Print
عمر شبانة

حسب الشيخ جعفر.. بين بغداد وموسكو و.. عمّان

16 أبريل 2022
سير

من شرفة آخر بيت في عمّانَ
أطلّ على وادي السّير المخضرّ
يطلّ عليّ يمام أحمرُ
أو مرج لم يُقطَف بعدُ
وصرح منفردٌ
فأقول: أيا وادي السّيرْ
يا جار غمام أو طيرْ
من يقطن صرحًا منفردًا؟
عشًّا في ظاهر مرتفع في عمّانْ؟

(من ديوان "تواطؤًا مع الزُّرقة")




للشاعر حسب الشيخ جعفر حكاية/ سرديّة خاصّة مع العاصمة الأردنية عمّان، التي جاءها في عام 1997 لائذًا ولاجئًا من الجحيمين في العراق، جحيم أميركا وجحيم صدّام، لكنه ظلّ الشّاعر صاحب التجربة المتفرّدة على غير صعيد واتّجاه. ومن عمّان نبدأ.
لقاءات وذكريات جميلة وحميمة جمعتني بصاحب "نخلة الله"، و"الطائر الخشبيّ"، و"زيارة السيدة السومرية"، وغيرها من أعمال ميّزت تجربته الشعريّة عن تجارب جيله الستينيّ الذي "تمرّغ" كثيرٌ من شعرائه في الأيديولوجيا والانتماءات الفكرية والسياسية/ الحزبيّة التي نجا هو منها، رغم سيره في ظلالها على نحو ما، وخطَّ لنفسه دربًا مختلفةً عن دروب الآخرين، كان الشعر، والشعر وحده، هو عنوانها الأبرز، إلى جانب ما أنجزه من ترجمات من الشعر الروسيّ، خصوصًا لآخر الشعراء القرويّين ـ كما أسماه ـ أي يسينين، وأخماتوفا، وغيرهما.
لقاءات أتاحتْها فرصةُ إقامة الشاعر في عمّان، في النصف الثاني من تسعينيات القرن المنصرم تحديدًا، وحتى مطالع الألفية الجديدة، وسط حضور صاخب لعدد من المبدعين العراقيّين في مجالات إبداعية شتّى. فمن كبار الشعراء العراقيين كان ثمّة البيّاتي، وسعدي يوسف، وآخرون، وفي القصّة، عبد الستّار ناصر، وفي الفن التشكيليّ كان رافع الناصريّ، وشاكر حسن آل سعيد، وغيرهما، وفي المسرح كان جواد الأسدي، وفي الهندسة المعمارية، الدكتور خالد السُّلطاني، وهكذا.
وكانت الفرصة للتعرّف عن قرب على شاعرٍ تأثّر به جيلنا الشعريّ الثمانينيّ، عن بعد، ربّما أكثر من تأثُّرنا بشعراء أشدّ حضورًا منه، أكثر من السياب والبياتي، وربّما خرج البعض من ظلاله وعاش في ظلال قصيدته "المُدوّرة" التي سحرت كثيرين، بمن فيهم شعراء كبار، فكانت بصْمتُه واضحة في كثير من التجارب الشعريّة العربيّة.
كانت عمّان ملاذًا لكثير من المبدعين العراقيّين، شعراء وفنانين تشكيليّين ومسرحيّين، وسواهم، هاربين من رعب مزدوج، رعب الحصار الأميركيّ للعراق عمومًا، ورعب حصار نظام الطاغية للمثقّفين والمبدعين العراقيّين، من جهة ثانية. وكان حسب الشيخ جعفر أحد هؤلاء. كان له منزل متواضع في كتف أحد جبال عمّان، وكانت له طاولة في أحد المقاهي "المتواضعة" أيضًا، في وسط المدينة. وكان في مقهى "الفينيق" الثقافي صحبة بعض العراقيّين. وما بين منزله ومقهاه، كانت تقوم لقاءاته مع من يشاء من المحسوبين في عالَم الثقافة والأدب والشعر، رغم تفضيله لقاءات المنزل على المقهى، كما بدا لي أيّامها، ربّما لتفضيله العزلة على الانتشار والاختلاط اللذَين بدا وكأنّه يمقتهما.


منزلٌ عامر بالحياة والشعر



وسواء تعلّق الأمر بمنزله المتواضع الذي ارتضاه لنفسه، في غرفة متواضعة، جاءت بعد مساكنة مجاميع من العراقيّين، أو بمنزل أفضل حالًا استضافته فيه "أمانة عمّان"، بسعي وتوصية من بعض الأصدقاء المثقفين والشعراء تحديدًا، فإنّ الشاعر ظلّ في كلّ أحواله راضيًا بالمدينة كملاذ موقّت من ذلك الرُّعب في العراق. كما ظلّ مختلفًا عن كلّ اللائذين بالمدينة من شعراء ومبدعين، عراقيّين خصوصًا، أمثال البيّاتي، وسعدي يوسف، وغيرهما. ظلّ قليل الاختلاط بالوسط الثقافيّ، قليل الحضور في المناسبات الثقافية، الأردنية والعراقيّة على حدّ سواء. يكتفي بقلّة من الأصدقاء والمسامرين، لكنه شديد الحذر من "الاندماج" على نحو يخشى معه أن يفقد شيئًا من خصوصيّته.
لا أذكر أن جلساته كانت موسّعة، بل كثيرًا ما كنتُ زائرَه الوحيد، نجلس وحيدَين، أو بحضور ابنه أحيانًا. هذا عدا جلساته الخاصة مع العراقيّين، سعدي يوسف، والبياتي، وغيرهما. لكنّ هذه الجلسات، الضيّقة والموسّعة نسبيًّا، تجعلك تشعر بأنّك في حضرة الشاعر، شاعر له كينونته وعالَمه الذي لا يشبهه أيّ عالَم. كان ـ آنذاك ـ قد دخل الستّينات من عُمره؛ عينان لا تزالان في رحلة البحث عن مجهول ما، وجه جعّدته السنوات، وشديد التعبير عن الاندماج في اللحظة الراهنة. يدان شبه ساكنتين. وجسدٌ شديد التوتّر مثل قوس. قد يتحدّث كثيرًا، هامسًا أو صارخًا، يرتجل إلقاء بعض مقاطع من قصيدة ما، أو حالمًا بمشروع ما، مبدِيًا الحنين إلى مكانين: العراق وموسكو. لكنّه لا يُظهر ما يغلي في أعماقه من قلق. وكلّ ما يحتاجُ إليه شيء من السكينة يتيح له الاعتكاف لشعره وتجربته التي هي كلّ شيء. شعر وحياة فقط، يحتفي بهما في تداخلهما. وقد كتب كثيرًا في هذه العزلة.
حياته "الموسكوفيّة" هي أكثر ما كان يحب الحديث عنه وفيه. انتقاله، في عام 1960، من العراق إلى موسكو. صدمة اللقاء الأوّل، والانبهار بالفارق الشاسع بين عالَمَين؛ ثم الدخول إلى العالَم الجديد، المختلف في كلّ شيء: معهد غوركي، المتاحف والمسارح والباليهات والموسيقى، المقاهي والحانات، الجامعة والصديقات. صدمة حضاريّة كان على الشاعر القروي استيعابَها، بلغتها ومعارفها وثقافتها، بمبدعيها من روائيّين وشعراء، من دوستويفسكي وماياكوفسكي حتى رسول حمزاتوف. إنها مرحلة الستّينيات في الاتّحاد السّوفياتي بأطيافه وتحوّلاته المستقبليّة. وكثير من هذه الأجواء التي عاشها الشاعر العراقيّ بكلّ ما أوتي من عفويّة ومواهب خلقت شخصيّته الجديدة. وحين يعود إلى العراق، مدجّجًا بهذا كله، سيجد نفسه "غريبًا" عن بلده، وربّما يحنّ إلى العودة إلى "موسكوفيّته"، فقد ظل مسكونًا ومسحورًا براقصات الباليه، وشعر "آخر القرويّين" يسينين، وشاعر الغجر ماياكوفسكي. يقول في إحدى قصائده "المدوّرة"، قصيدة (الرباعية الثالثة): الصواري انحنت/ مثقلات/ أقلّ اشتياقًا، فما زار غرفتك الحجرية غير الخفافيش/ يطفو على الحائط الرطب وجهك/ والضوءُ في مطعم مثقل بالثريّات غيم وراء ستائره القصبية/ في البار حطّت بنا مركبات الفضاء/ اللقالق في الشمس والصبية الجائعون وراء التلال يلمون زرقة فخارها/ القارب الذهبيّ الدفين يغادر في الليل صندوقه الضخم/ يطفو عليها/ وفخارها زرقة قدستها النساء.
وقد سبق لمؤسسة العويس أن قدّمت صورة للشاعر، من خلال "جائزة العويس"، التي جاءت في حينها منقذة الشاعر من ظروف البؤس، فقد جاء في قرار اللجنة التي منحت الشاعر الجائزة وصفها عمله بقولها "تمنح الجائزة للشاعر حسب الشيخ جعفر، وهو شاعر متميز عايش الشعر منذ منتصف الستينيات وحتى الآن، وحمل تصورًا ووعيًا راقيًا للكتابة الشعرية، وقد أسهم حسب الشيخ جعفر في قيام حركة الشعر العربي الجديد، وفي إثرائه، فقد طور القصيدة المدورة العربية بطريقة جعلتها امتدادًا للشعر العربي في عصوره السابقة، كما أعطتها جدة متميزة في النص المعاصر". وتضيف: "تمكّن حسب الشيخ جعفر بخبرته في صوغ النص الشعري في توازن لغوي وجمالي وفني من خلال الأشكال المتنوعة التي أدخلها على القصيدة. وعبر مستويات عديدة، طور فيها التقنيات الغنائية والدرامية والسردية، موظفًا المأثور الشعبي والتراث العربي".
وأخيرًا، عن بدايات الشاعر، يقول الشاعر العراقي زهرة عبد الزكي إن ديوانه "الطائر الخشبي" هو "ديوان استثنائي في مسار الشعر العربي الحديث؛ ففيه كرّس الشاعر جهده في العمل على تقنية السرد الشعري الذي تتداخل فيه العوالم والعصور والأشخاص، يتقابل الريف الجنوبي العراقي بالمدينة الروسية، وتتخاطف أشخاص التاريخ والأساطير في شوارع ومحال المدينة قبل أن تتوارى، وتحضر الاستعارات من شعر العرب القديم مع أخرى من شعر الغرب، إنها حياة يومية مرئية وسرّية للشاعر، حياته في المدينة، وذاكرته في الريف، وذهنه في عالم محايث من الثقافة والشعر والأساطير، لحظة تمتزج فيها الطبائع وتفترق، لحظة سرد شعري متلاحق تتطلب التدوير الذي يجد مبرره العضوي عبر هذا الاستخدام. وربما لن يكون عسيرًا على دارس مجتهد أن يتوقف عند صلة افترض أنها قائمة بين هذا السرد الشعري، كما قدمه التدوير، وبين تطور لاحق له في ما تعرف بـ (قصيدة النثر) بنموذجها العراقي والعربي المتأخر".