Print
محمد الشايب

الكاتب

27 يوليه 2020
قص

مات، فحزن البعض لموته، وتأسف البعض، ولم يُول آخرون أي اهتمام. ذلك الرجل البسيط الذي لم يخاصم قط الجيران، ولم يلعب معهم الكارطة في مقهى الحي، ولم يحضر لهم فرحا، ولم يرافقهم في تشييع جنازة، ذلك الصموت الذي كان يخرج صباحا مطأطأ الرأس، يتأبط محفظة، ويحمل كتبا وجرائد، ويعود مساء محملا بنفس الأشياء، يجر خطواته المتثاقلة، وينفث دخان سجائره باستمرار. ذلك الهادئ الذي لم يشارك الناس صلاةً، وقلما بادلهم أطراف الحديث. كانت تسبقه بسماته حيث سار، ويسيل من وجهه ماء في منتهى الصفاء.
أحيل على التقاعد قبل خمس سنوات، بعدما اشتغل مدرسا أربعين سنة، حين ترك التدريس، زاد إخلاصه وتفرغه للكتابة والكتب. كثيرون كانوا يسخرون منه، ويرون أنه كان بلا طموح، لا يعمل لدنياه ولا لآخرته، فهو الذي رفض الترشح للانتخابات في أكثر من مناسبة، وهو الذي رفض مرافقة زوجته لأداء فريضة الحج، وضيّع كثيرا من فرص الترقي في مساره المهني، حتى أن زوجته كانت تلومه، بل تؤنبه، وسُمعتْ مرارا تصرخ في وجهه: «شنو قضيتي بهاد الكتبة؟! الناس بْناتْ وعلاتْ، وْدارت ما يبان عليها، وانْتَ عايش فْ عالم آخر.. القراية والكتبة الليل وْما طال، وشكون كايقرا كل كَاع..». كان يغادر البيت كلما سمع مثل هذا الكلام، ويتيه في شوارع المدينة، يمتطي صهوة صمت حارق، ويطوي المسافات، يقلب صفحات الذات، ويستمع إلى أنين السؤال، يتعمد المرور من الشوارع والأزقة الفارغة، كان لا يطيق الزحمة والضجيج، كان يستهويه الهامش، يفضل الصفوف الخلفية على الصفوف الأمامية، لا ينجذب للأضواء، ولا تخدعه الصور.
المدينة تعرفه، كان يستمع إلى أنينها باستمرار، ولا يسافر إلا على متن جراحها، يبكي في السر أحوالها، ويمحو بمداد همها كثيرا من البياض، ظل يغرد على أغصان الصدق بحبها، شوارعُها، وساحاتُها، ونواديها تعرفه، ويعرفها. يطوي المدينة طولا وعرضا، يكتوي بنار الأسئلة، وتقطع أحشاءَه سكاكين الأحزان، يتصبب عرقه غزيرا، وينال منه التعب، فيعود إلى منزله، ويلوذ بحضن زوجته التي يحبها، ويعرف أنها تحبه، رغم عواصف الغضب التي تهب من جهتها أحيانا، يقضي رفقتها جزءًا من الليل، ثم يتركها تنام، وينفرد بهمومه وأحزانه، ويرتمي في أمواج السطور، يكتب كثيرا، لكن قراءه قليلون وبعيدون، لا يقرأ له الجيران، ولا زملاؤه في العمل، ولا أهله، زوجته نفسها قليلا ما تقرأ له. بل تلومه، وتؤنبه أحيانا على تماديه في الكتابة، وتردد لازمتها التي ألفها «شنو قضيتي بهاد الكتبة..؟!».






رغم كل الجفاء، ورغم قضبان الاغتراب التي ظلت تطوقه من كل جانب، رغم برودة الحيطان وألم الشوارع وصمتها، ظل يكتب، يسهر الليالي الطوال، يسافر على متن القلق بعيدا، يخط، ويمحو، يملأ الأوراق، ويمزقها، يجرب هذه الكتابة وتلك، تصيبه نوبات جنون، يتلذذ، يتعذب، يفتح كتب الذات، ويعريها، يوقظ شخصياته من نومها العميق، يجعلها تسهر معه، ويسافر رفقتها في كل الاتجاهات، يرافقها إلى الأسواق وضجيجها، وإلى المقابر وسكونها، إلى الشوارع وزحمتها، وإلى المساجد والمدارس، إلى الحقول والمعامل، إلى المقاهي والحانات، إلى شواطئ البحر، وقاعات السينما..
يحمل فأسا، ويحفر مجاري الجمال على أرض اللغة، هي سهول وجبال، تلال وهضاب وفأسه عنيدة، لا تيأس من الحفر كيفما كانت التضاريس سهلة أو وعرة، يتصبب عرقه، وتهبُّ زفراته، ويواصل عمله المضني من أجل أن يتدفق الجمال، وتحفل به مجاري السطور، يظل مسافرا، زاده حب ولغة وأحزان وجراح، ووسائل سفره قلق وجنون، ولذة وعذاب، يكتب كثيرا، ولا ينشر إلا القليل..!
محا سنوات طويلة على هذه الحال، بلواه محو البياض، ومسه التيه ليلا في دروب السطور، لكنه مع توالي الليالي الباردة والصاهدة، أخذ التعب يستولي على مناطق جسده النحيل، ولم يعد يقوى على مصارعة أمواج الليل، ولا على المضي طويلا في منعرجات السهر، ولا على الحفر كثيرا في أرض اللغة، ولا على الصعود في مدارج الأحداث العالية، ولا على الهبوط في منحدراتها، ولا على تتبع تحركات وسكنات الشخصيات القلقة، ولا على سبر أغوار الذات.
استولى الوهن عليه تماما، وألفت زوجته أن تجده كل ليلة نائما على مكتبه، وتحيط به أوراقه المتناثرة، وأقلامه الصامتة، فتوقظه، وتساعده على الانتقال إلى السرير. أخذتْ أحواله تسوء يوما بعد يوم، واشتد مرضه، ولم يعد يغادر البيت، ولا يسير سيره المعتاد في الحي، ولا يصول ويجول، كما كان يفعل، في شوارع المدينة، ودروبها، وساحاتها.. حتى كتبه وأوراقه وأقلامه لم يعد يحركها، ينظر إليها فقط، لعله يكتب في صمت، ودون حاجة إلى أقلام وأوراق، كمحارب جريح متخلى عنه في ساحة المعركة، لا هو يستطيع حمل السلاح، ولا هو يقدر على الابتعاد عن أجواء الحرب.
لبست أيامه الأخيرة نفس اللون، اشتعلت جراحه، وكبرت غربته، ووهنت العظام، وهزل الجسد، وجف ماء الوجه، وذبلت العينان، وفي صباح ربيعي، وجدته زوجته جثة هامدة، وُلد في الربيع، ومات في الربيع..!
صُدم أهل الحي لرحيل كاتبهم، الذي طالما سخروا منه، ولم يقرأوا له قط، وصُدمت الزوجة أكثر.. شيع إلى مثواه الأخير في جنازة مهيبة، حضرها الأهل، والجيران والزملاء، وثلة من حملة الأقلام..
مرت أيام على رحيله، فوجدت الزوجة نفسها وحيدة، ظلت تحلق في سماء ذكرياته، تسترجع شريط بسماته الصامتة، وهدوءَه العذب، وخلوته الصوفية، وكلماته التي تشبه الأزهار، تتفتح بطيئة، وتفوح بالروائح الزكية.
لن تستطيع طي صفحات أيامه، فهو الذي بادلها الحب بحب أكبر منه، والقسوة بالحنان، والذم بالمدح، والشح بالجود، والجفاء بالمودة، هي تعلم أنه لم يكن ضعيفا، لكنه كان كريما في منتهى الكرم. عمَّر زواجهما ثلاثين عاما، لم يتوج بأولاد، لكنه ظل على مر الأيام، سماءً صافية، سرعان ما ينقشع سحابها النادر.
كانت تحبه، وكان يحبها أكثر، لكنها كانت تلومه، بل تؤنبه أحيانا لتماديه في الكتابة، ولإتقانه تضييع الفرص..! بعد رحيله، طوقتها غربة قاتلة، فلاذت بذكرياته، وأدمنت على الإبحار، ليلا ونهارا، في بحر أيامه، تسافر على متن صمته الكثير، وكلامه القليل، تقطف كل أشكال الورد من بسماته المتدفقة في الصيف والشتاء، وتسير طويلا في حدائق نظراته المخضرة في الربيع والخريف.. صار خروجها من المنزل نادرا، وظلت تلوذ بحضوره، رغم قسوة الغياب، في اليقظة والمنام. قرأت كتبه التي لم تقرأها في حياته، توقفتْ عند كل حرف، وعند كل كلمة، وعند كل سطر، فشاهدت الآلام ترقص على منصات الحبر، وولجت إلى حيوات مشيدة بمواد الواقع والحلم والخيال، وطفت على سطح كل السطور امرأة، تجود تارة بالسحاب، وتارة بالشمس، تارة بالمتعة، وتارة بالعذاب، امرأة ترسم الفصول كلها في صفحة فصل واحد، تحلق برفيقها في فضاءات الدهشة العالية، وتبحر به في أمواج الحزن العاتية، وتسير به بين فجاج القلق، ومضايق السؤال..






لوحة القارئة للرسام البلجيكي ألفريد إميل ليوبولد ستيفنز (1823-1906) 





















تساءلت الزوجة من تكون هذه المرأة، التي تملأ كل كراسي السطور، وتستحوذ على كل غرف الكلام، من تكون هذه المرأة التي تجلتْ في تضاريس الكتب، تارة عاصفةً تهب من جهة القلب، وتارة شمسا تسطع من سماء الإحساس، امرأة مستحيلة لا تتوقف عن الإنجاب، تلاعبت بها عواصف الحيرة كثيرا، واعتقلتها نيران الأسئلة طويلا، وحين عجزت عن فك ألغاز تلك المرأة التي تسكن السطور، تركت الأمر جانبا، وارتمت في أحضان نص مختلف، عَنْوَنَهُ صاحبه بـ«الكاتب». فتحت أبوابه، وولجت عوالمه، وسارت في دروبه، واكتشفت أنه بلا نهاية، فقررت أن تركب أهوال المغامرة، وتبحث عن نقطة نهاية لأحداث توغلت في المجهول، وشخصية غريبة، اختارت أن تعيش كل فصول الحياة في منفى الغربة، امتطت صهوة قلم من نار، وانطلقت تقلب تضاريس الحروف، وتفتح علب الذاكرة، لعلها تعثر على نهاية لنص عنيد، ابتدأه رفيق الدرب، ورحل قبل أن يُنهيه.
غاصت في أمواج السطور، ومضت في ظلمات الألم، واستنشقتْ هواء الحب العليل، وتهادت إلى سمعها أصواتُ سهاد الليل، ثم تراءى لها الكاتب يجري خلف شجرة فارعة الطول، تقف في شموخ، هي واقفة، والكاتب يجري خلفها، لكنه لا يستطيع الوصول إليها. نظرت إليها جليا، فتحولت الشجرة إلى امرأة، ففهمت الزوجة أنها المرأة التي تسكن مساحات النصوص، تلك التي حيرت العقل والقلب، واخضرت في حقول السطور على شكل علامات استفهام، وجدت نفسها وسط غابة من الألغاز، يغطيها ليل من الأسرار، لكنها أصرت على مواصلة المسير.
أحداث مجنونة، رجل يكتوي بنيران الغربة، ولا يستطيع العيش خارج أسوارها، امرأة سرمدية تكسوها الفواكه، وتسكن منطقة استفهام، تخضر على ضفاف القلق، حروف متعبة، تتصبب عرقا، ونهاية مستحيلة لنص بلا رائحة، ولا لون، ولا هوية.
توغلت في المجهول أكثر، بدت تائهة في شوارع الصور. الكاتب يجري دون أن يصل، لا يصل إلى سحاب مارد، ظل يتمنى لقاءه، لا يصل إلى ضوء مراوغ، ظل يرسم أطيافه بكل الألوان، لا يصل إلى امرأة تهطل بفواكه غزيرة، وتخطُّ على أديم الأرض، أساطير العشق، وتشق على تضاريس الحياة، أنهار الجنون، ولا يصل أيضا إلى نهاية نص مشاغب، ليس من طينة باقي النصوص، حرث سطوره بمحراث الألم، وزرع حروفه بمداد التحدي، أراده أن يكون وصيته الأخيرة، أن يرسم فيه، بألوان الإبداع والحياة، كل التجارب والأحاسيس، ويجعله ملتقى للفنون، ومرآة حقيقية للذات..
سهرت الليالي، اعتكفت في ظلمة الجنون، حلقت في سماوات الخيال، قلبت السطور، وكلمت الحروف، كتبت ومحت، خطت ومزقت، بنت وهدمت، تمتعت وتعذبت وحين أوشكت على الوصول، ضاعت كل الكلمات، وتبخرت الأحداث، وكف مطر الأحاسيس عن الهطول، فرفعت الراية البيضاء، ثم ارتمت في شارع الجنون، ومضت تصيح بأعلى صوت: «قصة الكاتب لا تنتهي».

(المغرب)