Print
محمد بنعزيز

وَيْككُم!!

28 فبراير 2021
قص

جاءني صوت اهتزاز الباب من بعيد... من بعيد، كصدى يتردد في حفرة، استيقظتُ بصعوبة من غيبوبتي، وأزحت الغطاء الثقيل من فوقي. شعرت بالبرد. ما زال الباب يهتز. وقفت، فتحت باب غرفة النوم. هرولت حافيًا حتى الباب الخارجي. فتحته. وجدتُ الممرض مبتلًا ومضطربًا:

ـ حالة خطيرة... خطيرة يا دكتور.
رجعت بسرعة إلى غرفة نومي. ارتديت الجلباب الصوفي البني فوق البيجامة. تبعتُ مساعدي الذي سبقني مسرعًا رغم كثرة الحجارة في الطريق. بلغت المستوصف الصغير الذي يوجد على بعد أمتار من مسكني. الريح تعوي في هذا الجبل القفر، والسماء تنزف. دخلت مكتبي من الباب الخلفي...
نظرت إلى الساعة. السادسة والنصف. بعد ست عشرة دقيقة سيرتفع صوت آذان المغرب. من حسن الحظ أن جيراني الفلاحين يتصدقون عليّ بالإفطار، ما إن يبدأ الآذان حتى يطرق ابنهم الأصغر بابي ويجدني مستغرقًا في غيبوبتي، ينتظرني طويلًا قبل أن أستفيق وأفتح وأتسلم منه صينية فيها حريرة، وخبز شعير، وملوي مدهون بالزبدة والعسل وإبريق شاي...
أشكر الطفل الذي يصبر لأستيقظ ببطء. لم أتمكن من التخلص من هذه العادة التي أصابتني منذ أيام الدراسة. لا بد أن أنام ساعة قبل الإفطار لأتمكن من السهر لحفظ دروس تشريح الكائنات الحية.
أدخل الممرض إلى مكتبي طفلة محمرّة الوجه، قال:
ـ هذه الطفلة تنزف منذ ساعة!
طفلة نحيفة امتزج الدم والدموع على خديها، وقفت بسرعة، ووضعت رأسها بين يدي، اختلط الشعر الأسود الفاحم مع الدم فوق الأذن اليمنى، ارتجف قلبي.
ـ ما اسمك؟
أجابت بصوت مبحوح:
ـ طامو.
سخنت الماء لأغسل الجرح، لا وجود لكحول طبي هنا. أحنيت رأس الطفلة في وعاء بلاستيكي، وصب الممرض حتى تساقط الدم المتخثر... فتحت الدرج وأخرجت مقصًا، قصصت الشعر حتى بدا حجم الجرح الحقيقي: طوله حوالي أربعة سنتميترات، وعرضه سنتميتران، ويبدو أن عظم الجمجمة قد تأثر من عنف الاصطدام.
أجلستُ طامو على كرسي أمامي، في وجهها صُفرة، وعلى شفتيها زُرقة خفيفة، لا بد أنها قد جاءت على متن حمار حَرُون، أعدت المقص إلى الدرج وأخذت إبرة وخيطًا لرتق جرح في حجم فم بلا أسنان، يؤلمني أنا أن أخيط الجرح من دون تخدير، لكن أين المخدر؟ لا شيء يصلني في هذه القرية المنسية في عمق المغرب غير النافع، لذا أضطر غالبًا إذا سافرت لشراء أدوية بسيطة يوزعها الممرض على الفلاحين فيعطونه حفن تمر.
لولا الأجرة التي تصلني لظننت أن الحكومة نسيتني، لأن أقرب شِبْه مدينة إليّ تبعد عشرات الكيلومترات، ونصف الطريق حفر وحجارة... وقد تعودت تحمل ألم مرضاي، تعودت أن أعمل وفق توقيتي الخاص، لا وِفق التوقيت الإداري، أنام النهار كله في مكتبي، أو بيتي، ثم أقضي الليل على ظهر بغل لأصل إلى مراهقة ستلدُ في ظروف صعبة...
ارتفع آذان المَغرب، وبدأت خياطة جرح رأس طامو، غرزت الإبرة في فروة الرأس، فصرخت، وابتعدت لتقف أسفل صورة إعلانية كبيرة ملونة على جدار المستوصف، صورة لطفلة أنيقة تحمل في ظهرها محفظة، وتجري لمعانقة والدها الذي نزل من السيارة.
أمسك الممرض الجريحة وهو يهدّئها ويزعم لها أن الألم سينتهي بسرعة... أجلَسَها على الكرسي وهو يمسكها بقوة، جعلتُ صدرها بين ركبتي كي لا تتحرك، غرزت الإبرة في لحمها من جديد، صرختْ، ولم تتمكن من الحركة...
أنهيت بسرعة، وتركت طامو تستريح، قلت:
ـ تصومين؟
أجابت:
ـ واه!!
حدقت فيها، لها عينان جميلتان تنمان عن ذكاء و"حداكة" (حذق)، لا تستحق الشقاء.
تلاشى إحساسي بالجوع، لا بد أن ابن الجيران يطرق بابي الآن بقوة ليوقظني لأتسلم منه إفطاري اللذيذ، كلما شكرته قال "نومك غريب كالموت".
استعادت طامو هدوءها وهي تتأمل في صمت صورة قرينتها التي تزين المستوصف، سألتها
ـ من ضربك؟
ـ حنة.
فوجئتُ، أطللتُ من فتحة الباب الموارب، فرأيت شابة مقرفصة قرب المقعد الخشبي الطويل تبكي وهي تمسك رأسها بين يديها المشققتين.
ـ لماذا ضربتك أمك؟
ـ قالت لي: عجنتِ الخبز، بْلاش الملوي، كل يوم واحد "الدْوام هذا كيحشّم"! (الزمن طويل واختباراته مخجلة).
ـ وماذا فعلتِ؟
ـ تركتها حتى خرجت إلى البئر لجلب الماء، فعجنت الخبز، ثم عجنتُ الملوي، وضعت المقلاة على النار، وبدأت أدهن الملوي بالسمن. في رمضان، أريد أن آكل أفضل من الأيام العادية.
ـ وماذا بعد؟
ـ رجعت حنة، غضبت دفعة واحدة، رمت الأرغفة، وبدأت تصيح "الطحين ما يكفي... الزيت ما يكفي... البوطغاز ما تكفي!!". وقالت أشياء قاسية عن الدنيا، وعن أبي، ثم أفرغت الطحين والزيت على رأسي، وضربتني بمقلاة الرصاص...
صمتت طامو قليلًا وختمت:
صرخت حنة طويلًا، ثم جلست بجانبي تبكي.