Print
فيصل خرتش

كتابات على جدران الزمن

18 أبريل 2021
يوميات
ثمة مثل للذين يكتبون على الجدران، والمثل يقول: "الحيطان دفاتر المجانين"، والحيطان في لهجة أهالي حلب، تعني: الجدران، فهنا جدار مكتوب عليه بالخط العريض عبارات تعبر عن الحب والشوق الذي يكنه هذا العاشق الولهان لصاحبة الجدار، والعبارة مكتوبة على جدار مدرسة للبنات المراهقات، في المرحلة الإعدادية. قد تكون الفتاة لا تزال موجودة، أو أنها رحلت، لكن الأثر لا يزال باقيًا، وهذا الإنسان، الذي كتب هذه الكلمات، إما مريض مكبوت، أو طالب فاشل ترك المدرسة في الصفوف الأولى، أو هارب منها بسبب ممارسات عليه من الإدارة، أو المعلمين.

الموضوع لا يتعلق بالتعابير الدينية التي تكتب في المناسبات، مثل زيارة بيت الله الحرام، أو العبارات التي تخص الدولة، وإنما نتكلم عن العبارات التي تخص المجانين، ومن لفَ لفَهم. فقد كان هنالك رجل في الخمسين من عمره يأتي كل يوم أمام المقهى الذي أجلس فيه، وبيده لوح طباشير أحمر، ورأسه مربوط بخرقة، ويكتب على الجدار: "أنا عنتر". لم ينتبه إلى أحد من رواد المقهى، ولا إلى الجمهور الكريم الذي يمر أمامه، إنه فقط يهتم بالجدار الذي أمامه، ولا شيء غيره، يكتب جملته التي تتكون من مبتدأ وخبر، ويمضي.
وهنالك بعض الناس يأتون به مكتوبًا ويلصقونه على الجدار. فمرة، جاء أحد رواد المقهى، واستلم الجدار الذي بجانبه، وأخذ يلصق صفحات على جدار الزمن. كان يلصق والناس يتراكمون وراءه، وعندما انتهى، كان العدد سبع صفحات مملوءة درزًا، وتتضمن أسماء الذين يعرفهم، وانتماءهم السياسي، واسم الوالد، واسم الأم، والمواليد، وسنة التنظيم، الحاضرون والغائبون، ومن كان في المحافظة، أو في المحافظات الأخرى. لقد غادر المقهى كلَ من فيه إلى جهة مجهولة، ولم يبق إلا الطاولات والكراسي الفارغة. وقد قيل إنَ الرجل أُخذ إلى "الأمن السياسي"، وبقي هناك أسبوعًا، ثم أخلي سبيله، لأنه اعتبر مجنونًا ينشر على الجدران.
ومرة، ذهبت إلى مدينة الرقة، عندما كانت عاصمة للدولة الإسلامية، وذلك كي أصفي وأنقل بيت ابنتي التي كانت تدرس في جامعة الفرات، وما إن نزلت من الباص حتى أخذت سيارة لتوصلني إلى بيت ابنتي. سألت السائق، حينها، كيف هي الأوضاع عندكم، فقال بألم "يا شيخ، إنهم يعدمون في كل يوم جمعة عددًا من هؤلاء المجندين المساكين الذين أكرهوا على خدمة الدولة، ويضعون ورقة على الجدار يتهمونهم بأنهم يتبعون للنظام، وهؤلاء جميعًا، الواحد منهم غير معروفة قرعة أبيه من أين، يقصد أنهم جاؤوا من بلاد أخرى، جاء إلينا وأصبح يفعل هذه الجرائم، يقتل ويسبي ويفجر وينسف، وكل هذا باسم الإسلام. وتابع الرجل، مستنكرًا، إنهم يدعون الإسلام، وهو منهم براء، يطيلون لحاهم وشعورهم، ويتجندون بالرصاص والقنابل، يلبسون الدشداشة القصيرة، ويقولون هكذا كان الصحابة! عن أي صحابة يتحدثون! أليس الإسلام هو الذي حرم قتل النفس البريئة، فلماذا هم يقتلون البشر".

كنت قد وصلت إلى بيت ابنتي، فقلت للسائق: "كان الله في عونكم". في البيت، وبعد السلام والتحية، كان الغداء جاهزًا، وكان في حاجة إلى خبز، فتيسرت لأجلبه. وفي الطريق، شاهدت معالم مدينة الرقة، وتابعت في شارع 23 شباط، ثم انحرفت في اتجاه مقصف الرشيد. اشتريت خبزًا، وتابعت إلى ساحة الساعة، فوجدت جمعًا من الناس حول الساعة. اقتربت أكثر، ورأيت ثلاثة رؤوس مقطوعة عن أجسادها فوق جدار الساعة. نعم رؤوس بشرية، مسبلة ونائمة كخراف الملائكة. أنا لم أشاهد رأسًا بشريًا مقطوعة كل حياتي. كاد الهلع يصيبني، وشحب لوني، وكدت أن أقع. الناس كانوا يتصورون بجانب الرؤوس. اقتربت أكثر. كانت هنالك ثلاث ورقات معلقات على الجدار تتهم رأس كل منهم بـ"العمالة للنظام". دسست نفسي بين الجموع المحتشدة، فرأيت ثلاث جثث مرمية على الأرض، والذباب يأتي ويروح على مكان انفصال الرأس عن الجثة. كانت مرمية على الأرض بعكس الرؤوس. دقت الساعة الرابعة، وخرج التلاميذ من مدرسة الرشيد التي تقع قرب الساحة وهم يصرخون بـ"هيه" اندفعوا جميعًا في اتجاه هذا المنظر، ثم وقفوا يتفرجون على منظر الرؤوس والجثث، وبعضهم أخذ الصور للذكرى.
اندفعت إلى بيت ابنتي، من دون أن أخبرها بشيء.