Print
هاشم شلولة

خمسُ قصائد على شاطئ بلا بحر

29 ديسمبر 2022
شعر

 

(1)


كلُّ المهاجِع مواقيتٌ مكانية

تنطلقُ منها ترانيمٌ أفسدها التقادُمُ

الطيورُ التي استباحَت هذا الاتِّساع؛

بفكرتها عن الحرية...

مزّقها جناحُ طائرةٍ ضالّة

 

الكلُّ هنا هو حالةُ ما تتمكن العيونُ

من إنزال لعنتها عليه

هو نقصٌ

أكملت فتنةُ الأشياءِ نقاطَه

لا كلّ إلّا الناقص

إلّا روايته للسهول من قِبل المرايا

المخدوشة بظِلالِ وجوهٍ؛

سكنت في النار منذ ألف سنة...  

 

الظواهرُ يلقِّنُها وتدٌ

درسًا في فهم الطين؛  

ليمكِّنَ نفسَه من الغرس

كخنجرٍ في خاصرة اللون الفاتح

أخضرًا كان أو أزرق...

 

فوق كلّ الاحتمالات،

وعند انتهاء هرميتها...

أُجالِسُ أصوات رفضي

أحاول ترويضها

مستعينًا بخطى عمياء

فتعترضني كفُّ باطلٍ مفاجِئةٌ،

الضواحي مدمرةٌ يا فتى

هاماتُ جبالٍ تقصدها الأحلام

حين تضيقُ علينا السراديب

كالضواحي وبقية الأسماء...

 

أحدِّقُ فيَّ كأنّي جُنحَةٌ

داخل فيلمٍ سينمائيّ

لستُ في دهشةٍ حقيقية؛

لفكرةٍ سابقة عن حقيقة ما يجري

أكلُّ الخيالات سواء

أم أنَّ الحقيقةَ وعدٌ ذاب في رمل البحر؟

 

كلّمني أيها الساحل عنّي

عن غربةٍ سقطت بعد هجرتها

في شِباكِ شاطِئك الأخير

ربما ألمسُ وحي التجربة

دون خيانةٍ للأجنحة

تفتعلها المقاصِدُ ملوية الأذرع

ربما أكملُ الساعات الأخيرةَ بتجرّّدٍ أُبكيه

كلّما التحمتُ مع الخطوب

 

بعد نداء الأسلاك المجدولة

على انسيابٍ تُناشدُه الأزمنة

تكونُ الاستفهاماتُ بشُهرةِ السيف

والبترُ مرتجِلًا في اختيار شعرائه

هل يدركُ الغيبُ مبتورًا يغني؟

يحفظُ عقلي جغرافيا منطق الإجابة

لكنَّ المَدَّ محدود

وروحَ البيدِ سيدةٌ على رأس الضحية

 

عذرٌ يغلِّقُ مداخِلَ الميناء

لا أحدٌ سيعرفُ شأن الرسالة

والسفنُ؛

تُبحِرُ نحو ما يبدو من الرؤوس

 

في الماء البعيد

بجانب الرؤوس

تبدو أطرافُ الأصابع واضحةً كالغموض

تُستدرَكُ الحاجةُ مغربًا

وتُرى هذي الجِباه من بعيدٍ

 

مشهدٌ واحدٌ قريب

هو طقسٌ مدمِّرٌ؛

يُفجِّرُ كلَّ سفينةٍ

تحملُ على مُتنها سرَّ الكلام

 

كريهةُ الرائحةِ أنفاسُ اللاوصول

تهربُ منها الأنوف

وتلفُّ الجثثُ موتَها ببساطٍ من لغةٍ

منسيةٍ على أبوابِ الصوامع والكنائس

لا مفرّ من الدنيا المُحاطةِ بالأمكنة

 

كلّي يُنكِرُ كلَّه

فالذين سطّروا الملحمة كفروا

وطوتهم ظُلمةُ القصدِ

صاروا تاريخًا قديمًا للحضور

ابتلعتهم قوادمُ الاتجاه

ومضوا إلى التجسيد للزجاج المتقدم

إلى أيدي تلوّح باستماتةٍ

لمن تغمرهم شهوة العبور

مضوا إلى أبد،

ولم يمضوا مرة.

 

(2)

 
الذين أيقظتهم فضيلةُ الأرضِ يومًا

أثناء مرورهم المتردد في المساءات

بأوجه الغارقين في أوحال اللذة،

وأوحاش الحاجة للامتلاء...

 

الذين لعنت عيونُهم ما ترى،  

وعرفوا أنَّ جميع الفضاءات متأخّرة...

هم وحدهم من قهروا كلَّ باطنٍ

سلبوا وِردَ المواعيد

من جيب النهر؛

ليسلكوا طريقًا وعرًا

سمّته طاقتُهم متجهمةُ الوجهِ

الحياةَ

 

ما الحياة بلا أسماعٍ تحتوي أيَّ غزارة في اللغات؟

 

ترجّل أحدهم من مخدعه الذي بباب مقبرةٍ؛

لم تعُد تتسع لميتٍ آخر،  

قال مندهشًا:

تُعاشُ الحياةُ بلا لغات

وبعد صمتٍ مؤنِّبٍ، قال:

ربما تُعاشُ اللغاتُ بلا حياة... ربما

ليعذُرَني سيدُ قوم فقد فطنَتَه

وغاب...

 

لم يُجِب أحدٌ على احتمالاته...

 

دلّوني أيها الأخوة على ناصية

ربما تستريحُ الكتفُ

الخاويةُ من المقاصد

 

لا وجهة لاسم المصلين

في هذا الرماد

لا عمر يكفي لانكسارات الرجال

كم كانت ظلال الأخوة في شتات!

 

القابضون على أناشيدهم

وحدهم كالقابضين على الجمر

كانوا يتركون النور

في أفنية المنازل

باحثين عمّا يغذّي هذا البراح

خبيء الرأس مرتاحًا يصول،

كانوا اشتباه النجم بنقطةٍ تائهة...

 

ها أنا أيها القصد

في لينٍ عتيق

تُبكيني فصول الرواية

كما لم يفعل أحدٌ قبل ذلك،

قبل انهمار الدم المسكون بالصور العتيقة

على أرضيةٍ تخشى الألفاظَ/

وجوهَ النساء، وأحلامَ الشقوة...

ها أنا أيها القصد

في تراتيل ذاكرةٍ

أرتعش.

 

(3)

 
في حدّة المنظر

انسيابُ الطير

حين تداخُل أجوبةٍ تبتكرها الأشجار

 

في أقدام الموصومين بالفراغ الممتلئ

انكسارُ الواحدِ مُسقطًا على اثنين

أزلان؛  

لا ثأر للمؤقتية معهما

 

في سرعة المركبات بُطءٌ عتيد

ينادي بحنجرة المعتاد،  

ويقطع النداء صوتُ الغبار

 

في المبتسم الأخير

من يرفعُ للمقاعِد يدَه

استثناءُ الأوائل

وعادية المعتدل...

 

أدواتُ التراتُبِ يقِظةٌ

كأنّها ملامحُ من ردَّ التحيةَ

 

في كنه المرئي كونٌ باطلٌ

معجزةٌ تقضُّ مضجَعَ البُطلان؛

لينتبه من يبحث عن هاجسٍ،

وربما عن كلِّ برٍّ

صار سطرًا في لغة عتيقة

 

في التذكُّر حاجةُ الجالسِ للمشي

للسفر فوق أو تحت/

خلفٌ أو أمام

الفارق الوحيد بين الجهات؛  

العدول عن الجلوس

عن شكله...

عن حالةِ الطوق الخفيّة

المحيطةِ بالجسد حين الجلوس

الجاعلة منه جالسًا

يرى كلَّ مختبئ

فيمن يمر أمامه مرورًا حرًّا

إن الحاجةَ استيقاظُ الرحمة في النفس عليها

 

تأمّلاتٌ ترجِئ رغبات القلم إلى الخلف،

وتكرِّرُ فيّ صهوةُ الجِيدِ المؤنث

صبيةٌ يحلمون، كأنّهم الذي مضى

وكأنَّ التواريخ بكُلّها تاريخ واحد

يستيقظ مرةً

ويكمل اسمَه مخمورًا.

 

(4)

 
لم يأتِ خبرٌ مفاده

أنَّ تلك الوجوه

لم تكُن معلّقةً على حائط القرار

 

كلُّ الصيحات مسجّلةٌ

والنفوسُ هي التي تجرُّ قيدَها معها

فهؤلاء وهؤلاء سطرٌ منقَّط

أعبثٌ أم حكمة؟

 

كلا النعتان يسبَحان

في بركةٍ من دم السؤال،

وأنا في زاويةِ سكينٍ عتيقة

أحلم بالانعتاق،

وأعلم أنَّ النسيم عويلُ عجرٍ عملاق

كنبيّ يسخرُ من نبيّ

وكشجرةٍ ملّتها الشمس

فمالت عنها

قاصدةً وردة جديدة

تحاول نسيان غصن؛

حملها ذات غروب...

 

مرّة أخرى

أسقطُ في لغة الآدمي

التي تحدِّدُ الأشياء

كما تحدُّ علاقةَ

الفمِ بالرغيف الناشف

إذا ما حاصر الجوع الغوايةَ...

 

كلّي سرابٌ

إذا ما وجدتُ بين الأمكنة قِماطًا

ألفُّ به جنين الشهوة؛  

لأقيه من بردِ الذوات المختلّة

التي لم تعُد لحظةً واحدةً

إلى المستحيل من التمنُّع...

من نيّةٍ عرجت لأعالي الرؤوس؛

كيّ يُفضَحَ السرّ العتيد

فتشهد خيلٌ مغيرةٌ على الفضيحة...

 

ما حلَّ بزجاجٍ لمّعته الأبديةُ إذن؟

فالسوائل التي على الأسفلت

لم يعُد لها أثر

والسيدات أكملن الطريق

تاركاتٍ ولدًا؛  

يعبثُ بأسباب الوصول

محاولًا فكَّ إعجاز الترُّدد

دون أن يغفلَ عن تمزيق صورةٍ قديمة لجسد إحداهن

والبحثِ في كل قطعة عن الندوب

عن أحرف سجّلتها الأطراف دون دم في الخلفية...

 

لأسهو في غيبِك

أنزعُ الأصلَ من كلّ رملٍ،

وأبلل الأوراد...

أصلّي؛

لأعرفَ

أين ستنتهي خطاك

ثم

أصير طينًا

إن أرادت الأشياء بي نصًّا

أو أبجدًا

أو عويل...

 

(5)

 
أتت المواقِدُ أُكُلَها

وانجرَف الترابُ

محترِفُ التماسُك

 

التخيُّلاتُ ترتدي بُرقُعًا ممزّقًا

تخبو في أدراجِها الأنفاسُ

كأنَّ المسافةَ نافذةٌ ترتجي

أسهُمَ بحرٍ اعتزل الهياج.

 

خبِّئي الليلَ يا أختاه عن بصر الشاعر

خبئيه...

فالسارياتُ بلا أعلام وقامة

الكلامُ بليدٌ،

والخاصرة تستقيم

كُلَّما بلغَ سيلَها سيفٌ

أو ميعاد...

 

صريفُ الأحاجي ارتدادُ الوضوح

حوائطُ أخرى تقذعُ رأس المصير

الصبيةُ العارفون السيدات؛

يبكون

من وجدوا في السفن النعوتِ،

وهاموا في الخُيلاءِ

دون أن يأذن بحرٌ بذلك

 

ذئابٌ فاتحةُ الأفواه

تسجِّلُ مشهدًا للسكوت

حدثَ العراءُ البنفسجي،

وتكررت آياتٌ باطلات

نُقِشَت على ظهر الجنود

 

رمى المُخلِّصون في الحِبر

سِيَرَ الأصدقاء

صار الأزرقُ مستحيلًا غامقَ البياض  

ينادي على صورٍ بريئة للغيم

الساكِنِ أعناق الشائبين

 

هي هكذا؛ مخوفة الأعمام

من ضاع أبناءُ أخيهم

من لُمَّ حُطامُهم

كما حدث مع الشتات المُستعارِ ذات قصيدة.

 

* شاعر من فلسطين.