتبي في مخيم اليرموك، فقد اختفت هذه الكتب كما اختفت بقية أغراض المنزل الذي دُمَّر جزء منه، والمكتب نُهب عن بكرة أبيه مع دمار نصف البناية التي يقع فيها المكتب، وهي بيت أهلي في الوقت ذاته. لا أعرف إن قرأ أحدهم أحد تلك الكتب؟ وهل حصنت الكتب أحدًا ضد التطرف؟! هل استعملها أحد المحاصرين بديلًا عن الوقود للتدفئة في ليلة باردة؟! وهل... وهل... لا أنكر رغبتي في معرفة أي مصير كان لكتبي، لأنني فعلًا أشتاق إليها، وحزين على خسارة اثني عشر دفترًا كتبتهم على مدى عشرين عامًا، منتظرًا الفرصة المناسبة لاستثمارها كتابيًا في روايات حلمت أن أكتبها يومًا، فهذه الدفاتر ثروتي الأهم التي خسرتها في أتون الحرب.