Print
ريتا الحكيم

تآكل

18 أكتوبر 2021
يوميات

عملية بحث حثيثة في أوراقي القديمة المصفرَّة بفعل الزمن، ستضطرُّني لأن أكرِّس نصف عمرٍ قادمٍ لإعادة قراءتها، كما كرَّست نصف عمرٍ سلف في تجميعها.
أصبت بحكاكٍ في جلدي سبَّبته تلك الحشرات الصغيرة التي لا تُرى بالعين المجرَّدة، إضافة إلى حكاكٍ في دماغي جرَّاء الفضول الذي تغلغل في خلاياه وتملكني حد الهوس؛ لأكتشف في ما بعد أنني لا أختلف كثيرًا عن تلك الكائنات الصغيرة التي تسعى جاهدةً للاختباء في ثنايا الورق هربًا من أصابع يدي التي تلاحقها أينما ذهبت أثناء عملية البحث تلك.
نعم، وبكل ثقة أقولها، إنها تشبهني في هروبها، وتحاكيني في تشبُّثها بأوراقي وما دوَّنته فيها منذ أن أعلنت إضرابي عن الكلام تضامنًا مع كلمة حقٍّ مُعتقلةٍ بين حبالي الصَّوتية.
مع مرور الوقت، عمَّقتُ التَّجربة بإضرابٍ عن السَّمع، عاهتان ليستا خلقيتين، وإنما عن سبق إصرارٍ وترصُّدٍ.
التحفت أوراقي وتقوقعت فيها؛ فكانت ملاذي الدَّائم إلى أن رأيت تلك الكائنات الدقيقة تشاركني فيها.
أمتعتني حركتها الدؤوبة، لكأنها في سباقٍ عشوائيٍّ للجري، وأنا وحدي الجمهور القابع على أحرِّ من الجمر في انتظار النتيجة.
لمحت إحداها، أوحى لي حدسي أنها أنثى.. تصنَّعت الهدوء لأراقب تصرفاتها وهي تحتل رسالةً كنت قد كتبتها لحبيبةٍ وهميةٍ ابتدعها خيالي.. فاجأتني بأن محت الكلمات في كل حركةٍ صدرت عنها.
يا إلهي! ماذا تفعلين أيتها اللعينة؟ مرَّرت إصبعي عليها، وبكل قوتي سحقتها، ولكنني ندمت بعد ذلك؛ فقد تبادر إلى ذهني أنها ليست إلا محاولةً منها لإيصال رسالةٍ مفادها أنه يجب عليّ أن أبتلع أوهامي وأحلامي حتى لو أصبت بالتُّخمة.
تراءى لي في هذه اللحظة بالذات صديق الطفولة "شريف" بكرشه الذي يتقدمه في سيره. أبهذا الشكل تريدني تلك الحشرة أن أبدو بعد عملية الالتهام التي عليَّ تنفيذها على عجلٍ قبل أن تأتي رفيقاتها لمحو ما تبقَّى من كلماتٍ؟
آه كم أنت خبيثة! تريدينني أن ألتهم ذاتي التي استوطنت أوراقي؛ لأزيد على عاهاتي عاهةً أخرى.. تصفَّحت باقي الأوراق، كانت خاليةً إلا من بقايا حنجرةٍ مهشَّمةٍ تقطر دمًا..



*كاتبة سورية.