Print
وداد نبي

النساء في صناديق ضيقة

15 أكتوبر 2022
يوميات

كنت أصغر من الشابة الإيرانية الكردية، مهسا أميني، بتسع سنوات. كنت في الثالثة عشرة من عمري، عندما خيّرني والدي، في خريف عام 1998، بين ارتداء الحجاب والاستمرار في الذهاب إلى المدرسة، أو رفض ارتدائه والبقاء في المنزل، مع عدم السماح لي بالخروج.
كان جوابي الأولي الرفض، بل كرهت الحجاب حتى قبل أن أضطر إلى ارتدائه، رغم أنني نشأت في حلب، حيث كانت ترتديه كثير من النساء بطبيعة الحال، حلب المدينة التي طالما أرادت حبس نسائها خلف الأبواب المغلقة، ملتحفات بالأسود، والرغبات السرية.
بدا لي حينها أنّ نساء المدينة مثل طيور قُصّت أجنحتهن منذ الصغر كيلا يطرن بعيدًا. كان من المستحيل في ذلك الوقت، في عائلتي، التمرّد على العادات والتقاليد. كان ثمن الشجار مع والدي باهظًا جدًا لم أكن أستطع تحمله. من ناحية أخرى، لم أستطع تخيّل ارتداء وشاح يغطي شعري الطويل الذي أحببته كثيرًا. كنت صغيرة ومليئة بالأحلام. بكيت طوال الليل، ما زلت أتذكر أصوات شقيقتيّ الكبيرتين اللتين لم يسمح لهما والدي بإكمال تعليمهما، وكان عليهما الزواج في سن صغيرة. لقد أقنعتاني لأيام بارتداء الحجاب من أجل إكمال تعليمي، لأنّ الدراسة كانت السبيل الوحيد للتخلص والتحرّر من سيطرة العائلة، المجتمع الذكوري، الوعي الناقص بالذات والهوية.
دافع والدي كان معروفًا، لم يكن رجلًا متدينًا، لكنها العادات والتقاليد التي رسمها المجتمع الأبوي، بالإضافة إلى إقامتنا في حي شعبي متدين ترتدي فيه النساء الحجاب مع كل مستلزمات إخفاء المعالم والهوية الانثوية. تلك الإقامة لم تكن لتعطيه خيارًا آخر للمواجهة، مواجهة مجتمع ذكوري متسلّط، سلطة الذكورة التي يرضخ لها كرجل. لذا كان الخيار الوحيد أمامه، بصفته رب الأسرة، إجبارنا نحن النساء على الرضوخ لتلك السلطة أيضًا.
ارتديت قطعة القماش الملونة تلك على رأسي لأكثر من ست سنوات. ورغم خفتها كنت أشعر بها بثقل صخرة سيزيف، أضعها على رأسي كلّ يوم، من الصباح حتى لحظة عودتي من المدرسة ودخولي إلى البيت. كلّ محاولاتي للتأقلم معها فشلت، كنت أشعر برغبة في التقيؤ، وإخراج ما في أحشائي، كراهيتي للحجاب تحولت من شعور نفسي إلى أزمة جسدية. كان إحساسي بأنّ الحجاب يلتف حول عنقي مثل أنشوطة للإعدام، يضيّق تنفسي، ولا أشعر بالراحة إلا بعد أن أرخيه من حول عنقي، ثم أفتح نافذة الميكرو الذي كنت أستقله كل يوم من البيت إلى المدرسة. هذا العذاب اليومي استمر كلّ يوم، كل يوم على مدار سنوات. كنت أغتنم الفرص لرميه سرًا عن رأسي، بعيدًا عن عيون والدي، الذي هدّدني أمام أخوتي البنات، أنه إن شاهدني يومًا عائدة من المدرسة بلا حجاب سوف يفصلني منها إلى غير رجعة. إحساسي الوحيد بالحرية كان داخل جدران المدرسة، كنت ما إن أقترب من باب المدرسة الخارجي حتى أتجهز لخلعه. مرّة، قال لي حارس المدرسة، ضاحكًا، إنني أسرع طالبة بخلع الحجاب. ولهذا تحوّل الشارع إلى كابوس بالنسبة لي: الشوارع والحافلات، وكل مكان كان يجب أن أرتدي فيه تلك القطعة. كنت أشعر أنني أصبح غير مرئية مع الحجاب.
أحيانًا، تُصنع معاناتنا من أبسط الأشياء، من قطعة قماش على سبيل المثال، ومهما كانت هذه القطعة جميلة وثمينة، فإنها تبقى رمزًا للألم، للإجبار. القضية كانت بالنسبة لي قضية إجبار قسري، فقدان حقك في الاختيار. أعرف كثيرات ممن اخترن ارتداءه بقناعة، وهنّ أيضًا يستحققن أن تحترم رغباتهن وقرارهن. صديقة لي كانت مع عائلتها أثناء أحداث 11 من سبتمبر/ أيلول في أميركا. وبسبب التعرّض للضغوط والعنصرية ضد المسلمين، وخاصة المحجبات، اضطرت أن تخلع حجابها لعامين هناك. قالت لي إنها كانت تشعر بأنها عارية حين تمشي في الشارع. لم أكن أتفق معها بخصوص موضوع الحجاب، ولكنني كنت أتفهم جيدًا مشاعرها بأن تفعل أمرًا هي ليست مقتنعة به، أن تخلع الحجاب خوفًا من الآخر الذي سوف يؤطرها في قالب الإرهابيين بسبب قطعة القماش التي على رأسها. إذًا، الأمر في كلتا الحالتين، ورغم تعارضهما، وجهان لشيء واحد. غياب حرية القرار.. حرية الاختيار، والإجبار القسري الذي يأتي من الآخر الذي في الغالب يكون صنيعة المجتمع الأبوي.
بعد سنوات من التحرّر من رعب الحجاب، وبعد أن أطلقت شعري بحرية، وأثناء الصراع الدائر بين المعارضة المسلحة والنظام، وحين كنّا نعبر الحواجز التابعة للمعارضة المسلحة، كنت أضطر مرّة أخرى مجبرة لارتداء الحجاب. كان الأمر بالنسبة لي بمثابة عودة للكابوس القديم، الاستلاب مرّة أخرى.
دومًا، هنالك من يريد أن يسلبك حريتك. في مناطق سيطرة النظام التي لم يكن يُفرض فيها الحجاب، كنت أشعر بنفسي أيضًا مقيّدة ومستلبة، لأن النظام كان يقيّدك بديكتاتوريته، بسحب صوتك وحقك في قول كلمة لا. قضية الحجاب ليست قضية متعلقة بدين، إنما هي منظومة فكرية، لمن يريدون أن يفرضوا سيطرتهم وآراءهم على الجميع، وخاصة النساء.
بعد أن وصلت إلى ألمانيا، قلت لنفسي "سوف أكون امرأة حرة من دون أن أضطر لأن أدفع أثمانًا مقابل حريتي". لكن الأمر كان مجرّد حرية سطحية أيضًا، أي حرية اللباس، والحجاب والحب والجنس والعمل واختيار الشريك. لكن ماذا عن حرية أن أكون أنا وداد، من دون الآراء المسبقة عني، من دون وضعي في صندوق اللاجئين الضيق، اللاجئة التي تكتب الشعر، اللاجئة التي تقص شعرها مثل الصبيان، وتضع بيرسينك في أذنها. في العمل، تعرّضت لسؤال من أين أنا؟ عشرات المرات. حين كنت أقول إنني سورية. الجواب كان دومًا "لا يبدو عليك ذلك". في مقابلة العمل، بعد أن انتهينا من جميع الإجراءات، طلبت مني الموظفة المسؤولة عن التوظيف جواز سفري. مددت لها يدي بالجواز الأزرق الخاص باللاجئين. قالت: "هل أنت لاجئة من سورية؟ لا يبدو عليك ذلك أبدًا". قالت ذلك مع ابتسامة عريضة، وكأنها تمنحني وسامًا، وليس إهانة!
إحساسي بالحرية هنا أيضًا قُيّد بتحيّزات المجتمع المسبقة عن النساء اللاجئات، وعن الكاتبات القادمات من جحيم الحرب في سورية. أنا عالقة في صندوق ليس لديّ الحق في الخروج منه، حتى ككاتبة.
ما أود قوله إنه يحق لنا جميعًا أن نكون أحرارًا، رجالًا ونساء، أحرارًا بأن نفعل ما نشاء، طالما أننا لا نؤذي غيرنا. والحرية لا تعني حرية الحجاب، أو اللباس فقط، إنها حرية الاختيار، وحرية أن نتظاهر كما تتظاهر اليوم النساء في إيران بشكل مثير للإعجاب، إنهن يثرن ضد سلطة الملالي والنظام الأبوي، إنهن يحرّرن صوتهن المستلب، صوتهن المحتل من قبل السلطة والذكورة.
ذلك الخوف، تلك الرغبة في الاستفراغ، الإحساس بالإهانة... لأنك غير قادر على قول كلمة لا، لا التي ستكلفك تعليمك، حلمك، وكل آمالك... وأحيانًا كثيرة حياتك. كلّ تلك الأسباب تجعلني اليوم وغدًا، وبعد ألف سنة، أردّد مع كلّ امرأة، سواء أكانت في إيران، أو أي مكان في هذا العالم، مع كلّ امرأة تختار التحرّر من قطعة القماش، غشاء البكارة، شريك عنيف ومتسلط، مجتمع ذكوري، تمييز جنسي، كل ما هو خضوع ورضوخ... خضوعنا لسلطة العائلة، المجتمع، الدولة والأنظمة الديكتاتورية والرأسمالية.
نحن جميعًا معًا في مواجهة طواحين التزمت والخضوع، في عالم قدميه تجرانه نحو العصور الوسطى، فيما رأسه يندفع في اتجاه ما بعد الحداثة.


*كاتبة كردية سورية مقيمة في برلين.