Print
عبد الجليل الشافعي

البدوية

3 أغسطس 2020
قص

حُسْنُ الحضارَةِ مَجلُوبٌ بتَطْرِيَةٍ              وَفي البداوَةِ حُسنٌ غيرُ مَجلو  

أفدِي ظِبَاءَ فَلاةٍ مَا عَرَفْنَ بِهَا               مَضْغَ الكلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ

المتنبي

كان صباحًا أبريليًّا يطوي ما تبقى من ليل تأخر رحيله حين رنَّ هاتف أيمن على الساعة السادسة والنصف فجرا. قام متثاقلا بفعل سهره الدائم أمام شاشة الحاسوب الخرقاء، أو في حضن رواية خارقة. لبس ثيابه في حركة دبت فيها الحياة بعد أن غسل وجهه بماء بارد أنعش روحه، سرح شعره، وفَرَشى أسنانه، ثم جاءه الصوت الملائكي الذي اعتاد سماعه كل صباح:

 - أيمن، لا تذهب إلى العمل قبل أن تتناول فطورك.

- أمي، لقد تأخرت، بالكاد أصل في الوقت المناسب.

لكن الأم أصرت، كعادتها، على أن تجعل أيمن لا يذهب للعمل إلا بعد أن يتناول فطوره، أجابته قائلة:

- لا، بنيَّ، يجب أن تأكل شيئا، أنظر إلى حالتك، صرت كعود بسباس تلعب به الرياح...

ابتسم أيمن للتشبيه، بعد أن غرق لحظات متأملا في هذه القدرة التصويرية التي تملكها أمه. دائما ما تجيد اقتناص تشابيه وتصيب فيها، وكأنها شاعر جاهلي خبر الصور البلاغية والمجازات. أمه التي لم تطأ قدمها يوما مدرسة، ولا خطت يمينها، ولا شمالها حرفا.. ثم ذهب ليقبل رأسها ويمرغ وجهه في كفها، وقال مترنما كالعادة:

- دعواتك أمي، لا تنسيني من نصيبي في صلاة الضحى.

قبل أن يتركها، أَلْقَمَتْ فمه حبة تمر أزالت نواتها بيديها المُضَمَّخَتَيْنِ حناء، المضمختين حنانا، ثم رفعتهما إلى السماء، تستشرف فرحة ما، رقصة ما..!

- سير أولدي الله يرضي عليك، الله يجيب ليك بنت الناس لي تْسْتَاهْلْكْ..

ضحك أيمن حد القهقهة، فمن له أم مثل أمه سعاد، لا يستطيع أن يفتح قُفل النهار إلا بمفتاح الابتسامة. إنها من تلك الطينة التي تنتصر للبهجة، وتعتنق الحياة، رغما عن الحياة نفسها، وتنثُر السعادة - كاسمها- كل صباح، كما تنثر حبات القمح لدجاجاتها العشر وبطتيها وديكها الفحل المشاغب...

أردف معلقا على دعواتها:

- ليس شرطا أن تعيدي كل يوم الشطر الثاني من دعائك أماه، يكفي أن ترضي عليّ.. وعرَّج على محفظته، ثم استوى على دراجته الهوائية السامقة مثله، وانطلق بسرعة كي لا يصل متأخرا إلى عمله، فأيمن من الأساتذة الذين يحرصون على أن يصلوا إلى القسم قبل تلامذتهم. وهو في الطريق، وقبل أن يتجاوز نصفه، وقع عطب في سلسلة دراجته. كاد أن يلعن الصباح، لولا تذكره لدعاء أمه الذي شَيَّعه قبل الخروج، ثم ترجل وركن الدراجة على جنب الطريق بمحاذاة أحد المنازل الطينية. حاول أن يصلح المشكل متقمصا دور ميكانيكي طارئ. كان مشغولا بالعطب، وبالوقت الذي يسيل منه بسرعة، حين سمع خشخشة نعل قادم في هدوء من الطريق المُتربة، رفع رأسه مستطلعا القادم. فإذا بها أمامه، صافية كقطرة مطر لم تلامس التراب بعد، ناعمة كقطن خرافي، ظبية الرشاقة، حَمَامِيَّة المشية..

قبل أن ينبس ببنت شفة، بادرته قائلة:

- صْباح الخير..

لم يَرد أيمن التحية، لا بمثلها، ولا بأحسن منها.. بل ظل سارحا متأملا تلك الفتاة، الحَالَةُ، الهَالَةُ. وجه منير كقمر على مشارف أن يصير بدرا، خدَّان حمراوان يماثلان حبتي تفاح، وقليل من الشعر أعلن ثورة على حصار الوِشاح، ثم استلقى على جبين عاجيٍّ. قليل من الشعر يعطيك فكرة عن جماله الحريري الفحمي، جبين مضاء وكأنه شهاب قدَّ من سماء وسطع على ناصية رأسها، وفم بحجم خاتم يكتسحه لون كرزٍ أطلسي..!

رباه، كم كان جذابا الكرز ذاك الصباح..

ثم القد، آه على القد الممشوق وكأنه شجرة صفصاف على ضفاف نهر سبو أبدي الجريان، وَكَعْبٌ قتال في وضعية استنفار، ثائرا على قانون الجاذبية، يسقط إلى الأعلى..

لم ينتبه أيمن إلى شروده حتى أعادت الفتاة تحيتها. ثم رد قائلا وهو يداري تحرجه من سرحانه الذي فضح انخطافه بها:

- صبا..ح،  صباح الخيرات..

 وحين مدّ يده مصافحا، إذا به يكتشف أنها سوداء متسخة، فتراجع عن مصافحتها واعتذر..

ابتسمت الفتاة، وقالت:

- لقد رأيتك مشغولا مع دراجتك، وعرفت أن يدك ستتسخ، لذلك جئتك بماء كي تغسلها.. وهي تتحدث معه، نبتت ابتسامة على شفتيها في غفلة منها، حينها عرف أيمن أنه يعيش أجمل صباحاته على الإطلاق، وعرف أن هذه البدوية، التي تشع جمالا مع بزوغ النهار ودون مساحيق تجميل، تماما كياسمينة برية، هي التي ستسكن قلبه! جلس مقرفصا ومد يديه ليغسلهما، ثم بدأت تصب الماء.

ما بين صبها لأول قطرة ومدها للمنشفة، كان أيمن قد سرح في خيالاته الجميلة من جديد وطوحت به أحلامه في مروج السعادة، حتى أنه بدأ في تخطيط لمشروعه القادم، مستحضرا وجه أمه الوضَّاح وهي تدعو له. "الله يجيب ليك بنت الناس لي تستاهلك". ثم سألها:

- ما اسمك؟

- اسمي زهرة، أجابته.

- جميل هو اسمك، كأنتِ - كأنت قالها بلا صوت - أنا اسمي..

- أعرف اسمك، وأعرفك، فأنا دائما ما أراك صباحا وأنت ذاهب للعمل.

صعقه ردها المفاجئ أول الأمر، لكنه ابتسم، وقال في مكر رجالي، ومكر الرجال عظيم..

- لم أكن أدرِ أن القمر يسطع كل صباح من جديد، من بعد ما يغيب مع ظلمة الليل، خصيصا، كي يراقبني، وإلا كنت أخرج حتى أيام الآحاد والعطل ممتطيا فرسي هذه، وأشار إلى دراجته التي استطاع تصليحها.

ضحكت ضحكتها الساحرة تلك، على وصفه للدراجة بالفرس، وقالت في دلال محبب مشوب بخجل بدوي:

- أظنك يا أيمن، تأخرت عن العمل.

- آه، فعلا، فعلا، يجب أن أذهب..

ركب دراجته من جديد شاكرا لزهرة معروفها، وجمالها الذي نفذ إلى روحه عبر كل جوارحه، ليستقر في العضلة التي تنبض يسار صدره ويستعمرها..

من ذا الذي يستطيع مقاومة غزو الزهور؟

وحين غدا في الطريق إلى عمله، كان أسعد رجل في أسرته، قبيلته، والعالم كله. أكمل مشواره وهو يدندن أغنية قديمة لمحمد الإدريسي، لا يعرف كيف تسلقت كَلَبْلاَبَةٍ إلى سطح ذاكرته الموسيقية، بعدما تخيل زهرة تُزف إليه:

 (عندي بدْوية، عندي في بيتي

بلا زْواق، الزين فيها

مضوي عليا، وعلْمكان).

(المغرب)

  عبد الجليل الشافعي