Print
بسام جميل

ساعة من الزمن

18 سبتمبر 2021
قص

طبقات من الغبار الطري الذي لا يزال أثر الماء فيه حاضرًا كأنه ابتل منذ لحظات. أخذ يتلمس الرطوبة ويفرك السطح الزجاجي بعناية فائقة، ثم جلب بعض الماء وسكبه على السطح لتنظيفه بحذر خشية أن يجرح الغطاء المعدني في الخلف بذات الحرص الذي يعامل به السطح الزجاجي.
تشير العقارب إلى الرابعة والنصف صباحًا وتحدد الساعة، بدقة، اليوم الذي توقفت فيه عن العمل "27/12/2008".
كانت رشيدة تريد أن تهدي هذه الساعة لزوجها، وقامت بالاتصال بأخيها في سويسرا لشرائها وإرسالها قبل عيد ميلاده الخمسين. دفعت ثمنها كاملًا مما استطاعت توفيره خلال سنوات عملها كمدرسة في مدرسة الحي المتوسطة للبنات. 500 دولار مبلغ ليس بقليل على ساعة يد، لكن زوجها، ورغم عمله في الزراعة، وطبيعة تعامله مع الأتربة والطين، إلا أنه يعشق الساعات، ولا يهمه أن يرتديها في المناسبات الرسمية فقط، بل لترافق ساعده في عمله المجهد والمغبر.
الطقس الحار لا يعني أن عمل الأرض قد يؤجل، فالإجازات لا تعرف هذا البيت، وهذه السيدة. تحافظ رشيدة على نظام منضبط أكثر من ساعات زوجها، ليكون كل شيء على ما يرام في أي وقت كان. أما هو، فلا يفارق الأرض مهما كانت أحوال الطقس سيئة، أو حتى شاذة، ويكفي أن تغيب الشمس، ليبدأ بعمل آخر داخل أرضه بعيدًا عن الفلاحة وسقاية المزروعات. أن يبحث عن أعشاش العصافير ويهتم بصغيرها الضعيف، ويغير أحيانًا على خلايا النحل الموزعة في أرضه الواسعة.
من يشاء من الأبناء بالمغادرة فليغادر. لا يعنيه أن يتمسك بأي منهم، في نهاية الأمر سيحصل كل منهم على حياته الخاصة. قد لا يسعده ابتعادهم أكثر من قرية، أو قريتين، لكنه مجبر على قبول الأمر الواقع، فآخر أبنائه حصل على منحة دراسية في أوروبا، وهذا يعني، بكل تأكيد، أن سيارته القديمة لن تكون قادرة على بلوغ تلك الوجهة بأي حال من الأحوال.
كم غابت من الوقت؟ لا يهم، طالما أنها عادت مجددًا. تنظر رشيدة إلى هذه السعادة الطفولية في وجه زوجها وهو يقلب ساعته العائدة من غفوة زمنية طويلة، وتدرك أن الساعة تعني أكثر من قيمتها المادية وحتى المعنوية كهدية جلبتها له. السؤال الأهم: أين كانت طوال هذه السنوات، ولماذا عادت الآن؟! من عليها أن تسأل، فزوجها لا يعنيه كيف عادت، وجل الأمر بالنسبة له أن الأرض تباركه مجددًا، فلطالما كان يباركها بجهده اليومي، وها هي تعيد له ما فقده، رغم مرور سنوات كثيرة على هذا الفقد.
لا يسعني في هذا الوقت العصيب الذي تمر به عائلتنا، إلا أن أنقل لكم مقدار الحزن الذي أشعر به، وأشارككم هذه اللوعة الحارقة في صدورنا جميعًا. إننا، كعائلة، نواجه هذا القدر الذي لا يحيد عن عشرات، بل مئات وآلاف، العائلات حولنا. نستيقظ على أنباء الخسارات المتتالية حولنا، وتزداد أعداد الفقد كأنها مروحة لا يعنيها من الحصاد إلا امتلاء رغبتها بالطريق وامتداده السرمدي.
أخوتي وأخواتي. لا يمكن لشيء أن يعوضنا عن هذا الألم وهذه المشاعر القاسية التي نشعر بها، ولأننا نعيش حصتنا من الدمار المستوي حولنا، فإن صراخنا لن يجدي من دون فعل حقيقي، من دون امتثال لرغبة الانتقام والثأر، وليس كأي ثأر، فإننا إذا ننوي ونعقد العزم على ذلك، فهذا الاندفاع الحريص على أبنائنا وبناتنا، سيكون امتحانًا لعدونا ولأصدقاء وهميين ومناصرين مخادعين. ها نحن أبناء هذه الأرض نقف وقفة رجل واحد، لا يملك شيئًا ليخسره، ولا يدفعه سوى هذه الرغبة الجارفة بتحقيق العدالة، فلنكن سيوف الحق، ولننتصر لضعفائنا، ولنشيد بعد ذلك وطنًا يليق بما ضحينا وسنضحي به.
أبنائي وبناتي. هذا زمن انتصار. لا انتصار الدم على السيف، بل الدم على الدم. فكونوا أوفياء لهذا العهد، ولنمضِ إلى حتفنا الذي يليق بما سنخلفه وراءنا.
تستيقظ رجاء على صوت رضيعتها، فتلبي نداءها لترضعها، وتنظر حولها في العتمة فلا تجد خالد. كان عليه أن يقضي المزيد من الساعات في عمله، لكن الساعة قد تخطت منتصف الليل، وهذا تأخير غير محمود، وليس من عادته. تتصل بأخيه حسام الذي يعمل في الشارع المقابل لمنزلها، ولا تجد لديه جوابًا شافيًا. تهدهد الصغيرة لتعود لنومها اللذيذ، وتشعل الغاز لتصنع القهوة، لتنتظر، فحسب.
يطل النهار من دون وجه حقيقي. سماء صافية تمامًا، وشمس لا يراها أحد، لأن الجميع يحفر بشكل أو بآخر. بين زحام فوق أنقاض بناء مهدم، يبحثون فيه عن حياة، وبين وجوه ساهمة، لا تفكر في شيء، ولا تنظر نحو شيء.
في القرب من الأبنية المهدمة، قطع من سيارة محترقة منثورة في المكان تخالط أشلاء لا يزال الدم فيها طازجًا.
لا يمكن سماع صوت أحياء هنا، فيترك الجمع هذه الأشلاء للشمس الغائبة، ويحفرون بحذر، على أمل سماع صوت ما، تحت هذا الركام أو ذاك.
وصلت سيارات الإسعاف لتحمل رفات شهداء هذه المرة، ولا يعرف أحد من هم، لكن الأجهزة الأمنية ستبحث بأمر السيارة، الدليل الوحيد الذي سيقود، ربما، لراكبيها.
من يبحث عن من؟! تسأل المذيعة وهي تحاول أن تجد عبارات تتفوه بها لجمهور بعيد، وتشرح فيه ما لا تستطيع الصورة وحدها أن تقوله.
يغلق خالد التلفاز الذي ينقل معظم ما يجري مباشرة من موقع الحدث، ويبحث عن مفاتيح سيارته، سيارة الإسعاف التي يقضي معظم نهاراته وأمسياته خلف مقودها.
يتفقد الإطارات ليجد أحدها مثقوبًا، مما يعني صرف نصف ساعة لاستبداله، وعبور طريق مغاير ليضع المثقوب في ورشة صيانة تبقي موظفيها لوقت متأخر في أوقات الطوارئ، للصيانة وبيع الإطارات المهترئة لتحرق في مفارق الطرق، حيث تحتدم المواجهات مع العدو.
تنتهي المناوبة في العاشرة، لكن زميله الذي يستلم منه السيارة للمناوبة الليلية عالق في أحد الحواجز العسكرية، ولم يتمكن من الوصول قبل الواحدة والنصف. يعود خالد ليلبي نداء استغاثة جديد مع طاقم الإسعاف، ويحصد جرعته اليومية من الألم، ليلم أشلاء، أو ليحمل مع رفاقه أحد الصبية الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة بعد إصابات بالغة تطالهم.
في الطريق إلى مشهد آخر، يمر خالد من أمام بيته، محاولًا الابتعاد عن المواجهات قدر الإمكان، ليصل إلى المستشفى وينقذ الجريح الذي يحمله في السيارة. في لحظة عابرة، ينظر لنافذة منزله المضاءة على غير عادتها في هذا الوقت، ليعرف أن زوجته يعتريها القلق وتسهر في انتظار عودته.
هل يعود غودو؟ يسأل نفسه مبتسمًا بمرارة ساخرة، فيقبض على يده زميله المسعف الذي يجلس بجانبه، وينظر في عينيه "نص ساعة وبترجع عالبيت، آخر جريح مننقله اليوم، لازم نرتاح، مش معقول إلنا يومين مش نايمين وفايتين عالتالت".
يعلم أن عليه العودة بعد أربع ساعات فقط ليبدأ دورة الموت والحياة مجددًا وبأنفاس متقطعة من فريق العمل والضحايا.
القهوة لن تجدي نفعًا، ولا أي نوع من المشروبات الساخنة ليستعيد وعيه بعد جلسة طرد الأرواح الشريرة من كابوسه الرمادي الملازم له خلال أيام الحرب المستمرة. رخام ومناديل بلون الرخام ودعوات من سيدة قادمة من بيروت العليا بأن ينقذ ذراعها المحشوة بقطن مشبع برائحة الكلور القوية. ينتفض من نومه القلق، ويحاول الاتصال بأخته ليطمئن على صغاره لديها، ولا مجيب على الهاتف. وقبل أن يستعيد كامل وعيه، يتناول عدة حبات من مسكن الصداع، ويشرب كمية كبيرة من الماء، ثم يشعل سيجارة حشيش نجت في جيبه بأعجوبة، وربما السبب يكمن في شربها لكمية كبيرة من العرق المتجدد الذي غرق به قميصه. ليست جافة كفاية، لكن الحريق الصغير سيتكفل باستعادتها لدورها السيادي في حكم المشهد العام داخل جمجمته.
ينطلق بالسيارة نحو منزل أخته ليجده مدمرًا، فيجلس القرفصاء ويتأمل الصمت الوهمي في رأسه رغم وجود عشرات الأشخاص حوله يبحثون في الركام عن ناجين. يطول هذا الصمت حتى يقاطعه عواء كلب بالقرب منه فيصحو مجددًا من هذه الغفوة الركامية داخل مقصورة سيارة الإسعاف، ليستمع لنداء جديد عليه تلبيته. يغلق جهاز الاستقبال ويشعل سيجارة مارلبورو ويسحب أنفاسًا ثقيلة منها وينفث كتلة من الألوان المرتبة مع سعاله الثقيل.
يقفز الزمن بسرعة مخيفة في كل مرة ينظر فيها لساعة يده، كأن هناك إغفاءة قسرية للعالم بأسره، والمشهد مع ذلك، لا يتغير. يجلس خلف المقود، ويطارد ألسنة النار التي تلتمع كنجوم هائجة تنبثق من أرض جهنمية، ليصل إلى مشهد الدخان وأكوام الردم الهائلة، مع كثير من الحظ يمكن سماع أصوات استغاثة، لكن لا نجاة مع هذا الغور في متاهة الثقب الزمني الذي يجعل الساعات كلحظات عابرة. يقرر أن يتخلص من الساعة فيقوم برميها على قارعة الطريق. لحظة، أو ربما ساعة واحدة أو أكثر، لتصاب سيارة الإسعاف بقذيفة صاروخية وتنهي هذه الفجوة.
رشيدة تجهز منزلها لاستقبال ابنها العائد لزيارة قصيرة في إجازة ما بين فصلي الدراسة. ربما هو الشوق للجارة الفاتنة، ما دفعه إلى تحمل هذا الجهد للقيام برحلة العودة من أوروبا، وربما أسباب أخرى، كنداءات أمه المتكررة لتلبية شوق صامت في صدر والده.
تنفرج أسارير الأب لدى معرفة موعد العودة المنتظرة، ويقرر أن يهدي العائد ساعته العائدة من غيابها الطويل. تتحضر العائلة لرحلة ليست بقصيرة إلى المطار، في سيارة قديمة وغارقة برائحة العطور التي بالغت رشيدة في نثر أثيرها بها، مما دفعهم إلى ترك النوافذ مفتوحة معظم الرحلة رغم برود الطقس.
في صعود التل الأكثر انحدارًا، يواجه الأب ضوءًا ساطعًا صادرًا عن سيارة مسرعة تهبط نحوهم، فتلتقي السيارتان في لحظة، أو ساعة، ربما أكثر. لتتوقف حكاية الساعة العائدة من دون معرفة سر اختفائها طوال سنوات.