Print
زهرة أحمد

أوتار الذكريات

16 سبتمبر 2021
يوميات

على ذلك الرصيف، على قارعة ممتدة كالألم، هناك، بجوار المدرسة، حيث يجلس بلند مع أكياس المحارم. يهندسها ببراعة على تلك المساحة المفرغة من الأمل، كما التقويم، محافظًا على حضوره اليومي.

إنه توقيته الثابت المتزامن مع ذهاب التلاميذ إلى المدرسة، لا يغيب إلا يوم الجمعة.

بابتسامته الصغيرة يستقبل كل الأطفال، حتى آخر طفل يدخل المدرسة، لتتلاشى ابتسامته بانتظار أن يُفتح الباب من جديد.

بشوق كبير، كانت نظراته تراقب ما يجري خلف ذلك الباب الكبير. أصوات الأطفال ترنُّ في روحه، تتناغم حركاتهم مع ذكرياته البعيدة، هناك، حيث لا تزال تنبض بالحياة.

أصبح يعرف أوقات لعبهم وحصصهم المدرسية، يشاركهم كل ذلك بما تبقى في روحه من عبق الذكريات.

بلند، ذو الثلاثة عشر خريفًا، تناثرت طفولته على حد شفرات سني الألم، تراكمت على ملامحه حكايات لا نهاية لها، جعلت منه الرجل الطفل.

صدى ملعب الأطفال والغبار المتصاعد مع أنفاسهم، أيقظ في روحه أجمل ذكرياته، تلك التي سطرها مع أصدقائه. أما قصصه المشوقة مع مسابقات الجري، فلا تزال ماثلة أمام عينيه، كحكايات جدته في عمقها اللامتناهي.

يحب الجري كثيرًا، رياضته المفضلة، يحس وكأنه يبتلع كل الهواء. يمتلئ صدره بعبق الزيتون، فلا يتوقف عن الجري إلا عندما ينام. يسابق الجميع، يفوز كل مرة، ليس فقط في حصة الرياضة بل في القرية وبين أشجار الزيتون. لم يترك بستانًا إلا وساقته قدماه إليه، لم تبق شجرة في بستان بيتهم وبساتين جيرانه إلا وتسلقها، يتسابق حتى مع الشمس ولا يتركها إلا عندما تغيب، فتغمره نشوة الفوز. أما كرته، فكان لها الحيز الأكبر، بل الأجمل من بين ذكرياته، الكرة التي أهداها له والده في ميلاده السادس، ليقنعه بالذهاب إلى المدرسة، فكانت رفيقته الدائمة.

تراكمت في ذاكرته صور عديدة لكرته، بعد عودته إلى البيت بعد سلسلة من مسابقات الجري وطقوس تسلق الأشجار، تذكر كيف كان يغسل هذه الكرة عقب عودته من ملعب القرية وذلك عند الغروب، يحضنها، يقبلها، ثم يكتب عليها أسماء كل رفاقه في الملعب، كلما يمسح الغبار حروفا رسخها تاريخ المرح.

لا يزال غبار الملعب يتناثر على ذكرياته عبقًا.

يكررها لنفسه كلما نبشت الذكريات ذاكرته العميقة:

كم أشتاق لملعبي! لكرتي، ورفاق الفريق، هل سألتقي بهم جميعًا مرة أخرى؟؟؟ متى سألتقي بهم؟؟

فقط حضن والده يستمد منه تلك القوة الهائلة ليكون قادرًا على تحمّل تلك الأشواق المتقدة أبدًا.

كل صباح وقبل أن يخرج من البيت يحضن والده، يقبل يديه، يستمد منهما ما يكفيه لمواجهة كل ما يعترض طريقه للأمل، فكان كل الأمل.

كانت رائحة الزيتون لا تزال تعبق منها وتملأ الشقوق التي أدماها الزمن وحتى بعد أن أقعده المرض عن العمل، ليصبح جسده مكمنًا للآلام بعد أن ترك قريته وزيتونه هناك. كانت أنياب الحرب كفيلة بجعل كل شيء ينزف ألمًا.

ها هو الباب ينفتح من جديد، لتشرق ابتسامته كما كل مرة.

كم تشبه معلمتي الأولى!!!!! هكذا يكررها لنفسه، كلما تتقدم معلمتهم باتجاهه لشراء علبة المحارم، تغمره سعادة لا توصف. تذكره بمعلمته في الصف الأول، لأجلها أحب المدرسة بعد رفضه المتكرر وهروبه من الحصص المدرسية.

معلمتي الأولى، هكذا يسميها، حتى ابتسامتها جميلة كابتسامة معلمته تفوح بالحنان وعبق الأمومة.

لا يزال يسأل عن أخبارها حتى بعد أن تزوجت وانتقلت إلى قرية أخرى. يراقب بشغف كل ما حوله، يقرأ ملامح التلاميذ أثناء خروجهم من المدرسة بابتسامته المعتادة يرتشف فرحة التلاميذ بمسامات روحه.

تلك الطفلة الصغيرة بجدائلها الذهبية، وحقيبتها الثقيلة التي تعيق خطواتها البريئة، ذكرته بأخته الصغيرة، حبيبة قلبه راما، يراها الأجمل في الكون.

اليوم قرر أن يفاجئها بشراء لعبة لها إذا باع المحارم.
لم يبع شيئًا، لكنه ليس حزينًا!! واثق أن أخته لن تزعل منه، كما كان واثقًا بأنه سيتمكن من شراء لعبة لها ولو بعد حين. من ذلك الرصيف، في ذلك المكان تتدفق ينابيع ذكرياته تمدُّه بقوة، حتى في أكثر اللحظات برودة.

ينتهي مسلسل ذكرياته مع ابتعاد آخر تلميذ عن المدرسة، لتتوقف الأوتار عن العزف، ويبدأ الصمت بالتغلغل في واقعه، ويخيم الألم على شعوره كما كل مرة.

تذكر والدته، أحس بحاجته إلى حضنها ليدفئ روحه. يقبل يد أمه، تلك الأصابع التي قوستها آلة الخياطة، خياطة القرية المشهورة. الآن تخيط بآلة قديمة تكاد تلبي موهبتها بالتفصيل، بعد أن تركت آلتها الجديدة هناك كما كل مكونات بيتها تحت الأنقاض.

انتهى الدوام المدرسي كما كل يوم، ابتعد الجميع عن مكمن ذكرياته، وبدأ البرد ينخر كل جسمه المبلل.

وضع بلند كيس المحارم على كتفه، وبيده الأخرى استند على عكازته، كانت حبات المطر قد بللت حتى دموعه، بخطى ثقيلة مضى إلى البيت، حيث كانت قدمه اليسرى كما كرته، كما أحلامه، قد بقيت هناك تحت الأنقاض في عفرين!